يا بيروت، انبشي في بطون الكتب لأجل «أمل سورية»
سوسن جميل حسن
نتحرّك في دوامة من العنف والجنون القاتل، لأننا لا نستطيع ألاّ نتحرك، لا نستطيع أن نموت الموت اللائق بنا، مثلما لا نستطيع أن نعيش الحياة التي نحلم بها، إنها الحرب. لا يهم أي حرب، إذ ما جدوى التسميات وما الفائدة من التعريفات؟ هل هناك حرب أخلاقية وأخرى غير أخلاقية؟ هل هناك حرب رحيمة وأخرى أقل رحمة؟ هل هناك حرب عادلة وحرب غير عادلة؟ بين الحرب والدفاع مسافة، لكن اللغة مواربة وماكرة وخادعة بقدر مكر وخداع نياتنا.
على وقع دوي الحرب بكل أصواتها وصورها نتحرك هائمين خلف أحلامنا ونحن نكاد لا نصدق ما يجري حولنا. ومؤكد أننا لا نفهم، ومع ذلك كان لا بدّ من قيام معرض بيروت للكتاب في دورته السادسة والخمسين.
هل تشيخ المعارض أيضاً؟ وهل يتزامن عمرها مع عمر الإنسان؟ وماذا لو كان عمر الإنسان يقصف باكراً في هذه البقعة من الأرض المصابة بلعنة أزلية؟ كنت أظنّ أن معرض بيروت لا يشيخ، فقد كان حاضنة الكلمة الحرة والرأي الحر. كان معرض بيروت احتفالاً سنوياً لمواسم الخير فيما ينتجه مبدعو هذا الوطن. كان الحلم والقبلة التي يتوجّه إليها كل حالم بأن يطرح أفكاره إلى ميدان التداول الديموقراطي للأفكار، وكان ملاذاً للهاربين من الطاغوت بكل تجلياته. كان معرض بيروت يحتفي بأصحاب الإرادة الحرة، بكل من رفع قلمه في وجه الاستبداد السياسي أو الديني أو الاجتماعي وغيرها من سلاطين القمع والكبت، يفتح قلبه للحب والحياة، وكانت أروقته وأجنحته تمور بالحركة، وتطن مثل النحل وقد أسكره الرحيق. لكن معرض بيروت في عامه السادس والخمسين بدا مثل كهل داهمه الشتاء فأصاب مفاصله برثية حادة، وأثقل صدره بزلة تنفسية، وأصاب حنجرته ببحة أفقدته القدرة على الكلام، فقبع مواجهاً للبحر واجماً يتنازعه الحنين والذهول.
بيروت التي نهضت من حربها ما زال الصدى يؤرق ليلها، كيف وهي لم تُشفَ بعد؟ كيف والرصاصة ما زالت مستقرة بين القلب وشغافه؟ كيف وهي تمعن النظر في وجوه أبنائها فتقرأ الواقع نفسه، برغم كل محاولات إخفائه بكريمات التجميل؟ بيروت تقرأ التجاعيد وتبكي، تبكي إذ تراها تتحوّل إلى مديات تومض بكل أسباب الحرب. كل وجه يصرخ صامتاً أنا ابن الفئة التي تملك الوطن، وأنا من هذا الحزب الذي من حقه القرار، وآخر يصرخ أنا رسول الجهة مالكة المصير. كل الوجوه تصرخ بصمت وهي تختلج على وقع النبض السوري، قدرنا هكذا بعدما تمكنت منّا ثقافة التقسيم، بدعة سايكس بيكو بكل دهائها وجبروتها، فضيّعنا الطريق وأخذنا نتدافع بين التيارات بكل تناقضاتها. جرفتنا أمواج عاتية من التعصب الجاهل وسلّمناها مصيرنا مثل قطعان فقدت ذاكرتها وضيّعت إدراكها لذاتها ولم يبقَ في رأسها غير صورة الراعي وعصاه. لا العروبة جمعتنا، ولا القومية وحّدتنا، ولا الدين نقّى نفوسنا، ولا منارات الاشتراكية رفعت الظلم عنا، ولا التيارات المستقلة تقدمت بنا، ولا الليبرالية المستوردة فتحت أنفاقنا. ضيّعنا البوصلة، وتمسكنا بأسلحتنا نرفعها في وجوه بعضنا البعض بعصبية قاتلة، كان الطاغوت يغذيها في نفوسنا.
إلى بيروت التي حضنت أفكار الحرية والعدالة والمساواة والتكافؤ وغنت للجمال الإنساني والخير والمحبة والقيم النبيلة، التي أقامت منابرها الثقافية ليعتليها كل من لديه كلمة يخاطب فيها وجدان ووعي هذه الشعوب المنكوبة بأنظمة صادرت مصيرها. جئت من سورية أحمل جراحي، جئت حاملة كفني المطوي تحت ثيابي، أتخفى من الموت المقيم بين تفاصيل الحياة، من قتلة الفكر والحياة، من شبيحة هذه البلاد بكل ألوانها. إلى بيروت جئت أكابر في عصمتي واتزاني، أناور حزناً وبكاء يستبدان بوجداني، أحلم برغم أوجاعي بأن بيروت ستطبطب على كتفي وتعدني بيوم قريب يكون فيه الوطن معافى. سأوقّع روايتي «النباشون» وسيباركني الأصدقاء والقراء، وسنتواعد معاً على العمل يداً بيد على شفاء النفوس التي طالها الطغيان في صميم وجودها، أليس المثقفون هم رافعة الثورات؟ أليسوا هم من أوصلوا الشعوب إلى لحظة الحقيقة؟ أليسوا هم من أيقظوا وعيها ودفعوها إلى الصراخ والانتفاض في وجه الظلم؟ فما الذي دهاهم اليوم؟ أسئلة وتأملات وشطحات تشبثت بها في صمتي وأنا أتفرس الوجوه الذاهلة، إلى أن أتتني تلك الرسالة محمولة على لسان امرأة ورجل تقدما بنسخة من «النباشون» وطلبا مني أن يكون الإهداء إلى «أمل». قال لي الصديق: أمل سيدة من دير الزور تعيش اليوم خارج سورية، فقدت أبناءها الأربعة في الثورة السورية، وقد طلبت منا نسخة من روايتك بإهداء خاص لها.
«أمل» الأم السورية قذفت بي إلى أقاصي الروح، زجّتني في لجة كثيفة معتمة من الشعور الشرس. أمل جمعت سورية في قبضة فاجعتها ورمتني بها جمرة تحرقني من العمق حتى السطح، وتنطمر تحت رمادي لتتوهّج من جديد.
ماذا أكتب لأمل؟ ماذا أكتب للأم السورية التي قدرها أن تدفن فواجعها وتقف على تربتها تربي الأمل في نفوس من بقوا؟
ماذا أقول لأمل التي سهرت الليالي تغني لأطفالها: «نام يا صغيّر نام لأدبحلك طير الحمام»، ثم تستدرك الكذبة لأنها تمقت الذبح حتى للطيور، فتعتذر من الحمام: روح يا حمام لا تصدق، بكذب عا صغيري تا ينام. وعندما كبر أطفالها جرفتهم الحياة التي فصّلها طغاة البشرية إلى ميادين الموت. الموت الذي لا يشبه موتاً، إنه يعيد حكاية قابيل وهابيل، فهل قدرنا أن تحكمنا الأساطير والحكايات المتوارثة والمنظومات الفكرية المتبدلة بتبدل أثواب الطغاة؟ هل قدرنا، نحن أمهات هذه البلاد، أن نكون جسراً تمر عليه كل أنماط الثقافة الذكورية المستبدة بعقول الناس؟
نحن الأمهات يا بيروت نعيش بالمحبة، وتقف قلوبنا خلف عقولنا فنصنع الحياة كما تليق بالإنسان. نحن الأمهات نعشق الحرية، ونزدان بالكبرياء ونستهدي إلى طريقنا بالكرامة، هذا ما كنا نريد تعليمه إلى أبنائنا، كنا نريد لأبنائنا ثورة كرامة تهدر بها الحناجر للحرية تحت فيء أغصان الزيتون، لكن البارودة رفعت في وجوههم، وصوت الرصاص وهدير الدم جلب القتل بأسلحة أخرى، فدمّرت البلاد، وقُطّعت أوصال الوطن، وفتحت أبواب الجحيم على مصاريعها، يتسلل منها طالبو الموت باسم الشهادة يحملون في جعباتهم ذخيرة وفي جيوبهم كتب القوانين الناظمة باسم الرب والدين وشريعته، محاولين سرقة ثورة الشعب، وحرق أغصان الزيتون، فيزداد بطش النظام، وتزداد الفرقة والشقاق بين الأخوة في الوطن، ويزداد الناس اصطفافاً حوله.
يا أمل، أخجل منكِ، لا أستطيع النظر في عين فاجعتك فأنا أقصر قامة بكثير، لكنني أستطيع أن أسمع نبض قلبك المحروق الذي يقوم كل يوم من رماده لأجلنا ولأجل الوطن. أمل، يا أختي الأم السورية، لقد خُلقنا لأجل الأمل، وإلاّ كانت الحياة ستموت، من غيرنا يملك البطن الخلاقة؟ من لا يملكها لا يعرف قيمة للحياة.
يا بيروت، جئت إليك أغني باكية: «فأنا هنا جرح الهوى، وهناك في وطني جراح». ارحمي بكائي واستعيدي عافيتك، صوني كل أجهزة الزلازل وكابحات الصواعق، وامنعي الموت على شفير الهاوية السورية عن صدرك. بيروت تعافي لتتعافى سورية معك، وانبشي في بطون الكتب عن أسرار الخير والعدل والجمال، وانثريها على خارطة الوطن تمائم تبعد الشرور عنه.
كاتبة وروائية ـ سوريا
السفير