يا «إخوان الأردن»… لا تـُخرجونا من حزبكم فتصيبنا المعصية/ حازم الامين
الصدع الأردني تحرك مجدداً. ضرب هذه المرة في عمق جماعة الإخوان المسلمين في المملكة. ذاك أن ثلاثة من قادة الجماعة شاركوا بإطلاق مبادرة سياسية تجاه السلطة وتجاه «أطراف المجتمع الأخرى» دعيت «مبادرة زمزم»، أقدمت قيادة الإخوان على فصلهم من التنظيم. ومرة أخرى رُد الإجراء العقابي إلى عمقه الجهوي. فالقيادات الثلاثة المفصولون شرق أردنيون، فيما القيادة الحالية للجماعة أردنية «من أصل فلسطيني». علينا أولاً أن نستبق ردود أفعال على هذا التقسيم «الساذج» والتبسيطي لتوزع النفوذ داخل قيادة الجماعة الاردنية. نعم هو تبسيطي، لكن وظيفة التبسيط هنا هي تجريد المشهد الاخواني من تعقيداته الأخرى لتسهيل تناول القضية. فالكل يعرف أن الخطوة، حتى لو لم تكن وراءها دوافع جهوية، خلفت مخاوف ومرارات تنتمي الى فالق الانقسام هذا.
الفالق الجهوي الأردني يتحرك ما إن يشعر أن وهناً أصاب طرفاً من أطراف المعادلة الوطنية في المملكة. والاخوان المسلمون أصابهم الوهن من دون شك في أعقاب «الصفعة المصرية» التي ترددت أصداؤها في وجدانات جميع فروع الجماعة في العالم. ويبدو أنها في الأردن أصابت في الإخوان وجداناً فأطاحت حكمة لطالما تحلت بها الجماعة في إدارة توازناتها الداخلية. فالخطوة، أي فصل القيادات، غير مسبوقة لجهة وضوحها وقلة اكتراثها بارتدادات القرار، وهذا ما سهّل عملية إحالة ما جرى الى مضمونه الجهوي. أي خلو القرار من السياسة بوصفها في الأردن إدارة لمنازعات سابقة على تشكل الجماعة. كان قراراً نزقاً، لكنه كشف للمرة الألف أن الوطنية الأردنية بمركبيها الجهويين ما زالت تحتاج الى جَسْرٍ، حتى داخل حزب شديد التماسك وقوي البنية، وإن كان غير فتيها.
إنها «الصفعة المصرية» وقد ترددت أصداؤها في مختلف البؤر الإخوانية. في تونس امتصت النهضة الصفعة مستعينة ببراغماتية راشد الغنوشي، فتنازلت عن الحكومة وتقدمت خطوات نحو شرائح المجتمع الأخرى. في الأردن انقبض جسم الجماعة، وانجذب نحو نواته الصقورية وراح ينبض وينتفض على نحو احتضاري. القيادة التي كانت رفضت، في أول «الربيع الاخواني»، عرضاً حكومياً أردنياً غير مسبوق لشراكة «ناقصة» منتشية بصعود التنظيم الأم في مصر، ها هي اليوم تُكرر الخطأ وتُمعن في الانقباض، فيتحرك الصدع ويصفع وجهها.
القيادات التاريخية في الجماعة الأردنية مثل، عبداللطيف عربيات واسحاق الفرحان، كانت تحركت لتستبق الواقعة، والسيف لم يكن قد سبق العدل، فالقرار لم يكن لينتظر حكمة شيوخ المرحلة غير «الحمساوية» في التنظيم. فُصل رحيل الغرايبة وأصدقاؤه من الجماعة على نحو حاسم، وشكل ذلك صدمة كبرى ترددت أصداؤها في الجسم التنظيمي كله. ذاك أنه انطوى على وضوح غير مسبوق في مضمونه ووجهته. ثلاثة قيادات شرق أردنية من جماعة الاخوان المسلمين يتم فصلهم من قبل قيادة «غرب أردنية» الهوى والميول. وبعد هذا الوصف الانفعالي تأتي التوصيفات الأخرى، لكن بعد أن يكون الوصف الأول قد أدى دوره.
والحال أن الصدع الأردني غير جوهري إذا ما قيس بالصدوع الجوهرية المشتعلة والمشتغلة في الأقليم كله. أي الصدع الطائفي والصدع المذهبي والصدع القومي. والأردنيون يميلون الى تسمية تخفيفية هي «الصدع الجهوي»، وهم محقون في التسمية، أولاً سعياً لاستيعاب ارتداداته، وثانياً لأن الكوارث التي خلفها أقل بكثير من قريناتها العربية. لكن التسمية لا تكفي لتجاوز المضمون. فـ «الصدع الأردني» مَحْقون بجرعات سياسية عالية. الانسجام المذهبي والطائفي والشبه الاجتماعي لا يكفيان هنا. ها هو اليوم يتحرك ويضرب جسم جماعة حزبية من المفترض أن يكون منسوب تماسكها أعلى من متوسط منسوب التماسك العام في المملكة.
لا شك في أن فلسطين قضية مركزية من بين عدد من قضايا فالق عمان، لكن يبدو أن قضية أخرى مرتبطة بها ستكون وقوداً لهذا الفالق غير الساخن. قضية إسمها «الإخوان المسلمون»، فهؤلاء الأخيرون أكثر جماعة من بين الجماعات الاخوانية شبهاً ببلدهم. الخاصرة الشرق أردنية التقليدية ركيزة للحركية غرب الأردنية الفلسطينية. هذا في مراحل الصعود، لكن ما إن تضطرب الجماعة حتى يتحرك الصدع ويجعل من المعادلة مقلوبة. المضمون التقليدي للعمق الشرق أردني يصطدم بالجوهر غير الأردني لجماعة غربي النهر في القيادة.
انتشت الجماعة بالنصر المصري، وفاضت بطموحاتها على ضفتي النهر، فجاءت الصفعة قوية في أعقاب ذلك.
وتبدو الحاجة الى غنوشي أردني ضرورة اليوم. الحكمة تقضي ذلك، والسياسة أيضاً. ذلك يعني أن على الجماعة أن تعيد صياغة علاقاتها بالسلطة على نحو مختلف. لقد خسرت الجماعة رهاناً كبيراً، ولم يعد بإمكانها أن تقول لا لخطوة انفتاحية كتلك التي خطتها «زمزم». السياسة تعني ذلك تماماً، أما فصل القيادات فهو فعل قريب من الانتحار. والغريب أن البنية النفسية الجماعية للإخوان تستبطن أحياناً ميلاً للانتحار. فمرة كادت جماعة الإخوان في سورية أن تعلن عن حل نفسها والعودة الى المنازل. والميول الانشقاقية والانشطارية في الجماعات الاخوانية تصدر وجداناً فنائياً أحياناً.
من يعرف قليلاً عن الإخوان المسلمين الأردنيين لا ينتظر من قيادتهم قراراً صارماً ونزقاً من هذا النوع، ذاك أن الفصل من التنظيم هو بمثابة إخراج المفصول من الجماعة، والجماعة هي «الأمة»، واخراج المفصول من الأمة هو إخراجه من الدين!
ليس هذا ما قالته الجماعة عن مفصوليها طبعاً، لا بل هي قالت انهم غير مخونين. لكن سيف الفصل حين يُشهر بوجه المريد يندفع مستعيناً بقوة الإخراج من الجماعة ومن الأمة.
ألستم أنتم الأمة أيها الإخوان المسلمون… إذاً لا تخرجونا من حزبكم، فتصيبنا المعصية.
الحياة