يحدث الآن في حلب/ إبرهيم الزيدي
حلب التي لا أعرف أين تقع. أحياناً أراها شمال الحزن، وأحياناً جنوب الموت. حلب الموالية، حلب المعارضة، حلب المؤجلة، حلب التي تصرخ “يا الله”، وكلهم يقتلونها باسمه، لا تزال ترفض إهانة البكاء! انتهت السنة، ولا تزال أيامها واقفة هناك. انتهى العيد، ولا يزال ضحاياها هناك. انتهى الحب، ولا يزال قلبها هناك. كأنها تريد الإنتقام من الشوق بطول الإنتظار! ففي الحب البقاء للأصدق، وليس للأقوى، وحلب هي الأصدق. دمرها نارام سين الأكادي 2275 ق. م، وعادت إلى الحياة! ثم دمرها مرسيليس الأول، في القرن 16 قبل الميلاد، وعادت إلى الحياة! ورحل عنها الميتانيون، وجاء الحثيون، ورحل الحثيون، وجاء البابليون، ورحل البابليون، وجاء الساسانيون، والأمويون، والعباسيون، والحمدانيون، والمغول، والمماليك، والعثمانيون، والفرنسيون، ورحلوا كلهم، ولا تزال حلب باقية. ولا تزال أصابعها تسافر في أوتار عود عبد الرحمن جبقجي، وتكتب لصباحها الفخريّ نوتات القدود الحلبية. إنها هناك في منتصف الطريق، بين تاريخها وامتحان النسيان، تطل من نشرة الأخبار على مخاوفنا، التي لم يعد يكترث بها أحد! كأن هذا العالم المتحضر المتقدم الإنساني، لا يكتمل وجوده إلا بفنائنا! في الأمس القديم من عمر الثورة كانت تعاني من تلك الرعشة التي تسبق سقوط الدمعة الأولى من العين، فلم تستطع أن ترى بنادق الأخوة الأعداء في مراياها، كانت تبحث عن عاشق يطعنها بعطره، عن سيف دولتها، بعدما “تعَثّرَتْ بهِ في الأفْوَاهِ ألْسُنُهَا…. وَالبُرْدُ في الطُّرْقِ وَالأقلامُ في الكتبِ”، لعله يأخذ بيد قلعتها خارج الليل السوريّ الأحمر، فنزفت أعيادها وأغانيها وأفراحها كلها في انتظاره، ولم يبق أمامها سوى أن تفتح مطمورة الأحلام التي كان الماء أولها، وتركت جميلاتها للجنود، يكتبونهن بعيداً عن قصائد الشعراء، فالعطش كافر. وها هي تنفق متاعبها اليومية على ليتر ماء صالح للشرب! فالسقاؤون الجدد ينتظرون المناسبات الكبرى، كالقصف أو الأعياد الوطنية، ليعلنوا “أوكازيون الماء”، حيث يتدرج سعر الألف ليتر من 1500 ل. س، وصولاً إلى 3500 ل. س، حسب درجة التلوث!
على رغم ذلك لا تزال يد الحياة تطالها، ولا يزال يقيم فيها أكثر من مليونين من أبنائها، ولا تزال تدثر أطفالها النائمين بلحاف اليتم، وتملأ زجاجات سعادتها بأغنيات صبحي مدلل، وصباح فخري، ومحمد خيري، وغيرهم، ولا يزال بائع الخضر الحلبي يستيقظ صباحاً، يمسح من ذاكرته أسماء الذين فقدهم ليلا، يكنس الرصيف من وجع البلاد، يرتب “سحارات” الخضر والفواكه، وينظر إلى السماء، ويقول: يا فتاح… يا رزاق، في انتظار الزبائن أو البراميل، وكلاهما أرزاق في عرف الحلبيين! في الطرف الآخر من المشهد ثمة قناص، لا أعرف ماذا يقول، الجميع يعرف ماذا يفعل، لذلك يتحاشون المرور من أمام مرماه، قد يكلفهم هذا، أن يتحول طريقهم 10 كم، ولربما أكثر. وثمة خطوط تماس بين ما يسمى في الأدبيات الجديدة “مناطق الموالاة ومناطق المعارضة”، وهذه الخطوط تفصل بين الأخ وبيت أخيه، أو الأهل وبيوت أبنائهم, ولعبور خطوط التماس شروط ومواسم، فجدار برلين الحلبيّ، ليس محمياً بالقرميد أو الإسمنت المسلح, لقد سقط الإسمنت من مادة الجدار، وبقي السلاح. ولا يزال غير العادي عادياً، يتداوله الحلبيون في ما بينهم، كأنهم يتحدثون عن غلاء المحروقات، فهم يعرفون تماماً، أن الأموات منهم قد شبعوا موتاً، وعليهم أن يشبعوا حياة قبل الموت، لذلك تراهم لا يزالون يتبادلون التهاني بالأعياد، ويقومون بواجباتهم الاجتماعية، ويتحدثون عن أعمالهم بحماسة، ومنافسة، ولا يعولون على أحد، فالعالم يبحث عن صورة المشهد، والكاميرات الحلبية عاطلة عن الرحيل، وليسوا بحاجة لإخبار العالم كيف ترتجّ الأبواب والنوافذ والقلوب، ساعة القصف. ذلك ديدنهم اليومي الذي أصبح هو الآخر عادياً، ولا يستحق أن يشغلوا بالهم به كثيراً.
النهار