صفحات سوريةعمر قدور

ويحدّثونك عن اليوم التالي لإسقاط النظام!


عمر قدور

حظيت «مرحلة ما بعد الأسد» باهتمام قلّ أن تواجهه ثورة وهي في سبيلها إلى إسقاط نظام. وعلى الضد مما تدعيه أطراف «صديقة» للشعب السوري، فإن هذه الصداقة لم تبلغ حقاً حد الثقة بالسوريين وخياراتهم الديموقراطية بعد إسقاط النظام؛ ذلك ما لمح إليه، أو صرّح به، العديد من المسؤولين الدوليين كتسويغ لعدم دعم الثورة، والبقاء عند عتبة الضغط غير المباشر، الذي لم يثبت جدوى كبيرة في زعزعة بنية الزمرة الحاكمة.

«اليوم التالي لإسقاط النظام»؛ هذه التسمية باتت معتمدة في محافل دولية تعمل على ترتيب الواقع السوري القادم، أو تقيم دورات «تأهيل» لبعض السوريين في مجالات الإدارة. هي أيضاً التسمية المهذبة التي بات أعداء الثورة يستخدمونها للتشكيك في قدرة السوريين على إدارة شؤونهم بأنفسهم، أو التركيز على اتجاهات محددة في الثورة السورية لتسويقها على أنها البديل المرعب للنظام. التساؤل عن اليوم التالي يبدو هو المفتاح السحري أيضاً لكل من يعادي الثورة، سواء جهر بعدائه لها أو لم يفعل، ولقد نجح هذا مرات كثيرة في حرف النقاش عما هو واقع ومعلوم ووحشي وقذر، لتتجه الأنظار إلى مجرد احتمالات هي برسم المستقبل، الذي لم يقبض عليه الثوار بعد.

ليس لأن النظام أضحى في ربع ساعته الأخير، فالتساؤل أو الإجابة عن اليوم التالي بدآ منذ انطلاق الثورة، وللنظام الأسبقية في الترويج لفكرة البديل الأصولي المرعب القادم، وقد ساعده في ذلك مثقفون سوريون وعرب وحتى أجانب لم يروا في الشعب أهلية لتقرير مصيره بنفسه، ومنهم مثقفون سبق لهم التغني بثورات عالمية، بل سبق لبعضهم الحلم بثورة ضد هذه السلطة نفسها، ولكن بشرط أن يجترح لها ثواراً وهميين على مزاجه ومقاسه. نجح إعلام النظام، الموصوف بالغباء والذي تنفضح أكاذيبه يومياً، في الترويج لبعض فبركاته، إذ وجد عقولاً خصبة لمختلف أنواع الرهابات؛ عقولاً تخشى المغامرة وتستبطن العبودية المطعمة بأحلام يتم تأجيلها دائماً بمختلف الذرائع. لا يخلو الأمر أيضاً من عقل استشراقي اعتاد على رؤية شعوب المنطقة كنمط لا يتزحزح، ومن المرجح أن فبركات النظام تقدّم مادة ملائمة له، أما في الحقل السياسي المباشر فقد تتقاطع الفبركات مع متطلبات بعض القوى الدولية المترددة أو التي لا ترغب في التغيير، أو تلك التي تُظهر رغبة فيه، إنما ليس الآن أو سريعاً.

هكذا، وفجأة، يستفيق الكثيرون في الداخل والخارج معاً على فكرة تغلغل التيارات السلفية في الثورة، وعلى رغم تعدد الأهواء والمشارب يتفق أصحابها على النفخ في المظاهر المحدودة أو الشكلية ذاتها وتضخيمها، وبالتالي يتم الاتفاق على خطورة اليوم التالي. العالم الذي تلكأ طويلاً ولم يبادر إلى إسقاط الشرعية عن النظام بالمعنى القانوني، وترك لممثله في المحافل الدولية حرية ذرف الدموع وإطلاق الأكاذيب، يبدو أقرب إلى إسقاط الشرعية الشعبية عن الثورة بوصفها كطرف من بين طرفي نزاع. المنظمات الحقوقية الدولية التي منعتها «مهنيتها» من الجزم بارتكاب النظام لجرائم حرب تستعجل الحديث عن خرق «الطرفين» لحقوق الإنسان، من دون أن تميز بين العنف الممنهج المنظم الذي ترتكبه سلطة منسجمة والخروقات التي ترتكبها جماعات غير منضبطة وقد تكون عصابات مسلحة بالفعل، أما أن تجزم المنظمات بارتكاب النظام لجرائم ضد الإنسانية فيبدو هذا بعيد المنال.

لا أحد يتساءل جدياً عن اليوم التالي من يوميات الثورة وقد راحت تدنو من الستمائة يوم، كأن العالم ضَمِن استمرار الثورة رغم ما يُدفع يومياً من أثمان باهظة، وكأن السوريين الذين دفعوا من ماضيهم وحاضرهم المستمر لزامٌ عليهم أن يسلّفوا كلّ من له صلة بهم من مستقبلهم، وأن يكابدوا لينالوا «شهادة حسن سلوك» تخوّلهم الانتقال إلى «اليوم التالي». لم تعد الإهانات التي يتلقاها السوري حكراً على النظام، فالسوريون الذين يقدّمون أقصى درجات البذل والصبر صاروا عُرضة لكل من يشاء الاستثمار في ضعفهم مقارنة بآلة القمع الجهنمية، وصاروا عُرضة أيضاً لمن يملي عليهم دروساً في الثورة وكأن لها كتاباً نموذجياً قصّروا في قراءته واستيعابه.

لنعترف بأن أحداً منا لن يقدر على تقديم إجابة شافية عن اليوم التالي لإسقاط النظام، ولعل من الأسهل لنا الإجابة عن اليوم التالي لنظام سُمح له بسحق شعبه، نظام يبدو أن الكثيرين ممن قاسوا منه نسوا الآن ذكرياتهم المريرة معه. هل علينا التذكير بالعنجهية التي خرج بها النظام من أزمته إثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري؟ لا.. بالتأكيد إن الأمر سيتعدى ذلك، وباستثناء أمن إسرائيل الذي سيبقى مصاناً لن تسلم دول الجوار من الانتقام، ومن يخشى الفوضى بسبب سقوطه الأحرى به أن ينتظرها بسبب بقائه، فحينها سيستأنف سيرته القديمة بابتزاز القوى الإقليمية عبر الأداء المخابراتي الذي جربه اللبنانيون والعراقيون من قبل. إن انتصر النظام وحلفاؤه لن يكون الشعب السوري المتضرر الوحيد، حينها سيطال التشبيح العديد من دول المنطقة، من دون تمييز بين تلك التي تعاطفت مع الشعب السوري وتلك التي نأت بنفسها عنه، لأن النظام لن يقبل ببقائه معزولاً على أنقاض البلد، سيعاود سيرته وقد سقط قناع الحياء السياسي والدبلوماسي السابق، سيُعتَمد التشبيح رسمياً كفلسفة للحكم داخلياً وخارجياً.

يحدثونك عن الخشية من اليوم التالي لسقوط النظام، ويتناسون عقوداً سابقة على انطلاق الثورة. كأن تصفية عشرات الآلاف من المعارضين السوريين واعتقال عشرات الآلاف الآخرين شأنٌ معتاد من شؤون الحكم، كأن إرسال الجهاديين إلى بلد مجاور، وإرسال المتفجرات إلى بلد مجاور آخر، ليسا إلا من دواعي التهذيب الدبلوماسي؛ كأن تقديم التعهدات الدولية ثم التراجع عنها مراراً هي الحنكة بعينها. فجأة، وبلا تجربة أو برهان، يصبح النظام أقل سوءاً من البديل الذي هو الشعب!. فجأة يُطعن بأهلية البديل، وبما يُعدّ إقراراً بشرعية التوريث إلى ما لا نهاية، طالما أن البديل في أي وقت آخر لن يكون سوى هذا الشعب نفسه.

لن يكلف أحد خاطره ليتقصى عن عدد ونسبة أبناء الأقليات الذين هاجروا أثناء حكم هذا النظام، لأن تعويمه كحامٍ للأقليات يتطلب إطلاق الوهم وترويجه فحسب، ومن ثم تصوير أبناء الأقليات كأنهم يوضبون الحقائب بانتظار«اليوم التالي» المشؤوم. لن ينفع هنا البرهان العددي على أن وجود بعض الأقليات في سوريا، كالسريان والآشوريين مثلاً، راح يدنو من الصفر، وأن نسبة الهجرة لدى الأكراد مثلاً شهدت ارتفاعاً ضخماً تشهد عليه وفرة حضورهم في شمال أوروبا، أما صلات أهالي جبل العرب بالمهجر الأميركي فقد أضحت وثيقة إلى حد أن يُشار إلى موسمين هما موسم العنب وموسم قدوم الأبناء الزائرين من فنزويلا. أما على الصعيد الإقليمي فيكفي أن ننبش تصريحات من أيام الوصاية السورية على لبنان لنرى أثر سياسة النظام على التوزع الديموغرافي هناك، ولنقرأ الشكاوى اللبنانية من ازدياد معدلات الهجرة في صفوف الأقليات التي تم تهميشها.

نعم.. يحتاج السوريون وجيرانهم خاصةً إلى التفكر في اليوم التالي لسقوط الكابوس، ولكن على أرضية من الثقة بقدراتهم على صياغة سبل أفضل للتفاهم والعيش المشترك، وليس من باب شيطنة النظام أن نصفه بأنه الأسوأ إطلاقاً، أما استخدام اليوم التالي كفزّاعة فلن ينفع سوى في تعميق الهوة والانقسام ضمن المجتمع السوري، وحتى ضمن مجتمعات مجاورة. لا مناص أمام الجميع من تقبّل فكرة التغيير، لأن السوريين لن يتراجعوا عن ثورتهم، ويوماً ما سيصبح اليوم التالي حقيقة، لذا يُستحسن أن يشارك الجميع في صنعه بدلاً من استباقه بالأوهام والخوف. في سوريا ثمة بلدة في ريف إدلب، ألغى أهلها اسمها القديم ووضعوا على مدخلها لوحة بالاسم الجديد؛ «بلدة إسقاط النظام.. ترحب بكم». هكذا.. بلدة إسقاط النظام ترحب بالجميع، من دون أن تستثني الخائفين.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى