صفحات الثقافة

يتساءل الفنان العربي: هل رأيت أحدا يشبهني؟


بين التكريس والاحتكار

فاروق يوسف

قبل سنوات حاول رجل الاعمال السوري خالد سماوي وهو صاحب قاعة ايام أن يعيد صياغة العلاقة بين الفنان التشكيلي وصالة العرض وفق اتفاقية من شأن الالتزام ببنودها أن يحقق توازنا بين مصالح الطرفين. كانت تلك الصياغة مستلهمة من تقليد غربي عريق، يقوم على ما يشبه الاحتكار، حيث يسمح في بعض الحالات للفنان بحرية الحركة. كانت الفكرة التي سعى سماوي إلى تنفيذها خطوة مهمة في مجال ارساء قواعد عمل واضحة وثابتة لسوق فنية، كان الفن العربي ولا يزال في أمس الحاجة إليها. بالنسبة للفنانين الذين وقعوا عقودا مع صالة أيام كانت تلك المبادرة تنطوي على نوع من الاعتراف، الذي يضمن لهم التكريس، فنانين من طراز خاص، لا على المستوى الفني وحده، بل وأيضا على مستوى التداول.

جزئيا فشلت تلك المحاولة للأسف. لا لأن أحدا من الطرفين الموقعين على العقد قد أخل بشروطه، بل لأن المعاني التي تم الاتفاق عليها قد أخذت مسارات يمكن اعتبارها مخلة بطريقة نظر كل طرف إلى دوره. فالاحتكار من وجهة نظر الفنانين قد تحول إلى نوع من التبني، اما من وجهة نظر سماوي فقد كان التكريس الذي كان الفنانون ينظرون إليه باعتباره هدفا أسمى، يؤسس لنمط من الاستقلالية قد تؤدي إلى نسف الاتفاق ضمنيا. كان سماوي يعتبر رفعه لأسعار اعمال الفنانين بطريقة مفاجئة معجزته الشخصية، وهي كذلك وإن نظرنا إليها بطريقة سلبية. ذلك لان طريقته في رفع الأسعار لم تكن لتؤدي إلا إلى خلق سوق وهمية مؤقتة، سيدفع ثمنها الفنانون الذين رفعت أسعار لوحاتهم في ما بعد. اما الفنانون فقد شعروا أنهم عن طريق تلك المعجزة صاروا مقيدين بمشيئة صاحب القاعة. هو الطرف الأقوى في كل الأحوال.

الصراع بين الطرفين انتهى إلى قطيعة.

ولكن ذلك الصراع يعطينا فكرة عن طبيعة علاقة المؤسسة بالفنان العربي، وبالضبط في ما يتعلق من تلك العلاقة باستقلالية الفنان ورغبته في التكريس، فردا ذا صفات خاصة تؤهله لقيادة المجتمع واقتراح سبل وأساليب نجاة وتربية وتطور ذلك المجتمع. رغبة الفنان تلك والتي تقوم على أسس حقيقية تدعمها الطبيعة تصطدم بطريقة نظر المؤسسة إلى الفنان، باعتباره كائنا يستحق الرعاية والتبني، لإنه لا يستطيع الانطلاق بنفسه إلى العالم. كانت المؤسسة دائما تصر على تشخيص نوع الاعاقة التي يعاني منها الفنان. وهو ما كان يدفعها دائما إلى الحرص على ابقائه تحت حمايتها. يمكنه أن يكون هداما، مخربا، عدميا، وذا نزعة عبثية قد لا تكون مصدر سرور إذا تُرك وحده. هذه النظرة المستلهمة من المجتمعات والانظمة العربية القائمة على مبدأ الاستبداد الابوي بكل عاطفته القاتلة، لا يمكنها في اي حال من الأحوال أن تتماشى مع التقليد الأوربي العريق، حيث الصالات الفنية تطلق الفنان، لا باعتباره ابنا لها، بل بسبب ما تنطوي عليه أعماله من صفات خاصة، تدفع تلك الصالات إلى التمسك به وارشاد الأضواء إليه.

وكما أرى فان الصالات الفنية الخاصة تكرر الأخطاء نفسها التي ارتكبتها المؤسسات العربية الرسمية. كان الفنان العربي دائما، من وجهة نظر تلك المؤسسات تابعا (ذليلا، مرتزقا وفقير الحيلة). كل ما كانت تقوم به تلك المؤسسات من أعمال لم تكن لتعبر عن قيامها بوظيفتها الخدمية بل كانت تعبيرا عن كرم، توجهه بالطريقة وبالاتجاه الذي تشاء ولمن تشاء. تكرم من تشاء وتحرم من تشاء. لم يكن الفنان، بغض النظر عن قيمته التاريخية والفنية إلا برغيا في ماكنتها. تتساوى في ذلك مؤسسات انظمة الحكم اليسارية واليمينية. الرجعيون ليسوا أخيارا كما يتوهم البعض. لقد شهدت بعيني الذل الذي يعيشه فنانون في دول نفطية وهم يسعون الى تسويق أعمالهم. وهكذا فان الامر لا يتعلق بنوع النظام، بل يتعلق بالنظرة الثقافية المكرسة، تلك النظرة التي ترى في الفن نوعا من التسلية لا يستحق صانعها التقديس أو على الاقل الاحترام.

هناك عقدة اجتماعية لم يتم استئصالها إلا مؤقتا في بلدين، تجمع بينهما محنة (البعث) وحيرته السلوكية: العراق وسوريا. أتذكر من حياتي السابقة أن السبعينات العراقية قد حملت بين طياتها معنى متقدما للفنان، باعتباره رجل رسالة، وكان ذلك المفهوم ينسجم عقائديا مع أفكار البعث. قبل سنتين شعرت في سوريا أن هناك شيئا من بقايا ذلك المفهوم لا يزال يوهم الكثيرين من الفنانين أنهم يمتلكون نوعا من الامتياز. حدث مفاجىء فعلا. ربما يكون ذلك الحدث على علاقة بتطور الفكر المديني في كلا البلدين. غير أن ما أنا على يقين منه أن كل المؤسسات الفنية العربية لا تحترم أحدا. فهي تساوي في خياراتها بين الرفيع والمبتذل، المجتهد والكسول، المبدئي والمنافق، النادر والسوقي. ولا أبالغ إذا ما قلت أن تلك المؤسسات كانت حريصة على أن تحارب الرفيع بالمبتذل، والمجتهد بالكسول، والمبدئي بالمنافق والنادر بالسوقي. علينا أن نصدق أن الفنان الحقيقي كان عقدة تلك المؤسسات، وهي عقدة انتقلت بكل أسف إلى المؤسسات الفنية ذات التمويل الخاص.

الفنان العربي ليس محظوظا. عليه أن ينال نصيبه من نكد الدنيا باعتباره مواطنا عربيا. يعتقد البعض أن الوضع كان أفضل في الشعر منه في الفن التشكيلي. هناك شعراء مكرسون. وهي كذبة. مات عبد الوهاب البياتي في دمشق. مَن مشى في جنازته؟ نزار قباني اعترض رجال الدين على دفنه في مقبرة للمسلمين، درويش كفره الكثيرون قبل موته. لو عاد حيا السياب هل كان في إمكانه أن ينجو من كل تلك الكوارث؟ ليس صحيحا أن الشعراء أفضل حالا. واقعيا فان عبارة (فنان عربي مكرس) انما تنتمي إلى عالم الخيال. يظن الفنانون أنهم مكرسون. مثلما ظن الشعراء من قبلهم ورأينا النتيجة. هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها بيسر. كان اسماعيل فتاح، الفنان العراقي، حريصا على أن يصطحب معه عددا من طلبته في زيارته السنوية لقبر رائد الحداثة الفنية في العراق جواد سليم، ولكن العراقيين لا يعرفون أين يقع قبر جواد سليم؟

السؤال الآن: هل أنتج المجتمع العربي نظاما سياسيا يشبهه، من جهة احتقاره لاستقلال الفنان وحريته أم أن النظام السياسي هو الذي درب المجتمع على التمكن من هذه التقنية، بحيث يكون الجميع صغارا ومقيمين في المصيدة؟ الأسوأ في تلك المصيدة خيالها. لذلك لا يمكننا سوى أن نقع فيها. كانت المغامرة فاشلة. كان على الفنان العربي أن يهاجر بعيدا من أجل أن يكون مستقلا. كانت حريته مرهونة بغربته. لقد صار لقب (الفنان المغترب) أشبه بالوسام. لم تكن آدمية ذلك الإنسان المغترب لتعني أحدا. الايقونة تسحرنا. لن نفكر بتلك السنوات التي قضاها ذلك المواطن العائد قديسا، وهو يغسل الصحون في المطاعم ويرافق كبار السن في جولاتهم العبثية وينظف الغابات من أوراق الخريف ويراقب المراحيض العامة. كان المجتمع يرغب في اعادة انتاج ابنائه الضالين، ولم يكن يرغب في تكريسهم، نماذج نضالية.

هناك سخرية سوداء في واقع لا نزال نعتقد أن فيه شيئا من الانصاف.

لقد أنفق الخليجيون خلال السنوات الأخيرة على الثقافة ما لم ينفقه الفرنسيون. فهل تفوقت الثقافة الخليجية على الثقافة الفرنسية؟ لن يجرؤ خليجي واحد بالاجابة بـ(نعم). الجواب المتوقع هو: ‘انهم فرنسيون’. الفرق إذاً من وجهة نظر الفاشلين يكمن في أنهم فرنسيون ونحن عرب. ولكن الحقيقة تقول أننا ننفق باسم الثقافة ما يضر بها وبالناس. الاستعراض الذي يجعلها تتبخر كما لو أنها لم تكن. لذلك صرنا نستورد الظاهرة الثقافية مثلما نستورد الكوكاكولا، مثل مطاعم الاكلات السريعة، مثل المقاهي التي يذهب جزء عظيم من ريعها إلى اسرائيل.

محاولة خالد سماوي فشلت. ليتها نجحت. كنت اتمنى ذلك. ولكنها فشلت

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى