صفحات الرأي

ياسين الحافظ… الغائب الحاضر في الثورة السورية


أرهقه النضال السياسي وتنبأ باكراً بـ «ربيع دمشق»…

بيروت – من ريتا فرج

قبل «ربيع دمشق» قلة من الجيل الشبابي السوري سمعت باسم ياسين الحافظ الكاتب والمعارض السوري الذي أرهقه النضال السياسي الى درجة نسيان الذات، وما إن بدأت بشائر الحركة الاحتجاجية في سورية حتى عاد كثيرون الى الإرث الفكري الذي تركه صاحب» اللاعقلانية في السياسة العربية«.

باكراً رأى ياسين الحافظ الثورة السورية، تنبأ بها قبل أن يهزمه الموت الذي باغته على عجل يوم السبت 28 اكتوبر 1978. هذا المتنبئ أحد مؤسسي «حزب العمال الثوري العربي»، أمضى من العام 1969 حتى رحيله الجزء الأكبر من حياته في بيروت، تلك المدينة التي أحبها، وآمن بها، كموقع حضاري.

بين دمشق وبيروت

ولد ياسين الحافظ العام 1930 في دير الزور، المدينة التي وصفها بأنها خليط من القيم الريفية الخالصة والقيم الإسلامية الصوفية. أنهى دراسته الجامعية في كلية الحقوق في دمشق العام 1935 وعمل في وزارة الشؤون البلدية والقروية.

مع بداية الستينات برز كمفكر سياسي، وكان له نشاط نضالي منذ المراحل الأولى لشبابه، ففي العام 1948 أي تاريخ النكبة، التحق بجيش الانقاذ الذاهب الى القتال في فلسطين. آنذاك كان في الصفوف الثانوية، ثم انضم الى حزب البعث العربي فالحزب الشيوعي السوري إلى أن أسس مع مجموعة من رفاقه «حزب العمال الثوري العربي» العام 1964. خلال تجربته القصيرة مع حزب البعث بعد تربعه على الحكم في سورية في أعقاب حركة 8 مارس، قدم ياسين الحافظ مشروع «المنطلقات النظرية» التي أقرها المؤتمر السادس للحزب، لكنه ما لبث أن انشق عنه.

في العام 1967 سافر الحافظ إلى فرنسا بعدما حصل على بعثة دراسية، فعاش النكسة في العاصمة الفرنسية، وكتب عن الهزيمة قائلاً: «عندما نشبت حرب يونيو كنت ما أزال في باريس، في هذه المدينة يمكن للمرء أن يتابع الحرب ويعرف حقيقة مجرياتها أحسن مما لو كان في بلد عربي، حيث التعتيم… لقد أمسكت قلبي منذ أن بدأت الأمور في التأزم، وبالتحديد منذ أن طلب عبد الناصر سحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ، واستجيب الطلب خلافاً لكل توقع، وعندما اندلعت الحرب في اليومين الأولين تملكني خوف من الهزيمة وأمل في الصمود في الوقت نفسه، وما إن أخذ غبار المعركة ينجلي عن هزيمة على الجبهات العربية الثلاث حتى أحسست ما يشبه الزلزلة الممزوجة بالعار». وذهب الحافظ الى أن هزيمة يونيو مؤامرة جرى إعدادها وحبكها منذ زمن، وأطراف هذه المؤامرة كثر، لكن هذه المؤامرة لم تكن لتمر لولا خضوع عبد الناصر للطرح الديماغوجي وللابتزاز السياسي ولولا الخطأ الذي ارتكبه بإغلاق خليج العقبة.

استهل الحافظ تجربة الكتابة عبر نشر المقالات السياسية. في العام 1962 كتب مقالاً في جريدة البعث تحت عنوان «قضية فلسطين بين الواقعية الثورية والثرثرة الديماغوجية» وبعدها تعاقبت مقالاته ومؤلفاته من بينها: «حول بعض قضايا الثورة العربية»، «اللاعقلانية في السياسة العربية»، «التجربة التاريخية الفيتنامية»، «الهزيمة والايديولوجيا المهزومة»، «في الثورة الديموقراطية والمسألة القومية».

في 17 ديسمبر 1959 اقترن ياسين الحافظ بسلوى صادق الحموي، ابنة تاجر الحرير في العاصمة دمشق، وأنجبا هيثم (1960 – 2011) الذي توفي بأزمة قلبية، ورندا ( (1962، ورغدا (1966 – 2010) التي توفيت أيضاً بسبب هبوط حاد في ضغط الدم.

قبل أن ينتقل إلى بيروت تم اعتقاله العام 1968، بعدما دعا مع مجموعة من أصدقائه إلى تأسيس جبهة للنضال المدني ضد النظام، كان ذلك في حقبة صلاح جديد السياسي والعسكري الذي أصبح العام 1966 الرجل القوي في سورية قبل أن تطيح به الحركة الانقلابية التي قادها حافظ الأسد. ستة أشهر أمضاها أبو هيثم في السجن الانفرادي وتعرض لتعذيب نفسي، بعدما أجبروه على النظر إلى جلسات التعذيب بحق السجناء.

بعد انتقاله الى بيروت مع عائلته عمل مديراً ثقافياً لـ «دار نشر الحقيقة» ونشر مجموعة من الكتب تعتبر من الافضل التي ترجمت الى العربية، وكان ذلك خلال الفترة الممتدة بين العامين 1969 و1974. بعدها انصرف الى الترجمة والتأليف في بيته، وكلفه «مركز دراسات الوحدة العربية» إعداد دراسة عن سورية بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، لكنه لم يستطع إكمال بحثه فقد ارتأى مسؤول المركز سحب التكليف بعدما عرف أنه مصاب بمرض عضال.

هذه الحادثة كما تروي أم هيثم لـ «الرأي» آلمته كثيراً. في أواخر العام 1977 أجريت له جراحة لاستئصال كتلة سرطانية في القولون، وكان المرض حينها منتشراً في كل جسمه. تعاون اصدقاؤه وأطباؤه وأسرته على إخفاء حقيقة مرضه عنه، وظن لأشهر أنه يعاني مرضا يمكن علاجه لكنه سرعان ما اكتشف حقيقة الأمر، لذا انكب على انجاز أعماله الفكرية التي بدأها، وحين عجز عن حمل القلم استعان بآلة التسجيل، وقبل وفاته أوصى بأن يُدفن في دمشق.

أم هيثم.. محزونة الدهر

أم هيثم التي فقدت زوجها في 28 اكتوبر 1978 روت تفاصيل حياتها مع ياسين الحافظ منذ أن تعرف اليها للمرة الأولى في دمشق حتى تلا عليها وصيته على فراش الموت قائلاً لها: «لم أتمم كامل واجباتي معك ومع أولادي أرجو ان تسامحيني».

تبدو سلوى الحموي شديدة الالتصاق ببيروت وتحديداً بشارع عفيف الطيبي قبالة الجامعة العربية. كل سكان الحي يعرفون من هي أم هيثم التي فقدت ابنها وابنتها، كل يوم تذهب اليهما وتحاول البحث عن أحبائها.. «ذاكرتي مجزأة بين بيروت ودمشق لكنني لا استطيع ترك منزلي في عفيف الطيبي فقد عشت فترة طويلة من حياتي هنا وولداي دفنا هنا». تسرد لنا تفاصيل حياتها مع ياسين الحافظ كما لو أنه ما زال حياً رغم الغياب الجسدي المؤلم. ياسين نصفها الآخر، تعامل معها بكل رقي وشجعها على التحرر هي ابنة العائلة الدمشقية المحافظة. تبدو أم هيثم أسيرة المدينتين، لكن سجنها الكبير يطل من المعاناة الاجتماعية والمادية التي تعرضت لها مع عائلتها وخصوصاً بعد دخول الجيش السوري لبنان.

حين تدخل منزل ياسين الحافظ تجذبك صور العائلة المنتشرة على الجدران. صورة المناضل والمفكر معلقة على جدار وسط الغرفة، الى جانب صور هيثم ورغدة. تبدو أم هيثم رغم تعبها وحزنها الشديدين امرأة متماسكة، تتحدث عن زوجها بقلب نقي وعقل هادئ رغم حجم الألم الذي أصابها بعدما فقدت كل أسرتها تقريباً.

«رائحة ياسين ورغدة وهيثم تلاحقني في كل زاوية من زاويا منزلي«. ليس في إمكاني العودة الى سورية، أريد الاحتفاظ بذاكرتي، المكان يحميني رغم ألمي الكبير. هذا لسان حال أم هيثم المكللة بالذكريات، وحين تسألها عن ياسين الحافظ ونضاله ضد الاستبداد، تردد «لقد تنبأ ياسين بالثورة السورية وكان يعلم بأن القهر السياسي ومعاناة الشعب السوري سيؤديان الى تفجير الشارع». لكن الحافظ لم يهجس فقط بمخاض «ربيع دمشق» بل أسعفته رؤاه على التنبؤ بالاجتياح الاسرائيلي للبنان العام 1982 . كان ذلك أواخر العام 1960 أي قبل استقراره في لبنان بتسعة اعوام تقريباً.

تروي أم هيثم التي تتقاسم مع الكبير غسان تويني وجع فقدان الأحباء، المضايقات التي تعرضت عائلتها من جانب بعض اللبنانيين خلال الوصاية السورية، وكانت تتمنى حصول أولادها على الجنسية اللبنانية وعلى عمل يليق بمستواهم العلمي، وحاولت مراراً الاتصال ببعض الجهات الرسمية من دون جدوى.

خلال مرضه كتب ياسين الحافظ وصيةً. طلب من أم هيثم أن تتزوج من أحد أصدقائه بعد موته، وحين علمت بذلك بكت طويلاً وما زالت تعيش على ذكرى زوجها داخل الجدران التي كانت تضج بالامس القريب بأصوات الاصدقاء والأحباء.

«لم يفكر يوماً في نفسه، دائماّ كان ينشغل بهموم الآخرين» هكذا تصف أم هيثم ياسين الحافظ الكاتب والزوج، وما إن تسألها عن الروابط المشتركة بينها وبينه تقول «كل منا شكل نصف الآخر».

من الإيديولوجية الى الأقليات

ياسين الحافظ التقدمي الذي رحل عن عمر يناهز 47 عاماً عالج في حياته القصيرة أهم الموضوعات السياسية.

صراعه مع الاستبداد الشرقي اتضح في شكل جلي على المستويين العملي والنظري، ولعل تجربته القصيرة مع حزب البعث هي التي طورت وعيه، فكتب عن الديموقراطية والأقليات واليسار والهزيمة. ويمكن القول إن الحافظ في مخاضه الفكري انتقل من الايديولوجية الى الواقع، وعلى هذه القاعدة وضع أهم كتبه.

مسألة الديموقراطية التي آمن بها وناضل من أجلها في سورية ولبنان احتلت حيزاً مهماً في فكره. إنها عنده «البنيان أو التنظيم السياسي الذي يجعل الظواهر الاستبدادية مستحيلة».

أفكاره تجاوزت الأطر الايديولوجية السائدة لأنه تسلح بسلاح النقد البنّاء، ففي كتابه «المسألة القومية الديموقراطية» ينتقد الاتجاه القومي التقليدي واليساري السوفياتي قائلاً «إن الوطن العربي، خلافاً للمنطق القومي العربي التقليدي وللمنطق الماركسي يشكل وطناً وعالماً في الوقت نفسه، فالاقطار العربية متفاوتة لا بحجمها ومستوى تطورها الاجتماعي والاقتصادي والحضاري فحسب، بل متباينة أيضاً في مكوناتها التاريخية».

سعى الحافظ إلى تعريب الماركسية واخراج القومية العربية من التقليد، ونضجه المعرفي تبلور مع تبنيه لقيم الحداثة باعتبارها الطريق الوحيد لمحاربة التخلف الاجتماعي والثقافي. لم يتوان عن انتقاد النخب الماركسية على الجبهة العربية، ويقول: «إن الليبرالية هي فترة الحضانة للماركسية، هذا الجدل الثقافي الحديث والتقدمي لم يتوافر للماركسية العربية، وهذا مصدر أساسي لمأساتها بل ولفقرها أيضاً». لقد أعاد الحافظ كما يرى محمد جمال باروت انتاج الماركسية بوصفها فلسفة نقدية مأخوذة كأعلى صور العقلانية الحديثة وكسلاح ضد التقليد وضد البنى ما قبل البرجوازية وكأداة ناجعة لعقلنة المجتمع العربي وتحديثه. ومن بين المصطلحات التي وضعها في قراءته للماركسية مفاهيم أساسية من بينها: التفاوت الاجتماعي، الوعي الكوني، الوعي المطابق والميول الجاذبة القوماوية أو الأقوامي والقومي الحديث.

إلى جانب نقده للماركسية والقومية اهتم الحافظ بمسألة الأقليات لأنها شكلت محورا أساسيا لخلاصاته حول التأخر والتجزئة.  اهتمامه بالأقليات يعود الى حادثة تعرض لها حين كان صغيراً، ففي أحياء دير الزور، تعرض لمضايقات من البعض لأنه ابن امرأة أرمنية مسيحية، كانوا يقولون له «أنت ابن النصرانية» لكن الأم في ما بعد اعتنقت الإسلام واطلقت على نفسها اسم فاطمة. هذه الحادثة أثارت لديه البحث عن مسألة الأقليات، ومن بين ما كتبه حول هذه القضية الشائكة مقالة تحت عنوان «أطروحات حول مسألة الأقليات في لبنان» (ديسمبر 1976) خلص فيها الى جملة من النتائج من بينها:

أولاً: مسألة التقدم العربي تصبح أقل صعوبة بقدر ما تتجاوز الانتليجنسيا الأكثروية وعيها الطائفي الضمني إلى وعي قومي عربي علماني ديموقراطي، خصوصاً في حال الأمة التي تعاني نقصاً في الاندماج القومي.

ثانياً: إن المزاج الأقلوي النازع الى الخروج من الوضع الأقلوي ينطوي من حيث المبدأ على عنصر تمردي وديموقراطي، وهذا ما يفسر ظاهرة وفرة العناصر التقدمية والثورية الآتية من صفوف الأقليات. لكن طبيعة تطور دور الاقليات يتحدد في ضوء عاملين: مستوى التطور الإيديولوجي والثقافي والاجتماعي الذي أصابته الأقلية بوجه عام ونخبتها في شكل خاص، ومدى اندراج منظورات النخبة الأقلوية في التحرر والتقدم في منظورات قومية شاملة تعانق الأمة ككل خصوصاً الأكثرية.

ثالثاً: مشكلة الأقليات هي إحدى مشاكل الأكثرية ومعيار وعيها الديموقراطي.

الفترة التي أمضاها الحافظ في لبنان وتحديداً في بدايات الحرب الأهلية جعلته يعاين الأزمة الطائفية والجدل حول الأقليات، ورغم أنه دائماً تغنى بوجه بيروت الحضاري، إلاّ أنه انتقد الحال الطائفية السياسية، فهي بالنسبة إليه «بمثابة نموذج عربي مدفوع الى حالته القصوى، فالتكسير الطائفي في لبنان هو الذي جعل الديموقراطية اللبنانية عاجزة عن تطوير بنية لبنان السياسية والاجتماعية والثقافية… الديموقراطية اللبنانية ديموقراطية مخصية والطائفية هي الخاصي، والصراع الطائفي والتشارك الطائفي كلاهما أوقف ويوقف وسيوقف تحول لبنان الى وطن». وتوقف الحافظ أمام الانتليجنسيا المارونية، فانتقد عدم قدرتها على «الاستيعاب الصحيح للثقافة الغربية بحيث تملك وعياً إجمالياً مطابقاً أو مناسباً، بسبب الشعور الأقلوي بالانفصال عن بقية الأمة العربية».

راهنية في زمن الثورة

الديموقراطية، أمن الانسان، سيادة القانون، إحياء الدولة، المساواة الاقتصادية، محاربة الاستبداد باسم الإيديولوجية، هذه الموضوعات التي أمضى ياسين الحافظ عمره في الكتابة عنها تدخل اليوم في عمق «ربيع دمشق». ولعل الشعارات التي رفعها الجيل الشبابي اليوم داخل المدن السورية لا تختلف كثيراً عن هموم هذا المناضل.

ماذا لو كان ياسين الحافظ حياً في زمن الثورة السورية؟ حين نطرح هذا السؤال على أم هيثم تجيب «طبعاً سيكون سعيداً لأنه كان دائماً يحارب من أجل الانسان ومن أجل الوطن، حتى أنا لم أصدق حتى الآن ما الذي يجري، أشعر بأن ياسين الى جانبي فهو لا شك سيبارك الثورة التي يقودها هؤلاء الشباب».

في 13 نوفمبر 1979 كتب المفكر السوري الياس مرقص (1929-1991) صديق ياسين الحافظ وأحد أبرز المنادين بالتقريب بين الماركسية والقومية، مقالاً في صحيفة «السفير» اللبنانية جاء فيه: «حزب ياسين الحافظ، أي الحزب الذي ينتمي اليه ياسين الحافظ، هو حزب كل انسان، وليس حزب النخبة، حزب الوصاية على البشر، إنه عكس حزب الوصاية، إنه ضد حزب التبعية والوصاية بالتلازم، فالتجربة شاهدة على هذا: الأتباع أوصياء، الأوصياء أتباع، وانتماؤنا هو لحزب الانسان ضد هذه التبعية الوصاية، ضد هذه العبودية السلطانية… أما الخلاص من استثمار الانسان للإنسان وتحقيق المساواة فهذا أمر نؤجله ونتركه لأحفاد أحفادنا».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى