سمر يزبكصفحات مميزة

يا زينب..


سمر يزبك

 رمانة حامضة يا زينب، تنامين بين الجدران الخشبية.

تنامين بلا أصابع جميلة تتباهى بها النساء، وأنت بين المد والجزر داخل حدود العدم، على التابوت يفرشون ملاءة  منزلية، لونها أزرق يميل إلى الأخضر، تتهادى على أكتاف الشباب.  قلة هم من ودعوك يا زينب، لم نشاهد وراءك صيحات النواح، ولا حتى سمعنا أصوات الصمت، حين يصير موسيقا الجنازة.

كنت وحدك، وأنا هنا الآن اجلس في مقبرة قرب بيتي، أعيش قرب أجمل مقابر فرنسا يازينب، لم تكن صدفة، هذه طمأنينة الموت التي أتيت إليها، أراقب القبور الشاهقة والأسماء العظيمة؛ المنفيون، أدباء، رسامون، مفكرون،  من كل أنحاء الأرض. لا يوجد هنا شجر كينا، مررت  أنت بقاربك الخشبي  تحت أشجار كينا، في مقبرتك أشم روائح الشجر على هذا البعد، وهم يعبرون بك في اللحظات الأخيرة قبل أن تنامي والتراب نومتكما الأبدية.

 التراب يتزوجك زينب.

كل صباح أحمل  تلك التي كانت تعيش هناك، تحت سماء البلاد، أتأبطها، وأعبر بها شارعاً صغيراً، حملتك معها يا زينب، جعلتكما تمشيان قربي أنت وهي، كنت صعبة، تطيرين قربي، مجرد دمية طائرة في الهواء، دمية مقطوعة اليدين ومشوهة الوجه،  لم تجعليني أجس نبضك، لم يا زينب؟  من منكما الميتة الآن؟  لمحتك عميقاً في الثقوب المتناثرة للعدم، لعبتي المفضلة في تقمصه لم تفلح أمام أوجاعك، تركتك هناك في البلاد، وتركت قلبي معلقاً بلا جواب، حملت جثة متحركة استكانت  لك. أنت اليوم تأتين ولا تأتين. تصرخ أمك، ولا تصرخ.  لا مكان  لنا نحن النساء. نحن بلا أصابع شهية ولا أرحام، مثل مومياءات عديمات الجنس. ونسبح في الشوارع، أنت تسبحين في العدم، وهي  من حملتها الى برد هذه المدينة، التي استعذبت طمأنينة الموت، تمر في البراري وحيدة، طالما كانت وحيدة، لم يأت من ينزلها عن عرش وحدتها يا زينب، وبعيدة عن وجهك كانت تلك الشقية. كيف كان وجهك يا زينب؟ هل كان جميلاً إلى درجة لم يحتملها القتلة؟ هل قطعوا رجليك وأنت ممدة على سطح بارد، تراقبين موتك بحياد؟ مالذي فعله القتلة بوجهك، هل ستخبرين الحكايات عنك؟  هل سمعت عظامك وهي تحز يا زينب؟ هل أجرؤ النظر إلى موتك يأتيني عبر أسلاك معدنية وكهربائية؟ هرمت  يا زينب مع موتك، ومن حملتها معي هرمت، تلقفت شعرات بيضاء بين خصلات ذهبية، شهور قليلة كافية لجعلها امرأةهرمة. أنت لم تهرمي، حتى أن رحمك لم ينتفخ. جميل هو الموت يا زينب، حين تصبحين جدة، ويصير شعرك بلون الغيم، وتضحكين طويلاً مع أحفادك، لكنك لن تفعلين، لن تهرمي يا زينب،  الموت في عز الشباب يلين الحجر. القتلة لم يُصنعوا حتى من العناصر الأربعة. العمر لا يسرق يا زينب، من سرق عمرك ورحمك، وكل ليالي الحب التي كانت بانتظارك؟

وأفكر فيك، مثل فكرة غائمة، أحاول تحديد تلك اللحظة التي انطفأتِ فيها، أفكر في ضحكتك،  أعرف أن بيننا مخزن أسرار، أنا وأنت نطير في العدم. أنت النائمة، وأنا في حلم اليقظة.  هل كنت تراقبين ضحتك في مرآة؟ هل كنت تلفتين يمنة ويسرة عندما اختطفك قتلة الطاغية؟ كيف كان وجهك يتحرك، وكيف كانت المباغتة، ودهشة الفزع؟ وهل كان شعرك مربوطا كذيل حصان، أم مرمياً بإهمال؟ لا أعرفك يا زينب، وأعرفك أكثر مما يجب، أنت كل اللواتي تركتهن ورائي للقتلة، أنت خوفي الذي يعيش في عتمة السؤال، وماذا بعد يا زينب، متى ستكبرين؟  متى ستزلين عن كاهلي وعن قلبي، ولم تحضرين الأن بين أصابعي وتولدين من رحمي،  وقرب هذا الدرب الترابي في مكاني المفضل تجلسين، هنا  حيث لا أجد إلا هذه المقبرة  التي يتوافد إليها السياح  النهمون للتفرج على قبور العظماء الذين صنعوا الحياة. وأنت يا زينب هل كنت تصنعين الحياة ؟ قولي للتراب زوجك، إن الحياة في تلك البلاد لم تعد صالحة للكلام، قولي إننا عرفنا طعم الدماء، والخوف والهلع، وأننا تركنا وراءنا كل احتمالات الطمأنينة في تابوت خشبي لا يتجاوز عتبة أجسادنا، حتى لوكنت أنت يا زينب جسدا بلا جسد، مجرد جثة مقطعة الأوصال.

 أنت الآن هنا معي، أنت والكثير منهم ومنهن، الذين ماتوا رقصاً، تتجولون  كل صباح في الدرب الترابي الصغير داخل المقبرة. في ليمبوس سوري خاص، أحملكم على ظهري، لست وحدك، عيونهم وعيونهن مفتوحة على الفراغ.

  بين الأموات أعيش يا زينب، أمواتي الأحباء، هم الآن يمارسون موتهم الأجمل، الموت رقصاً، رقص حر يتحدى الموت، هل تعرفين الرقص مع الموت يا زينب؟ لم يتح لك الوقت لتعرفي، اختطفك القتلة، عذبوك، قطعوك، وذات صدفة، عرف  أهلك أنك هناك  تتجمدين في براد، صدفة جعلتهم يعرفون، مدينتك المشغولة بصناعة الحرية والرقص، عرفت سهوا أنك تنامين مع الثلج . التراب أرحم يا زينب؟ كيف سأفكر بسريرك بعد الآن؟

أنت سبحت تحت أشجار الكينا يا زينب، لن يتاح  لك رؤية  الذين يموتون رقصاً، يفتحون صدروهم العارية العزلاء للرصاص، ويعلمون التاريخ  شهوة الكمال.

 كيف ستنزلين من قلبي يا زينب؟ ولم يعد داخل هذا الصدر سوى حفرة لا تثق  إلا بالرقص مع الموت بعد الآن.

اختطف الشبيحة وعناصر الأمن، زينب حصني، من مواليد 1992 في مدينة حمص،عثر أهلها صدفة على جثتها داخل براد في مستشفى، مقطعة اليدين، ومشوهة الوجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى