صفحات الثقافة

و.هـ. أودن، الإنكليزي المتبرم الذي صار أميركيًا/ ديمة الشكر

 

 

يتفق النقاد على أن القرن العشرين شعريًا في اللغة الإنكليزية، مطبوع ببصمات لا تمحى لشعراء ثلاثة هم توماس ستيرنز إليوت، ووليم بتلر ييتس، وويستان هاغ أودن. وإن كان الأوّل قد حظي بحضور “معقول” في اللغة العربية، نظرًا للاهتمام بقصيدته الأشهر “الأرض اليباب”، ودورها وتأثيرها في بدايات الشعر العربي الحديث، فإن ييتس وأودن لم ينالا اهتمامًا مماثلًا، ولم تترجم قصائدهما أو كتبهما إلا لمامًا.

وقد نال كل من ييتس وإليوت جائزة نوبل في الأدب (1923، 1948)، إلا أن أودن الذي كان مرشحًا لها بقوّة عام 1964، لم ينلها (نالها وقتها جان بول سارتر الذي رفضها) بسبب ما قيل من رفضه تغيير جملة كتبها في مقدّمة ترجمة كتاب للسويدي أمين عام الأمم المتحدة “داغ همرشولد”.

لكن ذلك ما كان ليغير شيئًا من مكانته إذ حاز الشهرة باكرًا وهو في العشرينيات من عمره، (وقد وعى مبكرًا تأثير ذلك على شعره وتأثير وصفه بالشاعر السياسي، ونأى بنفسه عن التأثيرين). حصل أودن على جائزة بوليتزر المرموقة عام 1947 عن قصيدته “عصر القلق”، التي صار عنوانها وحده تعبيرًا ووصفًا دقيقًا عن العصر الحديث. بيد أن نقده للرأسمالية والشمولية، جلب له أيضًا سمعة الشاعر اليساري، التي تطيّر منها، وكانت من أسباب هجرته إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1939، التي نال بعد ذلك جنسيتها عام 1946.

كانت بعض قصائد أودن مرآة لعصره اجتماعيًا وسياسيًا، ولعل سبب ذلك أنه عاصر الحروب والأزمات الكبرى التي طبعت القرن العشرين؛ الحربين العالميتين الأولى والثانية، والأزمة المالية عام 1929، والحرب الأهلية الإسبانية. وتلك الأخيرة كتب قصيدة عنها بعنوان “إسبانيا” لكنه أسقطها لاحقًا من أعماله.

وإذ طبعت الحروب أودن وشكّلت وعيه، غدا أكثر واقعية وأكثر سخرية: “أظن أننا سنكون بخير من دون رجال السياسة. يجب أن يُنتخب قادتنا بالقرعة. على الشعب أن ينتخب بضمير، وعلى الكومبيوترات أن تقوم بالباقي”.

الأخلاق والدين والحب خصوصًا، كانت أيضًا مواضيع كبرى حاضرة جدًا في شعره الموسوعي، المتنوع النبرات والأشكال والمضامين، مزاوجًا ما بين غموض وإبهام حداثة القرن العشرين والتأملات الفلسفية وصولًا إلى ما يشبه الأغاني البسيطة الساخرة والهزلية، على نحو بدا وكأن القرن العشرين بتعقيداته وقفزاته التقنية وأزمات مجتمعه حاضر في شعر أودن.

ويبدو أن التنويع في الأشكال (وهو غير الإيقاع وغير الوزن) يعود إلى تمسّك أودن  بالعَروض، وظهر ذلك جليًا في قصيدته الطويلة “رسالة إلى بايرون” (المقصود الشاعر الإنكليزي الشهير لورد بايرون)، لم يستسغ أودن الشعر المتفلت من الشكل والوزن والقافية، خاصة “الشعر الحر” (أو قصيدة النثر عربيًا) الذي صار رائجًا في أيامه أكثر فأكثر، وكتب مرة :”لا أستطيع أن أستقر على أيهما أسوأ/ الرواية – الضد، أم الشعر الحر”.

ونظرًا إلى تمرسه بالعَروض، استطاع كتابة قصائد في كل الأشكال التي عرفها الشعر الإنكليزي تقريبًا (بما فيها تلك لها جذور في الإيطالية)، فكتب البالاد (السردية الغنائية) والليميرك (خماسيات على وزن بحر الأنابيست = مقطعين قصيرين ثم مقطع طويل) ودوجوريل (قصيدة هزلية ساخرة متنوعة الأوزان والقوافي) والهايكو (من التراث الياباني) والفيلانيل (قصيدة من 19 سطرًا، خمسة مقاطع كل واحد بثلاثة شطور ومقطع بأربعة شطور، وتتكرر قوافيها ولازمتها، وهي مأخوذة من أغانٍ إيطالية).

وكانت إضافته في أمرين: استعمال الأوزان الأنغلوساكسونية في الرعويات، واستعمال المقطع أساسًا في الوزن لكتابة شعر مقطعي إنكليزي. ومعروف أن العروض الإنكليزي نبري، بيد أن أودن، تعلّم كما يخبّر بنفسه، الشعر المقطعي من الشاعرة الأميركية ماريان مور.

يظهر أودن من خلال مقابلاته وكلماته ساخرًا سخرية سوداء، لا أوهام تدانيه عن دور المثقف في مجتمعه، بل بدا شديد الواقعية إذ قال: “كان التاريخ الاجتماعي والسياسي لأوروبا ليكون هو نفسه، حتى لو لم يكن دانتي وشكسبير ومايكل أنجلو وموتزارت قد ولدوا قط”.

وتظهر لقطاته اللماحة ذات الرجع التهكمي في واحدة من أشهر قصائده “بلوز الجنازة” التي غدت أشهر وأشهر حين قُرأت في الفيلم المعروف “أربع زيجات ومأتم”.

ضفة ثالثة

الأسماك تسبح وكأنها نالت حريّتها/ و. هـ. أودن

بلوز اللاجئ*

 

أزعمُ أن في هذه المدينة عشرةَ ملايين نفس،

 

بعضهم يسكن الدُّورَ المترفة، وبعضهم الجحورَ:

 

ولا مكان يؤوينا، يا عزيزي، لا مكان يؤوينا.

 

 

 

حدَثَ أنْ كان لنا بلادٌ ورأيناها عادلة،

 

ابحثْ في الأطلس وستجدها هناك:

 

الآن لا نستطيع العودة إلى هناك، يا عزيزي، الآن لا نستطيع العودة إلى هناك.

 

 

 

هناك في فناء كنيسة القرية ينمو صنوبر عتيق،

 

كلَّ ربيع يزهر من جديد:

 

جوازات السفر القديمة لا تستطيع ذلك، يا عزيزي، جوازات السفر القديمة لا تستطيع ذلك.

 

 

 

خبط القنصلُ الطاولةَ بيده وقال،

 

“إن لم يكن لديك جواز سفر فأنت رسمياً ميت”:

 

لكننا لم نزل أحياء، يا عزيزي، لم نزل أحياء.

 

 

 

ذهبتُ لمقابلة لجنة؛ قدّموا لي كرسياً للجلوس؛

 

وبأدبٍ جَمٍّ طلبوا مني أن أراجعهم السنة القادمة:

 

لكن إلى أين نذهب اليومَ، يا عزيزي، إلى أين نذهب اليوم؟

 

 

 

جئتُ لحضور اجتماع عام؛ نهض المتحدث وقال:

 

“إذا قبِلنا دخولَهم البلادَ، فسيسرقون خبزنا اليوميّ”:

 

كان يتحدث عنك وعني، يا عزيزي، كان يتحدث عنك وعني.

 

 

 

ظننتُ أني أسمع الرعدّ يجلجل في السماء؛

 

كان هتلر فوق أوروبا، يقول، “يجب أن يموتوا”:

 

لقد كنا في بالِه، يا عزيزي، لقد كنا في باله.

 

 

 

رأيتُ كلباً تكسوه سترة مُحْكَمةٌ بمِشْبَك،

 

رأيت باباً يُفتح لكي تدخل قطةٌ:

 

لكنهما لم يكونا لاجئَين، يا عزيزي، لم يكونا لاجئَين.

 

 

 

مضيتُ نحو الميناء ووقفتُ على الرصيف،

 

شاهدتُ الأسماك تسبح وكأنها نالت حريّتها:

 

على بُعد عشر أقدام، يا عزيزي، على بُعد عشر أقدام.

 

 

 

تجولتُ في غابة، شاهدتُ الطيور قابعة في الأشجار؛

 

لا سياسيون لديها فمضتْ تشدو على هواها:

 

لم تكن من الجنس البشريّ، يا عزيزي، لم تكن من الجنس البشريّ.

 

 

 

حلمتُ أنني رأيتُ بناءً بألف طبقة،

 

ألف نافذة وألف باب:

 

لم يكن أيٌّ منها لنا، يا عزيزي، لم يكن أيٌّ منها لنا.

 

 

 

وقفتُ على سهلٍ فسيح تحت الثلوج المتساقطة؛

 

عشرة آلاف جندي ساروا جيئةً وذهاباً:

 

يبحثون عنك وعني، يا عزيزي، يبحثون عنك وعني.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انسدال الليل

 

 

 

وشوشة أشجارٍ باردةٌ،

 

وقَتَامٌ عبِقٌ،

 

الانسدالُ الساكتُ للنّداوة،

 

نشوة عذبة لا تُنسى لخشخشة

 

وُريقاتٍ ترتشف الندى الطريّ.

 

أكثر زُرقةً، أكثر إبهاماً، أكثر سكونيةً.

 

قد حلَّ الليل.

 

 

 

 

 

تهويدة

 

 

 

أوسِدْ رأسك الساهي، حبيبي،

 

إنساناً على ذراعِ نُكراني؛

 

يُنهكُ الزمنُ والتّوقُّدُ

 

الجمالَ المتفرِّد في

 

الأولاد الغارقين في الفِكَرِ، ويَسِمُ

 

القبرُ الصّبيَّ بالزوال:

 

لكن بين ذراعيَّ وحتى مطلعِ الفجرِ

 

دَعِ الكائنَ الحيَّ يضطجع،

 

فانياً، مُداناً، رغم أني أراه

 

كُلِّيَّ البهاء.

 

 

 

لا تخومَ ما بين الروح والجسد:

 

وللعشّاق إذ يقضُّهم

 

انسلالُها السَّمحُ الفتّان

 

في انتشائهم المألوف،

 

ادفنوا الرؤيا التي تبعثها فينوسُ

 

بالعطف الجَمُوح،

 

بالحبّ والأمل الكونيين؛

 

في حين توقِظُ بصيرةٌ خالصة

 

وسطَ الجلاميد والصّخورِ

 

في الناسكِ شهوةَ الحِسِّ.

 

 

 

يسري اليقين والولاء

 

لوقعِ منتصف الليل

 

كارتدادات جرس،

 

ويجأرُ رجال معاتيه متأنِّقون

 

بصيحتهم المتحذلقةِ الكليلةِ:

 

كلّ ما هو ضئيل الأثمان،

 

كلّ ما تتنبّأ به الصحائف المتوجِّسة،

 

لا بدَّ من سداده، لكن من هذه الليلة

 

لا همس، لا فكرة،

 

لا قبلة ولا نظرة ستضيع.

 

البهاء، منتصف الليل، والرؤيا تموت:

 

دعْ رياحَ الفجر التي تهبُّ

 

بنعومة حول رأسك الحالم

 

يباركْ هذا النهارُ في استعراض تهليله

 

العينَ والقلبَ الواجفَ،

 

ويجِدْ في عالم الفناء كفايتَه؛

 

تجد ظهيرات الجدبِ أنك تشبّعتَ

 

بالطاقات اللاإرادية،

 

تترك لك ليالي الأذيةِ أن تعبرَ

 

ومحبّةُ الإنسان ترعاك.

 

* Blues موسيقا حزينة اشتهر بها الأميركيون من أصول أفريقية.

المترجم: ترجمة أحمد م. أحمد

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى