صبحي حديديصفحات الرأي

يجهل عامداً… لكي يجهّل/ صبحي حديدي

 

سبعة دروس، وليس واحداً أو اثنين أو ثلاثة فقط، احتشدت في قريحة دانييل بايبس وهو يستعرض “هذه الحرب الغريبة” التي شنتها إسرائيل على غزّة، طيلة شهر كامل حتى الساعة؛ وأوقعت أكثر من 1800 قتيل، وعشرة آلاف جريح، ودمّرت مئات البيوت والمرافق العامة والمدارس والمساجد.

أمّا “غرابة” هذه الحرب، قبل دروسها السبعة، فهي أنّ إسرائيل تحرص على إنسانية عدوّها، أكثر من حرص عدوها على ذاته، وعلى البشر والحجر والثمر في القطاع: “هي حرب غريبة الأطوار، حيث تحتفل حماس بالبؤس الفلسطيني، وتبذل إسرائيل قصارى جهدها لكي تُبقي حياة عدوّها طبيعية ما أمكن. أمر عجيب بالفعل، ولكن هذه هي طبيعة الحروب الحديثة، حيث يُحسب لأعمدة الرأي حساب أهمّ من طلقات الرصاص”، يكتب بايبس.

فلندع جانباً حكاية الدروس السبعة (فعالية “القبّة الفولاذية ضدّ صواريخ غزّة، وهزال تأثير الأنفاق، والتوافق الشعبي الإسرائيلي، وضعف التأييد العربي للمقاومة الفلسطينية، وارتفاع نبرة العداء للسامية، ومساندة النُخب الأوروبية لإسرائيل مقابل تدهور صورتها في الأوساط الشعبية، ولجوء الفلسطينيين إلى استغلال الأطفال لاستدرار التعاطف العالمي)؛ فهذه محض حذلقة مكرورة، أعاد بايبس إنتاجها مراراً، وكلما اعتدت إسرائيل على القطاع.

نحن، من جانب آخر، أمام إعادة إنتاج ـ مع تشذيب، أكثر خبثاً بالطبع، وأشدّ استخفافاً بعقول مَن يقرأ ـ لسلسلة التنميطات العتيقة التي دأب بايبس على استخراجها من الحاوية العتيقة، إياها؛ كما في كلّ واقعة تدين إسرائيل بارتكاب أبشع جرائم الحرب، وأفظعها. تنميط أوّل يصيب بايبس بـ”حيرة بالغة”، إذْ يعجز عن فهم النفسية التي تجعل الآباء الفلسطينيين يبتهجون لمقتل أبنائهم في الحروب. المرء، بالطبع، يعرف أنّ بايبس على علم تامّ بأسباب الابتهاج، وكذلك بالأسباب التي تجعله يزعم الجهل بتلك الأسباب. وهذا، في كلّ حال، تفصيل يتجرّد من الأهمية حين يتّصل الأمر برجل مثل بايبس تحديداً: ليكودي عريق، وبوق أمريكي موضوع في خدمة الصهيونية علانية وليس سرّاً، وتلميذ رديء لأسوأ تقاليد الاستشراق السياسي المعاصر.

إنه يعرف أنّ التاريخ لم يسجّل احتلالاً عسكرياً آمناً وهانىء البال، نظيفاً وخالياً من الدماء، مدنية كانت أم عسكرية، بريئة أم مذنبة. المدهش في معرفة بايبس وجهله، وهذا دليل إضافي على الرثاثة والإدقاع والانحطاط في تحليلاته السياسية أسوة بتلك السوسيو ـ استشراقية، أنه يرحّل موت الفلسطينيين إلى منطقة أخرى لا تنتعش إلا في بال أمثاله. الفلسطيني، في قناعته، لا يستشهد في سياق فعل مقاومة ضدّ احتلال عسكري استيطاني عنصري، لأنه ما من احتلال في ضمير بايبس، وإسرائيل موجودة بين ظهرانيها، في أرضها، في يهودا والسامرة.

الفلسطيني يستشهد لأنه إنما يواصل تقاليد الذود عن “العرض”، بوصفه أحد أعرق مقدّسات الشرق؛ وهو في هذا لا يختلف عن الأخ الذي يقتل أخته، والأب الذي يقتل ابنته، وابن العمّ الذي يقتل ابنة عمّه… غسلاً للعار. هذا هو الجانب السلبي الذي، وفقاً لتحليلات بايبس الخارقة، يكمل الوجه الثاني من العملة: الوجه الإيجابي المتمثّل في إسباغ “الشرف” على الأسرة التي يستشهد أحد أبنائها: “شكل الشرف الإيجابي ينطوي على توطيد موقع العائلة عن طريق اتخاذ خطوات تضمن لها الإطراء والسمعة، ولا شيء يجلب المجد للعائلة مثل استعدادها للتضحية بأحد أبنائها”.

ولكي لا ينسلخ هذا التنميط عن استشراقه الأصلي، الأعرض والأمّ، الذي يخصّ الإسلام والمسلمين عموماً، وإجمالاً؛ يرتدّ بايبس إلى قرون خلت، وليس إلى عقود فحسب: “هنالك أساس واقعي للخوف من الإسلام. فمنذ موقعة أجنادين سنة 634 وحتى حرب السويس سنة 1956، كان العداء العسكري هو المهيمن علي العلاقة المسيحية ـ الإسلامية. وفي واقع الأمر لم يتوصّل الأوروبيون إلى بناء دولتهم إلا عن طريق طرد المسلمين، بدءاً من استعادة إسبانيا في مطلع القرن الثاني عشر، وحتى حرب استقلال ألبانيا سنة 1912”.

ما نفع الدروس السبعة، أو المئة أو الألف، إذاً؛ ما دام التاريخ مسدوداً هكذا، مسبقاً وبصفة حتمية، على شرّ مستطير وعداء مستعصِ مرير، بين “غرب” و”شرق”، وبالتالي بين الفلسطيني والعالم؟ وهل يجهل بايبس، حقاً، أم يتعمد الجهل… لكي يجهّل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى