وماذا بعد إدانة ترامب ولوبن؟/ أكرم البني
مطالبة دونالد ترامب بمنع المسلمين من دخول أميركا بحجة مكافحة الإرهاب، ودعوة مارين لوبن إلى طردهم لحماية التركيبة الديموغرافية في فرنسا، ثم تحذيرات الرئيس التشيخي ميلوس زيمان من غزو المهاجرين المسلمين المنظّم لأوروبا، وقبلها مطالبة رئيسة وزراء أستراليا، جوليا جيلارد، المتعصبين للشريعة الإسلامية ممن لا يتكيفون مع التقاليد الغربية بمغادرة أراضي البلاد… هي تصريحات تتكرر وتنذر بأخطار جدية على موقع المسلمين وسوية تواصلهم مع الحضارة العالمية والثقافات الإنسانية!.
وإذ تعتبر الإدانة الشديدة لهذه التصريحات واجبة وفاتحة لتأكيد احترام حرية الاعتقاد بما يكفل تعايش مليارات البشر اختلفت عقائدهم وأديانهم، لكنها لن تجدي نفعاً للحد من ظاهرة نبذ المسلمين في الغرب، والتي انتقلت من اندفاعات محدودة إلى حيّز المسؤولية السياسية والهم الشعبي العام، في مرحلة بات الإسلام فيها متهماً، على خلفية أعمال إرهابية تقوم بها جماعات متطرفة، تلبس لبوس الإسلام، وتلحق الأذى بالمجتمعات الأخرى.
وأيضاً، لن يجدي نفعاً إلقاء اللوم على الآخرين وتبرئة الذات، مرة بتحميل أعداء العرب والصهيونية المسؤولية، ومرة ثانية بتكرار القول إن الدين الإسلامي دين سلام ويرفض العنف والإرهاب ولا تمثله التنظيمات الجهادية كـ «داعش» و «القاعدة» و «بوكو حرام»، التي تختطفه وتشوّه صورته، ومرة ثالثة بالاختباء وراء تعبير الإسلاموفوبيا، وإهمال الارتدادات النفسية والاجتماعية التي تخلفها العمليات الإرهابية ضد المدنيين في الغرب ومشاهد الذبح والصلب والحرق المروعة!.
والجدوى لا تتأتى من رفض المسلمين العنف والإرهاب ورذل أدواته، وإنما أساساً من أداء واجبهم في التعريف بدينهم الصحيح المنسجم مع الحضارة العالمية، كمهمة باتت حيوية للرد على الآثار السلبية التي يخلفها المتاجرون به، وأيضاً لتمكينه من التفاعل مع تطور الثقافات الإنسانية على أساس من الصراحة والثقة لا الغموض والتمويه، ما يساعد على رسم المسافات الصحيحة بين الأديان وخلق المناخ الصحي لتكريس الاحترام المتبادل، والأهم سوق براهين وأمثلة تاريخية تدعم سماحة الإسلام واعتداله وتدحض البراهين والأمثلة التي يسوقها المتطرفون لدعم خيارهم العنفي! الأمر الذي يحتاج إلى جهد مثابر لا يتوقف عند النشاطات الموسمية التي تحركها الأزمات كما كانت حال موجة الحوار والتفاعل مع الغرب التي نهضت بعد الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم، وما لبثت أن انحسرت بعد أن هدأت العاصفة.
ثم ألا يزيد في عزمنا للتعريف بالدين الإسلامي بصورته الإيجابية والتفاعلية، حين يخلص استطلاع للرأي في بريطانيا إلى أن واحداً من كل خمسة بريطانيين مسلمين يتعاطف مع الإرهاب! أو حين يتكرر العتب المشروع عن تقصير المسلمين ميدانياً في دعم حق الحياة ومناهضة العنف، طالما تندر مبادراتهم لتوقيع عرائض مثلاً أو القيام بتجمعات وتظاهرات تدين الإرهاب، بينما يبادر ألوف الأوروبيين لتسيير الحشود، فور كل عملية إرهابية، للتفريق بين الإرهاب والإسلام ولحماية حقوق المسلمين في الغرب!.
ولتحقيق مزيد من الجدوى، لا بد أن يترافق التعريف بالإسلام وقيمه السامية مع جهد داخلي لتصحيح ما يحمله المسلمون أنفسهم من أفكار مشوّهة ومغلوطة عن دينهم، وتالياً لإنتاج حضور جديد للإسلام يتناسب وروح العصر ويلبي متطلبات الواقع وحاجاته حتى لو اقتضى الأمر إنزياحاً معرفياً ومسلكياً عن تقاليد تبدو راسخة، وعمّا يعتبره البعض موروثاً مقدساً.
والقصد أنه لا بد من التأسيس، ربطاً بقوة المعاني الدينية ونفوذها في حياة الناس، لثقافة تنطلق من الإيمان بنسبية المعارف والاجتهادات، وبحقوق البشر في الاختيار والمساءلة، يحدوها إشهار وظيفة الدين الإنسانية وتكريمه بإبعاده من دنس السياسة وآثامها، والمعادلة بسيطة: كلما شهدت الثقافة تقدماً في تطوير الفكر الديني وتحريره من النقل والتقليد والانغلاق، زاد الرهان على حصول تحولات موازية تطاول الوعي العام وقواعد التفكير والسلوك، وتقلّصت تالياً البيئة الحاضنة للتنظيمات الجهادية!.
ألا يصح أن نغمز من هذه القناة، إلى ضرورة تغيير النظرة إلى التاريخ الإسلامي، وإعادة قراءته نقدياً، بإبراز جوانبه الإنسانية والحضارية وإزالة ما يكتنفه من مبالغات تتغنى بالغزوات والانتصارات؟! وأليس من الضروري اليوم تعديل المناهج الدراسية وأساليب تعليم الدين التي لا تزال تحرّض على كره الديانات الأخرى وتأمر بالحرب ضد المشركين وقتال المخالفين؟! ولمَ لا نتمعّن جيداً بالآثار السلبية في صورة الإسلام والمسلمين التي تخلّفها صراعاتنا البينية الدموية نتيجة اختلاف المذاهب والأديان، كالصراع المزمن بين الشيعة والسنة؟!.
ثمة مسألة ينبغي التوقف عندها أيضاً بعد إدانة تصريحات ترامب ولوبن، هي فضح محاولات توظيف هذه الإساءات لتأجيج الصراعات الطائفية المتوترة أصلاً، إما لفائدة سياسية وإما لمنفعة زعامات دينية، الأمر الذي يولد خوفاً مشروعاً من تسويغ مناخات حروب، يكون البشر وقودها، ويكون غرضها إشغال شعوبنا المنكوبة بصراعات هامشية تزيد من الآلام والضحايا المجانية.
التطرف يولّد التطرف وسير الأمور على هذا المنوال سيغذي القوى المتشدّدة ويسوغ تشدّدها، مغذياً مفهوم صراع الحضارات وتصنيف العالم إلى ثقافات متناقضة ومنفصلة، مشحونة بتعارض المصالح لا بفريضة التعايش والتكافل، ومثلما يصور التطرف الإسلاموي إرهابه بأنه يقتصّ من الكفار المرتدين، يعتبر المتعصب الغربي، بالعقلية ذاتها، معاركه أشبه بحروب مصيرية غرضها تطهير العالم من شر الآخر المختلف، والغرض تغطية صراعات سياسية تقف وراءها مصالح بغيضة وحسابات الهيمنة والاستئثار بالثروات.
أخيراً، ثمة من يسوغ ما يجري من عنف وإرهاب على أساس المظلومية التي يعاني منها العرب والمسلمون وكرد مشروع على ديكتاتوريات ظالمة وسياسات غربية جائرة. لكن، هل تنجح الجماعة في رد المظالم، قومية أم دينية، والانتصار لحقوقها، إن غرقت في خصوصيتها ولجأت إلى الإرهاب ومنطق الثأر والانتقام، وإن لم تتنطّح للدفاع عن التنوع والتعددية، وعن مجتمعات معافاة، وتحترم العدل والمساواة بين الناس من دون تمييز، وتتشارك القيم الإنسانية التي تجمع عليها كل الأديان؟!.
* كاتب سوري
الحياة