يبرود – القرم/ عمر قدور
لا وجه لشبه مباشر بين ما يجري الآن في شبه جزيرة القرم الأوكرانية وما يجري في مدينة يبرود السورية، بل الاختلاف بين الحالتين هو ما يستدعي المقارنة. في شبه جزيرة القرم هناك جار أكبر وأقوى يحاول إعادة الشقيق الأصغر إلى حظيرة الطاعة، أو تقويض وحدة أراضيه وقضم المنطقة الإستراتيجية الأغنى إن لم ينجح في استعادته. أما في يبرود فالجار الأصغر “حزب الله” هو من يعتدي، وليس في حسبانه أو استطاعته قضم أراضٍ أو تحقيق سيطرة دائمة، وليس في استطاعته أيضاً تحقيق اجتياح سهل وكاسح.
دولياً، يحظى عدوان حزب الله بالصمت والتجاهل، مع أنه في الواقع عدوان على دولة ذات سيادة، أو بالأحرى على دولتين يُفترض أنهما تتمتعان بالسيادة وفق القوانين الدولية. فكما نعلم ليس هناك معاهدة دفاع مشترك بين النظام السوري ودولة حزب الله، والقوانين المعمول بها لا تتيح لدولة الحزب إبرام مثل هذه المعاهدة. لا يكفي هنا القول بأن عدوان الحزب جاء برضا النظام السوري، لا لأن الأخير لم يعد يحظى بشرعية كافية، وإنما لأن القوانين الدولية تُشرعِن حالات الحرب وتحالفاتها ومعاهداتها، وبالتأكيد تمنع التحالف مع منظمة موضوعة على لوائح الإرهاب الدولي كما هو الأمر بالنسبة إلى الجناح العسكري لحزب الله.
على جبهة القرم، يبدو الأمر مختلفاً ولو من الناحية اللفظية حتى الآن. فأوباما سرعان ما بادر إلى تحذير الروس من مغبة التدخل العسكري هناك، والنية الأميركية تتجه إلى مقاطعة قمة الثماني في سوتشي الروسية. ومع استبعاد لجوء الغرب إلى أكثر من التصعيد السياسي، وربما بعض الإجراءات الاقتصادية، فإن ذلك لا يؤشر على انتهاز الفرصة الأوكرانية لتقليم المخالب الروسية بقدر ما يؤشر على الحد الأدنى من الاهتمام مقابل الصمت والإهمال اللذين باتا يغلفان السياسة الغربية إزاء الملف السوري.
غير أن الاختلافات بين الجبهتين لا تمنع التفكر في اتصالهما على المستوى الاستراتيجي. التحليلات السياسية العربية المتفائلة تتحدث عن تضحية الروس بنفوذهم السوري لقاء مكاسب في أوكرانيا. التحليلات المتشائمة تتحدث عن تصلب روسي على الجبهتين، ما يعني عملياً التراجع عن التفاهمات السابقة مع البيت الأبيض في الشأن السوري، وزيادة دعم النظام في ظل عدم وجود رغبة غربية في الرد بالمثل. الخيار الثاني قد يكون أقرب إلى الواقع حالياً، ومن المرجح أن يتصلب الروس في الشأنين الأوكراني والسوري معاً، مع توجه الغرب إلى الاهتمام أكثر بالتطورات الأوكرانية فيدفع السوريين ثمن المواجهة مثلما دفعوا سابقاً ثمن التقارب بين الجانبين.
من المؤكد أن حرباً جديدة لن تندلع في القرم، أوكرانيا ومن خلفها الغرب ليسوا في وضع مَن يريد الحرب. التحذير الأميركي من الغزو الروسي للقرم بدوره لم يتجاهل المصالح الروسية في شبه الجزيرة مع أن الغلبة الديمغرافية للروس فيها أتت نتيجة عمليات الاستيطان بعد عمليات التهجير الوحشية التي تعرض لها السكان الأصليون في العهد السوفييتي وما قبله. في المقابل سيكون مستبعداً أن يغامر الكرملين بمحاولة إعادة السيطرة على عموم أوكرانيا من خلال التدخل العسكري، لأن هذا الخيار السهل نظرياً سيُواجه بمقاومة عنيفة، وفي أرض لا تتيح لبوتين تكرار أمثولته في الشيشان.
يُشاع أن النظام السوري في حربه استلهم نموذج بوتين في الشيشان، ويُشاع أن ذلك ليس بعيداً عن الإشراف الروسي المباشر، لكن الوضع السوري ربما بات نموذجاً يعتمده الروس في أوكرانيا. فحرب الاستنزاف قد تكون الحل الأفضل من خلال تشجيع أعمال العنف، والتهديد المستمر بالتدخل العسكري المباشر، مع الحصار الاقتصادي الذي قد لا يغامر الغرب بدفع ثمنه على المدى البعيد. المغزى من هذا الخيار هو استهلاك حماس الغرب تدريجياً مع القدرة على تعطيل أي جهد دولي من خلال الأمم المتحدة.
لكننا إذ نعقد المقارنة بين جبهتين يجوز لنا النظر فيما هو أبعد من الحدث السياسي المباشر، فالتطورات الجيوسياسية الحالية تذكّر بالفترات والنزاعات التي سبقت حروباً دولية كبرى، من دون أن تنذر بحرب عالمية ثالثة وشيكة. الأرض لا تتوقف عن الاهتزاز والارتداد تحت النظام العالمي الحالي. وبينما تحاول الإدارة الأميركية الخروج من تبعات القطب الواحد يسعى الروس إلى إعادة زمن الحرب الباردة. نحن نشهد فيما نشهد فشلاً روسياً وأميركياً، فلا الروس قادرون على استعادة الملمح الإمبراطوري للاتحاد السوفيتي، ولا الإدارة الأمريكية قادرة على التخلص من تبعات فائض القوة الذي تملكه، ولا الاثنان قادران على شلّ حركة التاريخ.
الأوضاع الحالية تجعلنا نستبعد حصول توافق دولي بالقدر نفسه الذي يُستبعد فيه حدوث حرب كبرى، لكن تجارب التاريخ تدلل على أن حالات الاستعصاء لم تنتهِ إلا بانهيار أحد أطرافها، سلماً أو حرباً.
المدن