صفحات المستقبل

وهذه هويتي/ لما الخضراء – كمال جمال بك

في غمرة انسداد الأفق – منذ علقت العربة السورية في أوحال السياسات الدولية – غابت عن وجه محطات الإعلام بيانات الانشقاق المتتالية لضباط وقضاة وإعلاميين وأطباء ومدرسين , بعدما شكَّلت لفترة طويلة أحد علامات دنوّ أجل النظام , وميَّزت مرحلة هلَّل فيها أبناء الثورة لكل ظهور مشرّف ومدوّ يحمل عنوان ” وهذه هويتي “..

وبدأت هذه الظاهرة بالانحسار والاضمحلال حتى بلغت حدَّ التلاشي … لكنَّ هذا لم يعكس بلوغ النظام والمعارضة حالة من التوازن الاستراتيجي الراهن ، بقدر ما عكس تشابكات شدَّت “حالة الانشقاق” إلى رباط من الجمود, وكبلت بخيوطها أي محاولة للقفز بين كفتي الميزان..

ولم تفلح كثافة المجازر بحق الثورة في التخفيف من وتيرة الانشقاقات عن النظام , بينما لاحت بوادرغيابها منذ تشققت في الأفق ملامح الثورة السلمية ( بما تعكسه من مطالب في دولة مدنية ديمقراطية تتَّسع لجميع أبنائها ) , وتعمَّقت منذ قصرت أعناق الرايات الوطنية التي ميزت وجه المظاهرات , لصالح الرايات السوداء التي صارت تلوح كأشرعة غير منتظرة تبحر بالثورة الى غير شاطئها , فما عاد يعلو صوت فوق هدير طائرات النظام في المناطق التي ما زالت تحت سيطرته , ولا فوق أزيز رصاص داعش وأخواتها في المناطق التي باتت تحت سيطرتها , وقد أقامت عليها الحدَّ سريعا بعد أيام من الحرية بين سيطرتين ..

وبين نارين إجباريتين صار السوريون ينحشرون في مسافة تضيق حتى قاربت انعدام القدرة على الاختيار بين طرفي معادلة لايمثل كلاهما بأي وجه ذاك الميل السوري نحو الهتاف الأول الواضح البسيط للعيش شعبا في وطن ” واحد واحد واحد ” وليس ” لواحد وواحد وواحد…” إلى ما لانهاية الأرقام والخيارات المُرَّة..

ووسط هذه الهوامش الضيقة صار الشعار الأوسع انتشارا ” لا أحد يمثلنا ” ملاذا أخيرا ينضوي تحته الجمع بمعظمه , متفيِّئا بمظلَّة النأي بالنفس – حتى عن إعلان موقف ينحاز للأبرياء وإن على ضفاف برك الدم – يمضغ الحنين للخيار الوطني الذي كان يوما على هيئة مشروع جامع , فذاب في أحماض الفئوية والمشاريع الإقليمية والدولية ..

ومع دخول الساحة في دوامات سلاح وسلاح مضاد يرصُّ كلاهما الشعب بين حدَّين , ارتفعت لدى البعض وتيرة الشك في مآلات الثورة وجدواها , بينما غلب سوء الظن على البعض حتى في غايات انطلاقها , فما عاد في إشهار الهوية – رفضا لممارسات النظام – لدى هؤلاء , ذاك الطعم في توجيه صفعة للسلطة أو المعنى الذي قد يؤدي بالثورة نحو الخلاص ..

لكنَّ ما يبدو العنصر الأخطر في هذه المعادلة – وهو ما ساهم أيضا في خفض وتيرة الانشقاق حتى بلغ حدَّ انعدامه – لا يكمن في غياب أسماء جديدة أو شخصيات تعلن انحيازها للشعب في معركته من أجل الحرية فحسب , بقدر غياب أسماء وتغييب أدوار من انشقوا عن النظام من مختلف تلك المؤسسات خلال الأعوام الماضية ..

وقد يكمن مفتاح اللغز أو شيئ من سره في وقوع المعارضة – عارفة أو جاهلة – في بركة أخطاء النظام الذي غيَّب – تاريخيا – ما عجز عن تذويبه من الأسماء الكبيرة في سوريا وراء شاشته الرئاسية .. وعلى النول ذاته حاكت المعارضة سيرة تغييب وتشتيت أصوات الآلاف ممن انحازوا إلى الثورة عبر تضييع بعضهم في دكاكين صغيرة تعمل لحساب أجندات أو جهات .. واقصاء أصحاب الأحلام بالتغيير من الرافضين للأجندات في متاهات الغربة وقد أحكموا الطوق المعاشي حول رقابهم , وتضييع بعضهم الآخر في طرق عنكبوتية للبحث عن مسارات لانجاز مشاريع لا تتحقق.. وبهذا تحول الفريق الأكبر من المنشقين عن الطريق الرئيسي الذي أخرجهم من الوطن حاملين حلماً , ليهرولوا إجباريا على درب الخلاص الفردي ..

ومن بين آلاف الذين أعلنوا انشقاقهم من مختلف الاختصاصات يتكدَّس عشرات الإعلاميين – مثالاً- في عواصم اللجوء من دون أن ينظمهم عمل مؤسساتي ، فلا تراهم ينتظمون إلا في طوابير تقسمهم إلى طالبين لفرصة عمل ولو في مشروع صغير ، أو باحثين عن لقمة عيش تقيهم ذل الغربة ، أومتفرغين – بفعل العطالة عن الأمل بالعمل – إلى ناشطين على صفحات الفيس بوك .. مع أن أيَّا منهم لم يترك وطنه وعمله حبَّاً بالانتظام في تلك الطوابير بقدر ما كان صاحب حلم في نقل صوت الناس وسط كل محاولات التعمية والتشويش الإعلامي وخلط الأوراق التي مارسها النظام منذ بدايات الثورة ..

وجاء انشقاق الإعلاميين – نموذجا – لخلق خيار ثالث يعطي الثورة حقها في أن لا تظل محكومة بالوقوف أمام إحدى مرآتين , يُطلُّ الحراك الثوري في أولاهما عبر وسائل إعلام “حر” له حساباته الخبرية التي تتبدل وفق رياح الأجندات الدولية ، وفي الثانية يبدو عبر إعلام سوري غير رسمي التزم وتجنّد لتغطية أخبار الثورة إلا أنه ظلَّ في كثير من الأحيان يفتقر للمهنية ، وفي بعضها أصيب بعدوى أمراض إعلام النظام …

لكنَّ كل الأحلام الكبيرة بعمل إعلامي مؤسساتي للثورة , تكسرت على صخور التمويل والتسويف والتعطيل والتأجيل , لتتحول إلى شكل من الترف المنسي الفائض لايلتفت إليه أحد وسط زحمة الدم السوري ..

ولا يبدو هذا حال الإعلاميين المنشقين وحدهم بقدر ما يعكس حال مختلف الفئات التي انشقت عن مؤسسات النظام فباتت تتكدَّس مُضيَّعة بلا جدوى في عواصم اللجوء ..

وعلى أرض الوطن لم نعد نشهد بيانات الانشقاقات المتلاحقة عن مؤسسات النظام بحثاً عن هوية سورية وطنية جامعة ، بل بتنا نتابع حالات التشظي عبر أخبار انشقاقات داخل صفوف المعارضة المسلحة ، من دون أن يحمل أي منها عنوان” وهذه هويتي” ..

وفي هذه اللحظة السورية الحالكة بتنا نقارب حدَّ السؤال .. هل تاهت الهوية فينا حتى صار الوطن موضع شك !!..

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى