ياسين الحاج صالح: إنها ثورة العاديين ضد غرور السلطة وغرور المثقفين وغرور الأحزاب
راشد عيسى
السجن طفولته الثانية: إنه تجربة انعتاق تخلص فيه من سجون أخرى
لا شك في أن اسم ياسين الحاج صالح أحد العناوين البارزة للربيع السوري، الذي لم يبدأ فقط منذ سبعة أشهر. ستة عشر عاماً في معتقلات النظام، ليخرج من ثم إلى تجربة طويلة من العمل المعارض، الذي قد يبدأ بالاعتصام ولا ينتهي بمظاهرة، لكن دائماً يبدو أن الكتابة هي معقله الأساس، وخصوصاً الكتابة في الشأن السوري، إلى الحد الذي دفع كاتباً بارزاً إلى وصفه بـ «كاتب هذه الحقبة، مدونها وناقدها». وبالطبع ليس من السهل الوصول هذه الأيام إلى كاتب متوارٍ مثل ياسين فكان لا بد من هذا اللقاء “الالكتروني”، الذي استعاد بعض هموم السجن، والتواري عن أنظار السلطات في الفترة الأخيرة، والذي يتناول بشكل أساسي هموم الثورة السورية، وآفاقها.
÷ وددت دائماً أن أسأل السجناء السابقين؛ ماذا يعلم السجن؟ ماذا علمتك سبع عشرة سنة في السجن؟ أي طعم يبقى منه؟ متى يعاود الظهور في حياتك اليومية؟
} 16 سنة فقط، وليست 17. كان السجن طفولة ثانية لي، وكنت محتاجا لها. طفولتي الأولى لم تكن كافية من أجل تأهيل مناسب للحياة. أكثر من أنه علمني أشياء، السجن أعاد تكويني. عبر الصراع مع شرط السجن نفسه، ومع النفس، كان السجن في المحصلة تجربة انعتاق، تخلصت فيه من سجون أخرى. أتطلع إلى وقت يكتمل فيه هذا الانعتاق بأن يتسنى لي يوما زيارة السجون التي قضيت فيها سنوات طوالا. أحب أن أستعيد “ملاعب” تلك الطفولة الأخرى.
يبقى من السجن السجين. بعد 16 عاما هي كل سنوات الشباب، يكف السجن عن كونه تجربة عارضة، ليمسي جزءا من كيانك، شيئا تحمله معك أينما ذهبت. لا يعاود الظهور، هو موجود هناك دوما، في الداخل.
لكني أدين للسجن بما أعيش منه اليوم. وربما بقدر من الانضباط العملي والنفسي روضتُ نفسي عليه هناك، ووجدته مثمرا. لكن طبعا لست راغبا بتكرار التجربة. النتيجة ليست مضمونة أبدا. وعمري لم يعد مناسبا.
÷ اعتزلت مهنة الطب، خرجت من السجن لتتابع دراسة الطب، لتعتزله من ثم، أي معنى لذلك؟
} الخارج من حبس مديد يحتاج إلى فترة “روداج”، مرحلة وسيطة بين السجن وبين “الحرية”. حاله مثل من يخرج من مكان معتم إلى آخر ساطع الإضاءة، يلزم وقت كي تجري عيناه عملية المطابقة فيرى على نحو سليم. كانت 3 سنوات ونصف قضيتها في الجامعة فترة المطابقة اللازمة. استعدت خلالها ثقة بالنفس كنت مفتقرا إليها، وعرفت يقينا أني لا أريد ممارسة الطب. وخلال ذلك الفاصل ترجمت أشياء وكتبت أشياء، كانت بداية لمسار مهني مغاير.
ثورة العاديين
÷ الجديد لديك تجربة “التواري” خوفاً من السجن، كيف تصف هذه التجربة؟ أي مصاعب؟ غريب أن نسمعك تقول إنك صرت أكثر حرية مع هكذا تجربة؟ الغريب أكثر أن التجربة (تجربة التواري)، في ما يبدو، تمنحك القدرة أكثر على الإنتاج. نرى جميعاً أنك تكتب بغزارة ربما غير مسبوقة؟
} هذه تجربة اختيارية، في بداياتها على الأقل. لكنها تشبه السجن من حيث كونها قطيعة في نظام الحياة الذي كان استقر أمري عليه. في الأسابيع الأولى كنت شبه آسف على هذا الانقطاع، على الابتعاد عن كتبي خاصة. طوال شهور بعد الثورة لم اقرأ كتبا، واليوم أقرأ اقل من نصف ما كنت أقرأ قبل الثورة وبتركيز أقل.
لكن الانخراط في الثورة فرض نفسه كأولوية على كل شيء آخر. ولقد أتيحت لي ظروف عيش مقبولة، خلافا لأكثر أصدقائي الشباب للأسف. ولذلك لا تكاد تكون هناك صعوبات كبرى لا تطاق. بالطبع أرى أصدقائي أقل، ولا أرتاد أماكن عامة، ولم أعد أستخدم الهاتف. لكن هذه صعوبات لا يعسر التعايش معها. الشيء الوحيد الذي كان يمكن اعتباره صعوبة لا تطاق هو عدم القدرة على الكتابة التي هي المصدر الوحيد لدخلي. لكن، بالعكس، أعمل اليوم أكثر من قبل كما لاحظتَ. متفرغ تماما لمتابعة مسارات الثورة والكتابة عنها، وعن الشأن السوري حصرا. الكتابة هي شكل مساهمتي شبه الوحيد في الثورة.
وفي هذا النطاق وحده صرت أكثر حرية. أكتب اليوم دون رقابة ذاتية أو بأدنى قدر منها. مراكبي احترقت، فإما الفوز بهذه المعركة، وإلا فلا أدري ما سيكون نصيبي من انسحاق بلا شك سيصيب المجتمع السوري كله.
÷ في الأشهر الأولى للثورة كنت ما زلت تتحرك هنا وهناك، ماذا رأيت؟ أي صور علقت لديك؟ أي مشاهد مؤثرة؟
} مشاركاتي الميدانية محدودة، ولا أستطيع منافسة شباب الثورة على رصيدهم الحي والمتجدد من تجارب الكفاح وقصصه، ومن محنه في السجن والتعذيب. لكن القليل الذي رأيته وشهدته بنفسي يكفي للقول إن الثورة السورية هي ثورة العاديين من الناس، وأنها بصورة ما ثورة ضد الغرور وكل ما هو مغرور، غرور السلطة، وغرور الأشخاص، وغرور الإيديولوجية، وغرور المثقفين وغرور الأحزاب. المغرورون جميعا ضد الثورة، بالمقابل.
والشيء الذي لا أنساه شخصيا أني لم أتحكم بنفسي، وبكيت طويلا أثناء تشييع جنازة بعض الشهداء المبكرين في دوما.
مفاجآت سوريّة
÷ الكل يتحدث عن مفاجآت كثيرة في هذه الثورة، من اندلاعها، إلى الأمكنة التي اندلعت منها، وحتى شعاراتها، ماذا عنك؟ أنت الذي قلت إن الأشهر السبعة الماضية كانت الأعظم في تاريخ سوريا منذ الاستقلال..
} أنا أيضا تفاجأت. قبل حين كنت أراجع بعض موادي خلال السنوات الماضية، وبدا أن بعضها تتوقع تغيرا كبيرا. لكن ربما يتوقع عملك شيئا لا تتوقعه شخصيا.
كنت قريبا من دوائر الشباب الذي قاموا ببعض البروفات الأولى للثورة، لكن ثورة وطنية واسعة النطاق، وعلى هذا القدر من الصلابة والاستمرارية، كان متجاوزا لأوسع آمالنا. هناك في تقديري ثلاثة أشياء تقولها هذه الثورة غير المتوقعة. أولا إن هناك معارضة كامنة كبيرة في المجتمع السوري لم تكن المعارضة التقليدية، وأنا منحدر منها، قادرة على التواصل معها، ولا تملك أدوات تنشيطها وتحويلها إلى معارضة فاعلة. وثانيا إن من شأن وجود نموذج إيجابي عربي أن يكون محفزا للسوريين على تغيير أوضاعهم السياسية. ولقد كان المثالان التونسي والمصري ملهمين بقدر هائل للسوريين، وكان مشجعا أيضا إقدام البحرينيين والليبيين واليمنيين على تحدي أنظمة مشابهة لنظامنا، وإن تكن أقل وحشية. وأخيرا، سلوك النظام ذاته أثناء الثورة، وقد جمع بين الغرور والوحشية والتصلب والرفض المطلق للاعتراف بوجود فاعلين أو أطراف سياسية مستقلة في البلد غيره، أو حتى الاعتراف بآدمية عموم السوريين وحقهم في الحياة. وأقدر أن هذا السلوك الإجرامي دفع كثيرين إلى الانخراط في الثورة دون مرور بطور المعارضة الكامنة. الشيء المثير في الثورة السورية والثورات العربية عموما أن أكثر الثائرين لم يكونوا ثوريين سابقا، ولم يكن بقي ثوريون في مجتمعاتنا أصلا (الصيغ الأقدم للنزعة الثورية تجد نفسها ضد الثورة أو غير مرتاحة لها). أكثر الثائرين هم أناس عاديون، حفزهم إلى الثورة تطلع إلى تغيير حياتهم وإرادة أن يُسمعوا كلمتهم وأن يُعترف بكيانهم وأن يكون لهم شأن، وهذا في مواجهة هياكل سياسية مغلقة ومتصلبة، لا توفر معنى لحياة أكثرية السكان. هذا لا يلغي إمكانية وفائدة تحليلات اجتماعية واقتصادية وديمغرافية، لكنه يتنبه أكثر إلى محفزات الثورة المباشرة، أو إلى “العامل الذاتي” فيها.
÷ لا يبدو أنك منخرط في العمل السياسي، كما يبدو من غياب اسمك عن كل التشكيلات تقليدية كانت أم مستجدة، هل اخترت اعتزال السياسة لصالح الكتابة؟ هل يرضيك هذا الدور أكثر؟
} لست بعيدا عن الثورة وسياستها، لكني غائب عن الأشكال التنظيمية والحزبية لعمل المعارضة. أجد في عملي متعة ورضا يحولان دون أن أنجذب إلى شيء آخر. وأظن أن الثورة في حاجة إلى تنظيم فكري (هو ما أحاول المساهمة فيه) بقدر لا يقل عن حاجتها إلى تنظيم سياسي من النوع الذي يحاول المجلس الوطني السوري اليوم توفيره، وإلى تنظيم ميداني هو ما يقوم به الشباب والناشطون الميدانيون.
لست صالحا للعمل في أية هيئات منظمة، ولا تجتذبني السياسة العملية، لكني أقرب إلى تشكيلات سياسية من غيرها، ومنحاز علنا إلى المجلس الوطني. أظنه إطار العمل الوطني الأقدر على التطور، وعلى اجتذاب الكفاءات السورية في الداخل والخارج.
تحولات المثقفين
÷ هنا لا بدّ من السؤال عن دور الكتاب والمثقفين السوريين في ثورة بلدهم؛ هل توافق على أن هناك انشقاقاً كبيراً ومفاجئاً بين من هم مع النظام وضده؟ كيف تفسر؟ الأمر ينطبق على مثقفين عربا وقفوا بصورة أو بأخرى مشككين بثورة السوريين؟
} لدي متعة لئيمة في مراقبة تحولات مثقفين سوريين بعد الثورة. يبهجني تلون مثقفين مكرسين، وإمعان بعضهم في التعالم والانفصال النفسي عن الثورة وعملياتها وإنسانيتها. والغريب أنهم لم يكتبوا أيضا شيئا ذا قيمة. يمكن للمرء أن يكون ضد الثورة، وأن يقول أشياء مفيدة مع ذلك. أما أن تكون ضد الحدث الأكبر والأكثف بالدلالات في تاريخ بلدك المعاصر، ولعله من الأكبر في تاريخ منطقتنا، ثم لا تكاد تقول عنه إلا ما يشبه كلام صحفيي النظام، فهذا لا يحدث إلا إذا أراد الله أن يبهدل عبدا.
وبين عموم المثقفين أحدثت الثورة فرزا ضروريا. كان هناك من يزعم لنفسه استقلالية أو معارضة من نوع ما، فاضطرته الثورة أن يظهر على ولائه الصميم للنظام. وكان هناك مثقفون مستقلون، أرادوا أن يكونوا هنا وهناك وهنالك، لكن الثورة ألزمتهم بأن يكونوا في مكان محدد، ووقف كثيرون منهم إلى جانبها. الثورة لا تترك أحدا “من شرها”، ولا يستطيع مشتغل بالشأن العام أن يبقى حياديا حيالها.
لكن هذه العمليات لا تزال في بداياتها. إلى جانب الزلزال السياسي والاجتماعي، أظننا سنرى، ونرى منذ الآن، زلازل ثقافية وإيديولوجية. وجيلية طبعا.
÷ كيف تشعر (لا أقول كيف ترد، لأنني أعرف أن الأمر خارج أي منطق) حين يكتب عنك بأنك وزير إعلام لإمارات سلفية، أو راع لعصابات مسلحة؟
} هذا كلام أبله ووضيع طبعا. لكنه ليس بلا معنى. أظن أن كثرة التهجمات علي وعلى مثقفين معارضين آخرين في الشهور الأخيرة وجه من أوجه الصراع المركب الذي فجرته الثورة السورية. صراع سياسي وإيديولوجي بين الثورة ومعسكر المنتفعين المتنوعين من النظام، وبمساهمة لبنانية مهمة، ما دامت أكثر التهجمات علي أتت من لبنانيين. وليس مفاجئا في تقديري درك الانحطاط الذي يمكن أن يبلغه خصوم الثورة، لكن اللافت فيه أنه يجمع بين الجبن والمراوغة. بدل أن يقول الجماعة صراحة إنهم ضد ثورة مناهضة للطغيان، يفضلون وصف المنحازين للثورة بالاستبداد والدكتاتورية. غرضهم القول إنه لا قضية لنا، أي إعدامنا معنويا، وهو ما يسهل أمر إعدامنا فعليا.
ولا يبعد أن قصة العصابات المسلحة بالذات تتجاوز الرغبة في التشويش وإثارة البلبلة وخلط الجابل بالنابل إلى توفير سردية يمكنها أن تبرر، ولو جزئيا، أي مستوى من العنف قد أتعرض له.
على أني أجد في هذه الكتابات شيئا مبهجا. حين يبلغ الأمر خلال شهور قليلة درجة قول أشياء لا تصدق، مثل أن لدي عصابات مسلحة، فهذا يعني أن قضيتنا تتقدم بسرعة، وأن أعصاب القوم فلتانة وتوشك أن تتحطم.
تمرد على التهميش
÷ كيف تفسر خريطة الاحتجاجات في سوريا؟ لماذا هذه المدينة، القرية دون غيرها؟ ولماذا من دون حلب؟
} يمكن أن نجازف بعدة تفسيرات منها ما يتعلق بتكوين سوق العمل الجديدة التي تشكلت بفعل لبرلة مشوهة للاقتصاد في السنوات الأخيرة، وهي سوق منحازة للمدن على حساب الأرياف، ولمراكز المدن على حساب الأحياء الطرفية والضواحي.
ويمكن أن نفكر في كثافة حضور أجهزة النظام وكثافة روابطه بالنخب المحلية، وهذا مميز في حلب ودمشق.
لكن قد يكون للأمر علاقة بالطاقة الكامنة على التطور الفردي والجمعي يبدو أنهما يميزان البؤر الأنشط للثورة. هذه الطاقة معاقة بسبب البنية الامتيازية للنظام، وهامشية قيم العمل والمعرفة فيه. جمهور الثورة هو “مجتمع العمل” (مقابل مجتمع السلطة والامتياز). وهو يتطلع في آن إلى مزيد من الحرية ومزيد من الانضباط والمعايير. بينما مجتمع السلطة والامتياز متهتك لا ضوابط له، واستبدادي لا يقر بحرية لغيره. ويحرك الثورة أيضا تمرد عام على التهميش. ترى هذا الانبعاث المدهش لبلدات وأحياء ومدن، مئات منها، وظهور أسماء وصور لنساء ورجال. فجأة تظهر سوريا بلدا واسعا عميقا، منتجا للذاتيات الحرة، مجتمعا مركبا غنيا لا يريد أن يختزل إلى نظام مختزل بدوره إلى طغمة ضيقة.
نحتاج في كل حال إلى معلومات أكثر تفصيلا وأدوات تحليل أكثر ملاءمة. تلزم ثورة في التفكير من أجل فهم الثورة في الواقع.
÷ ما هو تصورك للمخرج من هذا الوضع؟
} لا أرى مخرجا دون تغيير النظام هياكل وأشخاصا. سوريا لن تتعافى دون ذلك. النظام القائم اليوم منبع فياض للتعسف والفوضى والتمييز والعنف والتطرف والسرية، أي للانحطاط العام، دون تعويض إيجابي من أي نوع وعلى أي مستوى. هذا يجب أن ينتهي، وهو ما قامت الثورة ضده.
هل يمكن أن يتحقق هذا تفاوضيا؟ يبدو أن الوقت فات. النظام يتصرف كأنه وحده له كرامة وهيبة، ولم يستطع أن يقبل كرامات لمحكوميه في أي وقت. لذلك يركز الثائرون السوريون على هذه النقطة حين يهينون النظام ويتعمدون تحقيره وتسفيه رجاله. لكن هذا يجعل الثورة أقرب إلى صراع مطلق: إما تباد الثورة على نحو ما أباد النظام حركة الاعتراض عليه قبل نحو ثلاثة عقود وحطم بيئاتها المتنوعة، أو يقضى على النظام تماما. لا يبدو أن هناك فرصة لحل وسط. النظام شديد التطرف ولم يقبل يوما التفاوض مع أحد من محكوميه، أو قبول المساواة معهم. وهذا يتسبب في انتشار مزاج عام منفعل ومضاد لأي تفاوض معه.
قد يكون هذا صراعا مأسويا، لكن المأساة “مكتوبة” في بنية النظام.
السفير