صفحات مميزةعمر قدور

وماذا لو قلنا إنها حرب أهلية؟/ عمر قدور

تتعامل دوائر صنع القرار الغربية مع الثورة السورية بوصفها حرباً أهلية طائفية، وكذلك يفعل النظام وحلفائه عندما يصوّرون حربهم على أنها ضد “إرهابيين تكفيريين”، مع إلصاق هذه التهمة بالسنّة عموماً، واعتبار الثورة من أساسها حركة طائفية موجّهة ضد نظام علوي. فحوى خطاب النظام الإعلامي كان منذ البداية يركّز على الطابع الطائفي للصراع، لنفي الطابع الوطني عن الثورة، ولم يبالِ جدياً حتى بفئات من مؤيديه ضمن الطائفة السنية ليمنح لنفسه بعداً وطنياً، لكنه على الصعيد الرسمي ينفي ذلك ليحافظ على ادّعائه بأحقيته بحكم البلاد من دون منازع أو شريك.

المعارضة السورية والمنخرطون في صفوف الثورة، سعوا بدورهم دائماً إلى إنكار ما يروّجه النظام عن طائفية الثورة، ورُفعت من دون جدوى لافتات وشعارات تتغنى بالوحدة الوطنية. غير أن الوحدة الوطنية لم تتحقق فعلاً ولم تسرْ في هذا الاتجاه، ويمكن وصف الانقسامات إزاء الثورة بأنها انقسامات مجتمعية راسخة، بما أنها بقيت مبنية في أغلبها على نوازع الشك بين مكونات المجتمع السوري المذهبية أو الإثنية. ففي مثل هذه الحالات، وحيث لا يُتوقع أن يتخلى الناس عن ولاءاتهم الطائفية أو العرقية بسهولة، وحيث أن الانتماء السياسي يندغم في العصبية الأولى، ليس متوقعاً أيضاً أن يتغير المزاج السياسي مع المتغيرات والظروف. هذا يسهّل فهم استيعاب شرائح كبيرة جداً من المصطفّين مع النظام لجرائم الإبادة التي يرتكبها، فهي جرائم تقع في حقّ الآخر المختلف جوهرياً وهوياتياً لا سياسياً فحسب. لندع هنا جانب الافتراضات المبنية على تخوفات أقلوية وحدها لأنها لا تشرح حجم الحماسة أو التهليل للمجازر، ولأنها أيضاً تنافي التخوفات الأقلوية المزعومة من حيث تعزيزها لاحتمال الثارات المتبادلة، إن لم يكن الآن ففي المستقبل؛ أي أن الحماسة للإبادة ينافي العقلانية المتوقعة في المخاوف الأقلية أو في الخوف عموماً.

من جهة أخرى، وعلى قلتها النسبية، قامت كتائب مسلحة مناهضة للنظام بأعمال عنف لا يمكن إدراجها إلا ضمن أعمال العنف الطائفي، أما الخطاب الطائفي اللفظي فكان ينتعش إثر كل مذبحة يُهلل لها أنصار النظام، ويحتفلون بها علانية. وليست مواسم الكراهية المتبادلة هذه بلا أثر عميق على الجانبين. ومثلما لا يجوز البناء كلياً على مظاهر الأزمة، وفي المقدمة منها الوعي المأزوم، لا يجوز أيضاً إغفال هذه المظاهر كلياً واعتبارها شأناً طارئاً تماماً، ما دامت أحداث السنتين والنصف الأخيرتين قد أثبتت رسوخ الاصطفافات، وعدم قابلية أطراف الصراع لاجتراح حلول معقولة ومقبولة من جميع الفرقاء. جدير بالذكر أن الأمر لا يتوقف على الانقسام المذهبي، إذ ليست نادرة مواسم الكراهية والانقسام على أساس إثني، الأمر الذي تكرر مراراً بين العرب والكرد.

الثورة، في واحد من تعريفاتها، هي حرب أهلية. في الحالة السورية المركبة سيكون من الصعب نفي الطابع الطائفي أو الإثني عن الصراع، لأن المجتمع السوري طوال حكم البعث لم ينتظم على أسس سياسية ومجتمعية حديثة، ولم يكن الحجم المتواضع من الاندماج الذي سمح به حكم البعث ليصل إلى حدّ يتجاوز العصبيات الأولى، بل إن النظام الحالي سعى جاهداً إلى استنفار العصبيات المذهبية وسواها على أنها الضمانة الأبقى ليظل السوريون خارج السياسة ودونها. يتحرج الكثير من السوريين من الإقرار بنجاح النظام على هذا الصعيد، وقسم منهم يعترف بنجاحه ويقلل من أهميته في الوقت نفسه، لكن تبخيس هذه الخلاصة حقها لا يفيد في شرح الوقائع الحالية، مثلما لا يفيد التركيز على المخاوف الأقلوية سوى في صرف الانتباه إلى وجه واحد من وجوه الواقع. أيضاً القول بأن استبداد النظام عمّ جميع السوريين من دون استثناء، وهو قول محقّ، لا يشرح آلية استقطابه المعممة لفئات محددة ليست بالضرورة الأكثر انتفاعاً من مكاسب السلطة.

في الواقع ليس جديداً تماماً أن تلتبس الأحزاب السياسية السورية بالعصبيات التي تنتمي إلى ما قبل مفهوم السياسة المعاصر، وفيما عدا الأحزاب الكردية المؤسسة القائمة أصلاً على أسس إثنية، وجماعة الإخوان المسلمين القائمة على أيديولوجيا مذهبية واضحة من المعلوم أن الأحزاب الأخرى لم تخلُ من التحزبات العصبية ضمناً، فتحت شعارات العروبة كنا نجد حزباً لا يضمّ في غالبيته الساحقة سوى مسلمين سنّة، وتحت شعارات الأممية نجد حزباً غالبيته المؤثرة من الكرد، وتحت شعارات الماركسية أيضاً نجد حزباً غالبيته من الدروز. هكذا كان حال التجربة الحزبية طوال عقود، مع أن أصحابها جهدوا في حينه لنفي ذلك الطابع عنها، مثلما تجهد بقاياهم الآن لنفي الانقسامات العصبوية في المجتمع ككل.

في الحالة السورية ليس مستبعداً أن يكون إنكار الانقسامات المجتمعية مدخلاً للهيمنة أو الاستئثار، على الأقل هذا هو دأب النظام الذي من خلال إنكاره الرسمي يسعى إلى الاستئثار المستدام بالسلطة تحت يافطة الوحدة الوطنية، بينما خطابه الإعلامي والفعلي يواظب تمزيق كل إطار وطني. تخطئ المعارضة إذ تعيد إنتاج الخطاب الوطني العمومي نفسه، فهو لن يُفهم من قبل الكثيرين إلا على أنه أيضاً مدخل إلى الاستئثار بالسلطة تحت يافطة صندوق الاقتراع الذي قد يهمش الأقليات. أي أن إنكار المعارضة للانقسامات على منوال النظام سيعيد إنتاج “التقية” السياسية التي كان معمولاً بها من قبل، والتي تحرّم خروج الانقسام إلى الحيز السياسي العام والمكشوف. اعتراف المعارضة بواقع الحال لا يعني تكريسه أو اعتباره نهائياً، ولا يعني أيضاً إغفال المستوى المتواضع من الاندماج بين مكونات المجتمع السوري، بل ينبغي أن يعني أولاً البحث عن صيغة أفضل لتجنب الصراعات الأهلية مستقبلاً، وفتح الباب أمام الصراعات السياسية الفعلية.

أما على الصعيد السياسي الخارجي، فقد لا يكون صائباً الإصرار على نفي البعد الأهلي عن الصراع في سوريا، والإصرار على أنها ثورة عامة ضدّ حكم مستبد وحسب، بخاصة مع إلحاح المجتمع الدولي على مسألة حماية الأقليات في سوريا. ربما لم يعد معيباً القول بأن الأكثرية المذهبية في سوريا لا تريد بقاء النظام الحالي بأي شكل، فالضمانات التي تُطلب من الأكثرية مبنية أصلاً على هذا التصور الذي لا يجافي الواقع، لا يخدش منه تحالف الضرورة بين النظام والأقليات. وقد يكون من الأفضل حشر النظام في هذه الزاوية بدل الادّعاءات الوطنية التي يستهلكها في المناورة السياسية، وهو أي النظام لا يحتاج ذريعة لوصم المعارضة بالطائفية، وقد فعل منذ بدء الثورة، أي أن المعارضة لن تخسر شيئاً في مثل هذا الجدل، فهي على كل حال لن تكسب من أنصار النظام الذين لن يتزحزحوا عن مناصرته ويتصيدون أي كلمة أو سلوك يصدران عن المعارضة لتبرير جرائمه ليس إلا، وإذا انعدمت الذرائع اختلقوها اختلاقاً.

ثم إن دفع الجدل إلى هذه العتبة يحشر الجميع أمام استحقاقات فكرية أو سياسية يتم تمييعها لمصلحة النظام، ففي جدل من هذا القبيل لا ضمانة بأن يقبل من يدّعي النظام تمثيلهم بأن يبقى ممثلهم مستقبلاً، وسيكون من حق تلك القوى أن تختار ممثليها الحقيقيين، إن ارتأت المضي في استقلالية تمثيلها. لا ننسى أن الغاية من هذه المكاشفة والمواجهة هي إلغاء الفجوة الشاسعة بين الادّعاءات والسلوكيات، وفتح المجال أمام اختبار ما يريده السوريون حقاً، فإذا كانوا الآن موزعين بين من يرى ما يحدث ثورة شعبية، ومن يراها ثورة طائفية، في الوقت الذي يراها فيه الكثيرون من الجانبين بوصفها حرباً أهلية طائفية، فمن الأفضل الإقرار بما تتفق عليه الغالبية ضمناً، وقد تكون الأهداف الأولى الجامعة للثورة بمثابة دليل للمستقبل إن اتفق الجميع عليها، لكنها ليست كذلك الآن في ظل الانقسام الحالي.

قد تصدم المخاطرة أولئك الذين شربوا من مياه النظام نفسها، والكثير منهم يدّعي التعفف عن ملاحظة الجانب الأهلي من الصراع؛ ذلك ليس بريئاً أبداً لأنه يروم إطالة أمد النظام تحت شعارات مختلفة. على الأقل لا يرى أنصار تجاهل الانقسام المجتمعي في المجتمع سوى أداة طيعة تعجنها السلطة كما تشاء، ويراهنون بسوء نية غالباً على انصياع المجتمع، وفق آليات قمع متكاملة، تقوم أولاً على إنكار سلبياته لتصل في النهاية إلى إنكاره هو. المجتمع السوري كغيره ليس بريئاً من العيوب والنواقص كما يروّج البعض، وليس قاصراً كما يروّج البعض الآخر؛ هو مجتمع يستحق أن يعترف بنواقصه وأن يتجاوزها بنفسه.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى