صفحات سوريةعمر قدور

ويحدّثونك عن الفتنة!/ عمر قدور

 

 

يكفي أن يتطرق عربي بالنقد لوحدات الحماية الشعبية “الكردية” حتى يُتهم على نطاق واسع بأنه إما بعثي أو داعشي، أو الاثنين معاً. يكفي في المقابل أن يتحدث كردي عن حق الأكراد في تقرير مصيرهم حتى يُتهم بالانفصالية، وكأن الرغبة في الاستقلال تهمة شائنة حقاً، إذا لم يُتهم بالخيانة من دون أن يوضح مُطلق التهمة كيف يستقيم إطلاقها على من لا يعدّ نفسه أصلاً من ضمن الكيان السوري الذي يراه مفروضاً عليه بقوى خارجية وداخلية. كان يكفي مثلاً أن يكتب ياسين الحاج صالح على صفحته في فايسبوك أنه لم يسمع بالتسمية الكردية لتل أبيض إلا في السنتين الأخيرتين، وهو ابن المنطقة، كي يتلقى شتائم لا تنضب من مثقفين أكراد. وكان يكفي أن يشير إلى تجاوزات منسوبة إلى وحدات الحماية الكردية في مقال له كي يتهمه البعض منهم بأنه من حرّض داعش على ارتكاب مجزرتها الفظيعة في كوباني! في المقابل، ثمة أصوات عربية لم تخفِ شماتتها الوضيعة مما حل بأكراد كوباني، وقد تكون الأصوات ذاتها التي تولول عندما يستهدف داعش العرب، وقد تكون الأصوات ذاتها أيضاً التي تتهم داعش بالعمالة للنظام.

في مقابل الطرفين، هناك أصوات عربية وكردية انطلقت لتحذر من الفتنة بين الجانبين، ونالت حظها أيضاً من هجوم صقورهما، على النحو الذي تعرض له بعض من وقعوا على بيان معنون بـ”سورية للجميع وفوق الجميع”. فالبيان الذي أُريد له أن يكون توافقياً بعيدا عن الجو المحتقن السائد حالياً، ويمكن النيل منه لبعده أيضاً عن مجريات الأمور التي أوصلت الحال إلى ما وصل إليه، من دون الطعن مطلقاً بالنوايا الطيبة الصادقة لأصحابه، مع أن الحال لا يخلو كعادة البيانات عندنا من أن يأخذ كل جانب موقع عليه ما يناسبه ويعدّه مكسباً سياسياً له ثم يهمل بقية البنود التي وافق عليها محرجاً.

يزعم كاتب هذه السطور أن الاحتقان الحالي ليس فتنة تشبه الاحتقان الموجود بين جماعات سورية أخرى، وأنه ليس على الغرار نفسه تفاقم في السنوات الأربع الأخيرة. فما يجوز رده جزئياً في الاحتقانات الطائفية إلى الصراع الحالي وإلى “وعي الأزمة” لا يصحّ رده في الحالة الكردية إلى الأسباب ذاتها. على الأقل، لدينا حالة سياسية كردية منتظمة منذ عقود طويلة على أساس قومي واضح، ومن الدجل الثقافي ردها فقط إلى ممارسات حكم البعث في حق الأكراد، حتى إذا تقاسم هذه المزاعم عرب وأكراد. ثم إن هذا الزعم لا يستقيم مع التطلعات الكردية إلى الاستقلال أو شبه الاستقلال، ولا يستقيم مع سلوك سلطة الأمر الواقع الكردية الحالية التي تجاهر بعدائها لمعظم قوى المعارضة تحت ذريعة تعاون الأخيرة مع الحكومة التركية، بينما لم يتورع رأس هذه السلطة “صالح مسلم” في تصريحات أثناء جولة أوروبية سابقة له عن تبرئة النظام حتى من استخدام السلاح الكيماوي ضد سوريين آخرين.

الناطق باسم وحدات الحماية الكردية “ريدور خليل” نفى مؤخراً وجود تحالف بين قواته وقوات النظام لمواجهة داعش في مدينة الحسكة قائلاً إن ذلك يستلزم اتفاقاً سياسياً مع الإدارة المحلية في الجزيرة “وأنه لا يمكن التحالف مع أي جهة لا تعترف بحقوق الأكراد السياسية والقومية”. الناطق إذاً لم يستبعد التحالف لأن النظام نفسه اضطهد الأكراد عبر عقود، ولم يستبعده لارتكابه جرائم الإبادة الجماعية في حق بقية السوريين، بيت القصيد هنا أن حقوق الأكراد هي فوق أي اعتبار. ولعل تصريحات ريدور خليل هي الأصدق تعبيراً عما صار مهيمناً في الأوساط الكردية، بعد تولي وحدات الحماية نفسها أمر قمع المظاهرات الكردية المناوئة للنظام، واعتقالها عدداً كبيراً من الناشطين الأكراد وإطلاقها الرصاص الحي الذي أودى بحياة البعض منهم. جدير بالذكر هنا أن جريدة الوطن المقربة من النظام كشفت قبل مدة قصيرة بالتفاصيل عن الأسلحة والذخائر التي سلمتها قوات النظام لوحدات الحماية الكردية، وأن سجلات وزارة نفط النظام تحتفظ بعقود مع الوحدات نفسها لقيامها بحراسة آبار النفط من هجوم المعارضة لقاء مبالغ مجزية، ذلك قبل مجيء داعش واقتسام السيطرة على الآبار.

لكن المعطيات الأخيرة لا ينبغي أخذها حجة على الأكراد، لا لأن كل تلك الممارسات منسوبة لطرف سياسي وعسكري فقط، وإنما لأن القاعدة التي تبدو مهيمنة على الأداء السياسي الكردي هي: نيل الحقوق من نظام يتهاوى أسهل من نيلها من حكم لم تتحدد هويته بعد، وما يمكن أخذه مباشرة أضمن من الوعود التي يصعب الجزم بمصداقيتها. اعتماد هذه القاعدة لا يبرئ المعارضة السورية من سوء أدائها في ما يخص القضية الكردية، وهي التهمة الموجهة إليها في ما يخص القضية السورية عموماً، ولا يبرئ الموتورين العرب من شبهات العنصرية، إلا أنه أيضاً يدلل على المسار الممنهج لسلطة الأمر الواقع الكردية، والذي لا يتوقف عند تلك الاعتبارات طالما أنه يرى القضية الكردية بمعزل تام عن قضية عموم السوريين. إننا هنا أمام تنظيم لا يخفى أصله التركي، وتنبغي الإشارة إلى أن عداءه للحكم التركي يفوق عداءه للنظام البعثي، وهو عداء معمم بدلالة ما يقارب عشرة آلاف كردي سوري ضحوا بأرواحهم انتصاراً لأكراد تركيا في الوقت الذي كان فيه حزبهم على علاقة شديدة الود مع النظام السوري. مع ذلك لا يعتمد هذا التنظيم الحل الذي يعتمده التنظيم الأم في تركيا، أي الحل الديمقراطي العام الذي تجلى بتقدم “حزب الشعوب الديمقراطية” في الانتخابات التركية الأخيرة، بل يتوجه إلى حل على نموذج “دولة” كردستان العراق.

لا توجد فتنة بين عرب سوريا وأكرادها، بالأحرى هناك افتراق سياسي بين الطرفين وغياب لأي مشروع مشترك بينهما حالياً، ومن المستبعد بروز مثل هذا المشروع في الظروف الحالية أو حتى في المستقبل المنظور. المسألة لا تتوقف على الانفصال أو عدمه فحسب، بل ستتوقف على الطريقة التي ينظر فيها الطرفان إلى تجاورهما وتداخلهما في حيز جغرافي مشترك انفصالاً أو اتصالاً. وإذا كانت “اليد العربية” هي الطولى في ما سبق فذلك أصبح من الماضي مع الصعود الكردي المدعوم من التحالف الدولي ويحظى بمباركة من نظام ينهار. أغلب الظن أن ما يسميه البعض فتنة سيبقى قائماً حتى يتخلص الأكراد من إحساسهم بالمظلومية، وحتى يتخلى العرب عما يعتبرونه أحقية غير قابلة للمساومة بسوريا. مع الأسف هذا لن يحدث في الأمد المنظور، وما سيحدث ستمليه قوى خارجية أقوى من الطرفين.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى