صفحات الثقافة

ويوم تشهد شرفاتكم بأنكم طائفيون/ عصام التكروري

 

 

ليست شُرفات باريس مجردَ فُسحاتٍ سماويةٍ منذورةٍ لأزهار الجيرانيوم، بل هي أيضاً خيرُ من يمارس فعلَ الوشايةِ بالهويةِ الفكرية للوافدين لسُكناها من كلّ أصقاعِ الأرضِ. منذُ أنْ أعاد «هوسمان» بناء باريس (1852ـ 1870) ثمّةَ قرار إداري يعاقب بالغرامة كلّ منْ يستعمل شرفته لغير وضع أصُص الزهور، مخالفةُ هذا القرار الذي يعتقد الفرنسيون أنَّ العالمَ بأسره يعرفه، هو أولُ ما يرتكبه القادمون من العالم الثالث (ولا سيما المشرق العربي) عندما يستأجرون شققاً في مدينة النور، إذ لا يكاد يمر وقتٌ طويل حتى يُفاجأ السوري أو اللبناني ـ أو من في حكمهما ـ بشرطي البلدية يطرقُ بابه مطالباً إياه بدفعِ غرامةٍ ماليةٍ جزاءَ تحويله شُرفة المنزل إلى «سقيفةٍ في الهواءِ الطلق»، إذ بالإضافةِ إلى ربطاتِ الثوم والبصل المتدلية بغُنجٍ، وأكياسِ البطاطا التي تُطلُّ ببلادةٍ على أحلامِ المارةِ، هناك كومةُ أشياءٍ خُزّنت في مكانٍ بارزٍ من الشُرفة من مبدأ: «سيأتي يوم ونحتاجها»، في هذه الخانة تجدُ رزمةً من أكياسِ النايلون والورق، بضع قوارير بلاستيكية ومثلها زجاجية، أجهزة كهربائية قديمة أو معطوبة، ألبسة بالية لاستعمالها «مماسح»، باختصار تجد على شُرفات السوري أو اللبناني ـ أو من في حكمهما ـ كل ما لا يطيقُ «هوسمان» مجرد تحمل النظر إليه.

بعدَ دفعه لتلك الغرامة تستعيدُ الشرفة قسطاً من رونقها الباريسي إذ ـ على سبيل الاحتجاج ـ ستغيب عنها الورودُ طالما أنّه ما من قوة بالأرض تستطيعُ إقناع المشرقي بعدالة الجزاء الذي ناله.

الأشياءُ المُندرجة في خانةِ «سيأتي يوم ونحتاجها» ليستْ فقط جزءاً أساسياً من «ثقافة الشُرفة» لدى المشرقيين مهما كانت مساحة بيوتهم، بل هي المُستهدف الأول من حملات «التعزيل» الدوريّة التي تشنّها سيدةُ البيت بعد أنْ تكتشفَ أنَّ شُرفتها قد تحوَّلت لمرتع للقوارض والزواحف بدون أن يأتي ذلك اليوم الذي تحتاج به إلى مؤونتها تلك، ولكن بما أنًّ أحداً لا يضمن (وربما لا يسعى) بأنَّ مثل هذا اليوم لن يأتي، يُعاود سكّان المشرق تكرارَ تجربة (الشُرفة ـ السقيفة) مرددين حكمتهم القاتلة: سوءُ الظنِّ بالجوار من أذكى الفطن.

المُدهش في ظاهرة «سيأتي يوم ونحتاجها» هو أنَّ «ثقافة الشُرفة» هي انعكاس «لثقافة اعتناق الأفكار الأشد فتكاً»، أفكارٌ نكدسها في ذواتنا المسكونة بهاجس أنْ يأتي يوم نضطر به لشهرها في وجهِ إخوة مُرشحين في كلِّ لحظةٍ لأن يتحولوا إلى قتلة كونهم يكدٍّسون الأفكار ذاتها، و إذا لمْ يأتِ ذلك اليوم نموتُ جميعا «بطاعون سوء الظن» الناجم عن تفسخها، أفكارٌ أكثر ما يميز مقتنيها أنهم كلما تمادوا بإنكارها، تمادت هي في البروزِ من «شرفاتهم الفكرية»، حالُهم في ذلكَ حالُ ربةِ منزلٍ تدّعي أنَّها الأكثر نظافة من بين نساءِ الحي دونَ أن تنتبه بأنّ «خُرقها التي سيأتي يوم وتحتاجها» مخزّنة في الزاوية الأكثر بروزاً من شُرفتها.

ليس الانتماءُ الديني أو الطائفي شراً بحد ذاته، بل يمكن لهُ أن يُشكّل عامل غنىً نوعي إذا ما تضافر مع بقية الانتماءات المكوّنة للهويّة (العرق، اللون، العقيدة الفكرية، المصير المشترك، الإقليم، اللغة، الدين، الطائفة)، لكنَّ الخطورةَ تكمن في أنَّ الهويّة ـ على حد تعبير أمين معلوف ـ هي «بحالة تلوّن مستمر، والانتماء الأكثر تعرضاً للخطر هو الذي يُضفي عليها طابعها العام»، من هنا ـ بتقديري ـ كان الساعون للسيطرة على أي بلدٍ عربي متعدد الطوائف يطبِّقون النسخة الطائفيّة من مبدأ «فرّق تسد» وذلك بمجرد أن يتأكدوا من أنَّ شعبَ ذلك البلد يركنُ الطائفيّة الفتّاكة في شُرفاته الفكريّة بانتظار أنْ «يأتي يوم ويحتاجها»، وكان المُحتل يهيئ له ذلك اليوم.

ففي سوريا، وبالاعتماد على مبدأ «فرّق طائفياً تسُد عسكرياً»، قام الفرنسيون بتوزيعِ السوريين على ثلاثة كيانات طائفية: «دولة العلويين» في اللاذقية و«دولة الدروز» في الجنوب إضافة إلى «الاتحاد السوري» الذي شملَ دمشق وحمص وحماه وحلب، هذه الفُرقة استمرَّت ما بين 1920 ـ 1946 قبلَ أن يتمكن السوريون من استعادةِ وطنهم من الطائفيّة التي ساهم بتكريسها فئة منهم، ولنشهد رجوعَ «محافظة اللاذقية المستقلة» إلى «الاتحاد السوري» عام 1936، ومن ثم إلغاء استقلالها المالي والإداري في 10/ 12/ 1946، وتلتها في ذلك محافظة «جبل الدروز» في 23/11/ 1946.

أما في لبنان فقد شجَّعت تجربة نظام القائمقاميتين (1843ـ 1860) ونظام المتصرفية (1864 ـ 1915) ـ وما ميّزهما من مجازر ذات صبغة طائفية ـ شجّعت الفرنسيين على الاستثمار بالبعد الطائفي عبر ضمّ أقاليم راشيا وحاصبيا والبقاع وبعلبك، التابعين حينها لولاية دمشق، إلى جبل لبنان لإنشاء «لبنان الكبير» (المرسوم الرقم 299 تاريخ 30 آب 1920 الصادر عن الجنرال غورو)، وليدخل بذلك المكوّن السني بقوة إلى ساحة الاقتتال الطائفي الدرزي ـ الماروني.

حكومات ما بعد الاستقلال في كلا البلدين كانتْ وليدةَ هذا الإطار التاريخي، لكنها لجأت إلى علاجه بطريقتين مختلفتين، فبينما تمت مأسسة الطائفيّة في لبنان من خلال «الميثاق الوطني ـ 1943»، تبنّت غالبية الحكومات السورية سياسة تقوم على تضخيم الانتماء القومي بشكل تبدو معه الانتماءات الأخرى ـ الانتماء الطائفي ضمناً ـ قزمة أو مضمحلة.

وما بين هاتين الطريقتين المختلفتين في التعاطي مع قضية الطائفيّة، ظهرت في كلا البلدين شريحة مجتمعية ـ واسعة أم ضيقة ـ عملت على وضع المكوِّن الطائفي في خانة «سيأتي يوم ونحتاجه»، محنٌ طائفيةٌ داميةٌ سيعرفها البلدان (لبنان أكثر) قبل أنْ يأتي انتصار تموز 2006 حيث سيتأكد صنّاع السياسات الخبيثة من أنّ سلاح الطائفيّة سيكون الردّ الأكثرَ نجاعةً في مواجهة حالة التضامن المنقطع النظير التي أبداها الشارع العربي مع «حفنة من المقاتلين» أعادوا له الثقة بإمكانيةِ الانتصارِ على الجلادين جميعا، ليبدأ بعدها العملُ حثيثاً على البُعد الطائفي لكل أزمات المنطقة بالاعتماد على إعلام فضائيّ وإرشاد أرضيّ تفوح منهما رائحة النفط والدولار، ومع هبوب الربيع العربي جاء اليوم الموعود الذي انحدرت فيه الطائفيّة من الشُرفات كما انحدرَ «الجمَل من السقيفة».

طالما كانت الطائفيّة برميلَ بارودٍ محلياً تتوزع فتائله على أكثر من عاصمة ضالة، قرارُ التفجير سيبقى خارجياً ما دام سكان الداخل حريصين ـ عن علمٍ أو عن جهل ـ على حماية البرميل من الرطوبة، وحماية فتائله من العطب، «الربيع العربي» بنسخته المشرقية كانَ أمراً عملياتياً خارجياً بالتفجير، تفجير فضَح المكونات الفكريّة ليس فقط للناس العاديين، بل لثلة من كبارِ المثقفين الذين صدّروا أنفسهم في نبذ الطائفيّة.

مواجهة الطائفيّة لا تكون إلا عبر مأسسة فكرة المواطنة لتكون وحدها المسموح لها بتصدّر شُرفاتنا الفكرية كما يتصدر الجيرانيوم وحده شُرفات باريس، وذلك تحت طائلة المحاسبة، حتى ذلكَ اليوم سيمضي زمن يكونُ فيه القابض على «العقل الوطني الجامع» كالقابضِ على الجمر… جمر الطائفيّة.

(كاتب سوري)

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى