صفحات الثقافةعزيز تبسي

يا سمك يا بني/ عزيز تبسي

 

 

-1-

جافلة أسماكنا، كأنها تفلتت لتوها من مناقير طيور جارحة، حامت فوق المياه، وتنقض كل حين على صفحتها، حين ترتفع وتلتمع حراشفها، ببريق يخفي عمق المياه. لا صوت يفصح عن توجعها، ولا نداء يرتفع أكثر من استغاثاتها المنهكة كفقاعات هشة، طالما حملها مجرى المياه، إلى البحور بددًا.

لا أجفان تنسدل برفق، لتحجب كبرياء العبرات، ولا دموع تسيل، لتستحم روح دنّفها الاختطاف المتهور من المياه، عبثاً اللقاء بغير النظرة المحايدة في عيون السمك.

جذفت بلا كلل، غير مبالية بإنهاك العضل، وتلاصقه بعظامه النحيلة، أوهمت من تابعها أنها تحدق في عالمها وتتأمله، لكن سرعان ما تكمل دربها، من مجرى عميق إلى مجرى أقل عمقاً، حتى تضيع في بحار، تنهك زعانفها بلا طائل.

لا تشكو بتأوهات مخنوقة، لتفصح عن خوفها من انحسار مباغت للمياه، وافتقادها للأشنيات الطرية، أو من انسداد فجائي للمخابئ الآمنة في تجاويف الصخور، ولا من أسماك أكبر، تتعقبها لتأكلها مع صغارها وبيوضها… تموت مخنوقة بتمتمات استغاثاتها، انسدال معتم على حياة من الصمت، لا كلمات صريحة ولا عبارات تصرعها البلاغة المزينة بالقوافي. لا تقول، تكتفي بابتلاع الماء الخسران: لا كرامة للأسماك في تيارات مياه مجحفة.

توارث صيادوها ولعها بالضياء، استدرجوها بمصابيحهم إلى السطح الشفيف… ومكروا على جوعها الدائم بشصوص فولاذ مسنون، غلفوها بعجين حامض، أو ديدان تلوّت بغنج، تدلت من خيوط خيزرانهم النحيل.

لم يكن جلوس الصيادين الطويل، على ضفة النهر، سوى جلوس للتلاعب بالزمن، الذي يتلاعب بهم، وقتل الوقت، الذي قتلهم وبدد أعمار أجدادهم من قبلهم، لاصطياد أسماك لم تبال بتعاقب ليل الصيادين ونهارهم، وتدرجات لون المياه وطعم المصائد المغروزة بالشصوص. تبدل الصيادون، كما تبدلت الأسماك.

لم يعد أحد منهم ينتظر سمكة ابتلعت طعما بدد بعضه جريان المياه. انزلقوا إلى فظائع أصابع الديناميت، وصواعق الكهرباء، استهلالا لحرب إبادة على هذا الكائن الصامت.

لا آمال تعقدها الأسماك على قتلة تدثروا بأسمال صيادين، يدّعون، حين يتلبسون في عقر مقتلتهم، أنهم يبددون الوقت، لا وقتهم الطويل المحروس بالأساطير والجواشن، بل الوقت المتبقي من الحياة القصيرة لهذا الكائن العاري الذي حجبت عنه الطبيعة الكريمة أسباب النطق.

نتكلم نيابة عنه. ندافع، لندافع عن مآل قد يواجه عموم الكائنات الصامتة، التي أفقدتها السنوات صوتها، والتي لم تعد تقتنع بجدوى الكلام مع القناصين الذين يوجهون رصاصهم إلى الصدغ.

لا يصله الكلام الذي يتبادله الصيادون على الشاطئ، ساهياً في الأعماق المعتمة، منساقاً إلى أقدار تحاصره كهذه المياه المسرعة، لا تتعجل رمي أصابع الديناميت، قبل اجتماع السمك.

أتساءلوا لماذا نقتل كل هذا السمك؟

لا ذكرى توقفها ولا نداء… لم يعد يخجل الصيادون من تفجير رئات السمك، وقتل بيوضه، واجتثاث أثره من المياه، غير مدركين أن لا قيمة لأنهار بلا أسماك. اقتلع السمك من مياهه… كما اقتلعت الشعوب من التاريخ وأسفاره.

-2-

ليست أسماكاً مزقت رئاتها أصابع الديناميت، ما يطفو الآن على صفحة المياه، ولا تلك الكائنات المتحيرة في انتمائها، التي طالما أشفقت على الانتظار الطويل لفقراء الصيادين، ومنحتهم الأحجار الثمينة والذهب، وبادلتهم الكلام والمرح، وتبدت لهم بهيئة الحوريات.

عجز هذا النهر الشحيح، بالتستر عن الفضائح، لم يستطع ماؤه غمرها وسحبها إلى أعماقه، ظهرت كأهوال المذابح وجنونها، جثث لأطفال وشيوخ ومختلين عقلياً، نساء تم اغتصابهن وتعذيبهن قبل قتلهن، جميعهم كبلت أياديهم إلى الخلف، وكممت أفواههم. ثقل حملهم على المياه الضحلة، ثقلت آلامهم على الأرض، قبل أن تتثاقل على الماء. لم يتنبأ بهذا الفلكيون والبرّاجون، قرّاء الغيوم وضاربو الرمل. لم يتوقع أحد ما حصل، ولا بما سيحصل بعده.

جرى توريط النهر بالمذبحة، جرى توريط الكهوف والوديان، الأقبية التي توضع فيها المؤونة، السباخ التي يجلب منها ملح الطعام، القطط والكلاب التي تحرس البيوت.

يدفع هذا الكائن الصامت للتفكير بجدوى الكلام، في وضع استبدادي راسخ، لا يكف عن التهديد بقطع الألسنة، ووضع الحذاء في الفم.

جدوى الكلام، بعدما تتفقد بيتك لتراه أنقاضاً، وحينما تحمل ابنك ذا العشرين ربيعاً على كتفيك بعدما فقد ساقيه، في وقت تعجز ساقاك عن حملك، أو حين تحصي أهلك لتستنجد بهم، فتجد أن الأقرب اليك يعيش في مكان يبعد عنك ألف كيلومتر، وحين لا تجد من يدنو لجس عضلاتك في سوق العمل، وحين لا يسألك أحد كيف تعيش، بل ألم تمت بعد.

-3-

أين الدرّ المكنون، الذي اشتغلته الأصداف على مهل، في قاعها المائي الساكن؟ أين إبهارات رحيق الكلس والملح؟ من ارتشافاتها المتأنية لاصطفاء دمع اللؤلؤ من الماء الأجاج.

أصدافنا خاوية، لا لؤلؤ يكافئ تعب الغواصين، واحتباسات رئاتهم، اختلاجهم المباغت، وهم يحصون دقائق وحدتهم في قاع لا هواء فيه. يجسون الأمكنة، يعاينون ما تبقى من أثر للعابرين على أكمام النباتات والحجر المكسور. ويبقى من ينتظر صعودهم من الأعماق القاتمة، لم يعد أحد يكترث بحفنات اللؤلؤ الميتة، ينتظرون اللقاء المبهج بمن تبقى حياً من الغواصين.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى