يا أبي، يا ابني/ أندريه شديد
الآن وقد تجاوزتُ عمركَ، ما زلتُ أفكّر فيك كثيراً، يا أبي، كما لو أنّي أفكّر في أخي الأصغر. قبل بضع سنوات، كنتُ أراك مثل ابني. ابنٌ غاب عنّي طويلاً وظلّت صورته عالقة في أعماق ذاكرتي، لم يُغيّرها الزمن. لكنّك لستَ أخي ولستَ ابني. أنتَ أبي. أعرفُك على هذا النحو، في الثّانية نفسها، في الحركة ذاتها.
خلال طفولتي المصريّة، كان وجود الآباء والأمّهات مفصولٌ عن وجود الأطفال بشكل تامّ. ترتيبُ غرفنا في أماكن متقابلة، مع وجود مدبرةٍ لبيتنا الرّحب، أرخى ستارةً دائمة بيننا، أبقانا في عالمين متجاورينِ غير قابلين للاختراق، يتلامسانِ دون أن يلتقيا. حتّى وجباتنا لم نكن نتناولها معاً. ونادراً ما نحظى بقبلةِ ما قبل النوم على السرير. لأنّ في تلك الساعات، كان والدايّ يقفان أمام المرايا الثّلاث للحمام، كلٌّ في غرفته، وهما يستعدّان على مهل، وبعناية شديدة، لخرجاتهما المسائية.
من السّابعة إلى العاشرة من عمري، احتفظتُ بذكرى عن والدِي بقامته المديدة والعابرة وهو يلبسُ بذلاتٍ داكنة، لا تشُوبها شائبة، أو معطفاً طويلاً مصنوعاً من التّوسور أو القماش الإيطالي. وحين ينحني لتقبيل خدّي، بشكلٍ خفيف، تنبعثُ من هيئته بالكامل رائحةُ كولونيا من نوع “أتكينسون”، التي يضعها دائماً في زجاجةِ عطرٍ على طاولة السرير. كان وفياً لماركاته المفضّلة: لوسيون لأتكينسون، سجائرُ جياناكليس، ويسكي جوني والكر، ربطاتُ عنق شي شارفي، بقدرِ وفائه لحلّاقه وأصدقائه وخيّاطِه.
أتذكّرُ، كنت تُربّي الشاربَ نفسه ولا تغيّر تصفيفَة شَعرك. كنتَ وسيماً، تلتزمُ الصمت، ويداك مُثيرتان للإعجاب. ولأنّني قضيتُ جزءاً من مراهقتي في القاهرة، في سكنِ الطالبات، ثمّ في مدراس بالخارج، لم ألتقِ بك إلّا نادراً. وكلّ هذه المسافات أبعدتكَ شيئاً فشيئاً عن ناظري. لم يكن إجراءُ مكالمةٍ بالهاتف من قارة إلى أخرى شائعاً كما الآن، وأنتَ لم تكن تكتب الرّسائل، لم تكن تقوم بأيّ شيء من أجل دوامِ الصّلة بيننا. في المقابل، كانت أمّي، المُفعمة بالخيال والحماس دائماً، تجدُ ألفَ طريقةٍ لاستمرار هذه الصّلة. كان صوتُك يتلاشَى من ذاكرتي، وصورتُك تفتقد إلى الوضوح.
هذا الحرمان – إن كان ثمّة حرمان – لا يمكنني القول بأنّني عانيتُ منه أو ألومَك عليك. لقد منحَتي الحياة أسباباً كثيرة أعتزُّ بها. كنتُ أُقدّر حريةَ الآخرين بشكلٍ طبيعي مثلما أقدّر حرّيتي، ومتعلّقةً بفكرة أن تكون لهم أيضاً استقلاليةٌ وحميميّة. ربّما لكي أحمي نفسي من نارِ الحقد التي قد تُصيبني في المقامِ الأول، وقد كنتُ دائماً أُبقي نفسي في منأىً من الشعور بالإحباط، لأنّني كنتُ أعرف غريزيّاً أنّ الضّرر الذي قد نتسبّب به لوجوهِ الآخرين يمكنُ أن يُشوّه ملامِحنا الخاصّة. وسوف يمرُّ وقتٌ طويل قبل أن نَجتمع تحت سقفٍ واحد، في عام 1938. كنتُ في الثّامنة عشرة من عمري، قادمةً من أوروبا. وكنتَ مطلّقاً منذ بضعِ سنوات.
كنتُ أشعرُ أنّك قلِقٌ من تحمُّل مسؤوليةِ هذه الطّفلة، ابنتكَ، الّتي كبُرت بعيداً عنك، وصارت امرأةً شابّة في غفلةٍ منك. كنتَ تتساءل دون شكٍّ كيف يجبُ أن تكون علاقةُ “الأبِ بابنته” وأيُّ سلوكٍ يجبُ عليك اتّخاذه؟ كانت التوافُقات الاجتماعية، الّتي لم تكن تُعيرها أيَّ اهتمام – ليس رغبةً في البقاء على الهامش، وإنّما تفضيلاً للعيشِ ببساطةٍ دون ترتيب – تفرضُ عليك هذه المرّةَ أن تفكّر لي في زواجٍ قريب والسّهر على إتمامه في أقربِ وقت. هكذا صرتُ أنا همُّكَ الوحيد، وكان اضطرابُك يثيرُ ابتسامتي. وحين واجهتُك مباشرةً – ودشَّن هذا بيننا حواراً صادقاً وصريحاً، ولو لفترة قصيرة -، أفهمتُك أنّني سأملكُ زمامَ حياتي بين يديّ، مهما حدث من أمر، بدءاً وخصوصاً من اختيارِ مَن أُحبُّ. لم أنطق بكلمةِ “زوج” ولا بكلمة “شريك حياة”، لم أكن مستعجلةً في هذا الأمر، إذ كانت لديّ عن الزواجِ وجهاتُ نظرٍ شخصية وغير تقليدية. أثارت هذه التّصريحات ارتياحك. وتهاوت أمام خياراتي الأحكامُ المسبقة للآخرين، والتي كنتَ تظنّ أنّه لا يمكن زعزعتُها. ومنذُ تلك اللحظة، استقرّ بيننا جوٌّ من الثّقة، من التّواطؤ الضمني، الذي لم تتراجع عنه أبداً.
كان المجال حُرّاً أمامي. وكنّا نعرف، أنا وأنتَ، أنّني لن أسيءَ استغلالَه. تعلّمتُ أن أحترمك، والأهمّ، تعلّمتُ أن أحبّك. لا شيءَ كان يجمعُ بين أذواقنا، وبين آفاقنا ومشاريعنا، لكنّني كنتُ أقدّرُ تحفّظك، وبساطتك، المتعارضة مع مظاهرِ وفخامةِ الوسط الذي كنتَ تعيش فيه. كانت حياتُك تختلف جذريّاً عن السنوات الأولى من زواجك، التي أدخلتكَ في زوبعةٍ من السّهرات والحفلات لا تُشبهك. وبعيداً عن الأحياءِ السكنية المشيّدة على ضِفاف النيل، اخترتَ العيشَ في شقّةٍ متواضعة كنتَ تملكها وسطَ المدنية. كنتَ تُقيم في شقّة من طابقين وأربع غرف، وصرنا نتشاركها منذُ ذلك الوقت. كان الأثاثُ القديم رائعاً: صالون ذو لون أحمر، طاولةٌ من الكريستال، وبوفيه موقّعٌ من طرف جانسن، يبعثُ على السخرية في ذلك المكان الضيّق. لم يكن يضايقك هذا النقصُ في الانسجام. تتناول عشاءكَ كلّ مساء في نادٍ للألعاب، وتتجنّب الغذاء في البيت بدون رفقة. كان الأصدقاء أنفسهُم يتناوبون على زيارتك، أتذكّرُ واحداً من بينهم، كان طبيباً، مملّاً وحسن الوجه، كنتَ تشاركه وجباتِ طعامك، وصمتك، وجولاتٍ من لعبة الورق والطاولة، تتخلّلها شتائمٌ وقهقهات.
أمّا بالنّسبة لفتُوحاتك الغرامية، الّتي سأكتشفُها في وقتٍ لاحق، فقد كانت كثيرة. قوامُك الوسيم، مضافاً إليه الكثيرُ من الهدوء والتّواضع، لا بدّ أن يُغري أكثرَ من امرأة، لكنّك كنتَ تلتزم، في ظنّي، بعلاقةٍ لطيفة وسرّية، خلال فتراتٍ من الزّمن لا تُؤثّر على حياتنا المشتركة. لم أكُن يوماً شاهدةً على لقاءٍ، ولم أتلقّ يوماً مكالمة من إحداهنّ. كنتَ تهتمّ بنفسك، كما في الماضي. ليس بدافعِ الغرور، ولكن فقط رغبةً في البقاء بعيداً عن الأعيُن، لا تثيرُ أدنى صوت، لا تترك أيّ تفصيل قد يدلُّ على مُرورك. حليق الوجه دائماً، الشّارب مقصوص بعناية، ولا أثرَ لبُقعٍ على ثيابك، لا توجد ثنيةٌ نافرة على سُترتك أو قميصك الحريريّ، الفضيّ اللّون وعليه رقمُك الخاص. كانت دائماً تزيّنُ محيّاك ابتسامة في غايةِ الرقّة، مائلة قليلاً على الجانب. كنتَ تعرف كيف تُنصت من دون أن تُقاطع. وهل كنتَ تُنصت فعلاً؟
اثنتان وعشرون عاماً تفصلنا فقط، يا أبي، ولكن – هل هو الزمن؟ – لقد كنتَ تبدو أكبر من سنواتك الأربعين! أقُولها مع نفسي وأنا أشاهدُ صُورك، خصوصاً الآن حيثُ المسافات انعكست تقريباً. لقد تحدّثتَ لي سابقاً عن عُمرك وأنتَ تتأمّلُ الماضي. كنتَ تُردّدُ جملةً بدت لي غريبة آنذاك، وصارت تبدو ثمينةً اليوم:
-الآن وقد صارت الحياةُ ورائي، تبدأُ حياتكِ…
أنا تابعتُ دروساً في الجامعة كنتَ تراها بلا فائدة، لكنّكَ لم تُحاول أبداً إقناعي بتركها. كنتُ أحبّ الرّقص والمسرح بجنون، ولم أكُن مرتاحةً في المجتمع، لقد ترعرتُ على جناحيّ الخفّةِ والسعادة. لم تحضُر أبداً إلى تلك العروض: وعموماً أنا لم أكُن أدعوكَ إلى حضورها.
هكذا تعلّمتُ أنّ بإمكاننا أن نُحبَّ دون أن نتقاسم كلّ شيء، بإمكاننا أن نكونَ قريبين ومتضامنين حين نتجنّبُ الفضول والتدخّل في شؤونِ الآخر. بعد أربعِ سنواتٍ من عودتي، تزوّجتُ. أنتَ كنتَ موافقاً، موافقاً على رغبتنا في تقليصِ مظاهر الاحتفالِ الشّائعة: حفلُ زفاف وحفلُ استقبال. كنتُ ألبسُ ثوب عروسٍ أبيض، وحبيبي كان يلبسُ بذلةً زرقاء داكنة. قُمنا بدعوة الأقاربِ فقط. كان يجتاحُني إحساسٌ بالتمرُّد ضدّ كنيسةٍ أعتبرها ضيّقة الفكر ومنصاعة، وضدّ مجتمعٍ أراهُ غافلاً وسفيهاً. أنتَ لم تكُن لديكَ أحكام. كنتَ غير مبالٍ بالاحتفالات، بالهرج والمرج، كان طَبعُك يميلُ تلقائياً نحو البَساطة. كنتَ لطيفاً من دون تصنُّع، نائياً بنفسكَ من دون انتقاد.
في الثّامنةِ والأربعين، كنتَ ضحيّة الأزمة الأولى، انسدادُ شرايين القلب. خرجتَ منها بأعجوبة، لكن مُتأثراً وعجوزاً، أبيضَ الفودين، الجانبُ الأيسر من وجهك مشلولٌ، قوسُ الحاجب غائر، محجرُ العين منكمش، الفكُّ العلوي منهار. صارت ابتسامتك، التي طالما أحببتُها، سجينةً خانعة، جامدةً على مرآةِ عضلاتِ وجهك. ابتسامةٌ معلّقة بشكل مؤلمٍ على فمٍ مائل. ظهرُك انثنى قليلاً وفقدَ بضعَ سنتيمترات، بحيثُ بالكاد تقومُ بإسناد قامتك العالية. كنتَ تتمشّى متّكئاً على عكّاز، اخترتَ له بتأنّقٍ نوعيةَ الخشب، والسُّمك، والمقبض. إنّي أراك ثانية، يا أبي، يا أخي، يا ابني، وأنتَ تتقدّم بخطىً صغيرة، محاولاً أن تقلّل من ضعفك، وتُنقص شيئاً من حُزننا. كان الخادم -الطبّاخ “علي”، بجلبابهِ الأبيض الطويل، يتكفّلُ بوجباتِك ولباسك منذ عشرةِ أعوام، يُساعدك على ارتدائها وتغييرها. كان يحافظُ جيّداً على قماشِ ملابسك وبذلاتك، لأنّك بقيتَ دائماً حريصاً على العنايةِ القصوى بمظهرك. وبحسبِ توصيات الطّبيب، كان يجبُ عليك كلَّ مساء “استنشاق الهواء”. يقُودك السّائق “لطيف”، الذي لم تكن تسمح لهُ بلمسِ المِقود قبل أن يُصيبك المرض. إذ كان مكلّفاً فقط بصيانةِ السيارة، والبحثِ عن مكانٍ لركنها – وتلك مشكلةٌ في هذه المدينة التي كانت أقلّ ازدحاماً بالسكّان من اليوم -، كان يُراقبك من مرآةِ السيارة، ويندهشُ من جلوسِه مكانَك الذي اعتدتَ أنتَ الجلوس فيه.
كنتُ أرافقك دائماً في هذه النّزهات، على طولِ كورنيش النيل، أو على الشّارع الذي يؤدّي إلى الأهرامات. كنّا نتفادى الحديث عن حالتك الصحية، لأنّك لا ترغبُ في ذلك. كنتُ أمسك يدك في يدي، ولا نتحدّث إلّا قليلاً. باستثناء الحديثِ عن مصر، العزيزة عليك كثيراً، والتي نَجت بأعجوبة من الحرب – كنّا في عام 1946 -. إنّها واحة، كنت تقول وتكرّر، إنّها واحة!
في يونيو/ حزيران 1948 ماتَ أبي. وكان قد وصلَ لتوّهِ إلى سنّ الخمسين.
***
في ما بعد، من خلالِ حكايتي الخاصّة، ممزوجةً ببعض شَظايا تاريخِنا المشترك، حدثَ لي أن تساءلتُ عن شخصيتك. لقد كنتَ وسيماً، ثريّاً، وكان الجميع يُدلّلك. لكن من أينَ داخلَك هذا الإحساس بعدمِ الأمان، الذي ليس غريباً عليّ تماماً؟ لم أعهد فيكَ أيّ شعور دينيّ حقيقي، أو فلسفةٍ ما، فمِن أين اكتسبتَ إذاً هذا الانمحاء، هذا التّواضع؟
أحياناً، أضعُ يدي في يدك، ونتمشّى في الشّوارع المزدحمة للقاهرة، أو نجلس على إحدى طاولات مقاهي باريس المفضّلة لديك في الصّيف، بجوارِ مبنى الأوبرا، ومعاً نشاهد الناس يمرّون. أو حين نختار العبور من ممرّات مختلفة، فينتهي بنا المطاف دائماً إلى اللّقاء، كما في نهاية كلّ الطرق الأرضية، عند نقطةِ اللّاعودة. أنا أسألُكَ. ماذا فعلتَ بحياتك؟ هل كانت تروقُ لك؟ من أيّ نقص عانيتَ؟ من أيّ عذابٍ، من أيّ عطش؟ يبدو أنّك ستجيبُ بأنّني أقوم باختراعك، وأنّك لم تكن تشعُر بأنك تَعيس أو محروم. وفي الوقتِ ذاته، أتذكّر بالضّبط ذلك اللّمعان الماكر والعنيد بداخل عينيكَ الخضراوين. لمعانٌ لا يطرقُ الأبواب، ولا يفرض على نفسهِ الرجوع. أنتَ كما في الماضي، لا تريد أن تُثقل على حياتي، أو تترك عليها بصمةً لا تُمحى. تتركها تتدبّر أمورها، وتختفي بِلا أسف. وتقول:
– حياتي ورائي، وحياتُكِ هي الّتي تبدأ..
صحيح، كما لو أنّ دَماً واحداً يسري في عروقنا معاً أحياناً، هكذا أتوقّعُ أن يكون عبورُ حياتي نحو القادمين ومن سيتبعُهم. هل تحدّثتُ كفاية عن نظرتكَ المُشاكسة؟ إنّها شيطنةٌ مقنّعة – ومع ذلك، ما تزال هنا، متجذّرة في الروح – أجدُها أكثرَ وضوحاً، وأكثر تصريحاً، في عيونِ ابني السوداء. بل أجدُها حتّى في ذلك التألّق المُنبعث من عيونِ أحفادي، الذين هُم أيضاً صاروا مألوفين بالنسبة إليّ، كما لو أنّهم منابعُ للصّمت وللحياة.
المترجم: ترجمة من الفرنسية: نجيب مبارك
ضفة ثالثة