يحدث في سوريا .. البحث عن المعارضة
د . شمدين شمدين
من انطاليا إلى بروكسل مرورا باستنبول ثم في سميرا ميس بدمشق وقبلها في حلب ، حراك لشخصيات معارضة ورؤساء أحزاب كانوا قبل ثلاثة أشهر بالكاد يتهامسون فيما بينهم عن واقع الحال وأمور العباد.
مؤتمر تلو مؤتمر وهيئات تعقبها بيانات وتصاريح ، بعضهم يقبل الحوار مع السلطات وآخرون يرفضون ذلك جملة وتفصيلا ،يحدث كل هذا اليوم في بلادنا مع بروز أفق جديد في سماء الوطن السوري يتمثل في صرخات مئات الآلاف من المهمشين والمقموعين في الساحات والطرقات مطالبين بالحرية والعدالة ،هؤلاء الذين ظلوا لسنوات طويلة يعيشون في بيئة من الإذلال والفقر والتهميش الاجتماعي ،لم يكن لهم صوت في منابر الدولة ،كما لم تكن لديهم الجرأة في المطالبة بحقوقهم المادية والمعنوية من مدخرات البلاد وثرواتها الكبيرة التي لم يكن أحد يدري أين تصرف وعلى من تصرف ،فبلداتهم بقيت لسنوات دون طرق نظامية معبدة ومدارسهم ظلت لعقود تعاني من تآكل سقوفها الطينية ،وبيوتهم بقيت تصرخ شح المياه وفقدان الوقود في الشتاء الزمهرير ، أجل هذه الشريحة الواسعة التي تشكل أكثر من سبعين بالمائة من الشعب السوري هي التي تدفع اليوم أيضا ضريبة الحرية أكثر من 1600شهيد وعشرات الآلاف من المعتقلين ومثلهم من النازحين وهم المستمرون على مطالبهم في الخلاص من العبودية والتسلط ، حيث لا ثقة لديهم بالسلطة ووعودها كما بالمعارضة ومؤتمراتها المتعددة ،ثقتهم الوحيدة هي بإرادة أبنائهم وتوقهم إلى الحرية ،وقناعتهم التي لا تتزعزع في أن الحرية مطلب غالي وثمنها أغلى وأكبر من كل كنوز العالم ،لان طعمها أشهى من كل شهد العالم ،لقد صنع هؤلاء المهمشون بدمائهم الثورة ولا ينبغي لأحد ما مهما كان أن يخطف ثمرة جهدهم ، فالشعب بمعظمه معارض للاستبداد والظلم والقهر والشعب بغالبيته أثبت وعيه للمرحلة الراهنة ولمتغيرات العصر ،فلم يعد بالإمكان العيش في القرن الواحد والعشرين بثياب بالية من القرون الوسطى وعقليات متحجرة من القرن العشرين ،انه زمن الثروات وزمن شباب الثورات ، الآتين من الجامعات والمدارس والحارات الضيقة وبيوت الطين طالبين الانعتاق .
ومع استمرار هؤلاء الشباب في دفع فاتورة الحرية ،يتنافس الآخرون من مناضلين شرفاء وسياسيين قدماء إلى جانب بعض المثقفين والفنانين والأكاديميين إضافة إلى عدد غير قليل من راكبي الموجة ليعقدوا المؤتمرات ويرفعوا الشعارات إن باسم الشخصيات الوطنية وان باسم الأحزاب الوطنية ،يرسمون طرق الحل ويصدرون البيانات التي توضح ما يعتقدون انه مطالب الشعب وكيفية الخروج بالبلاد من أزمتها المستعصية ، ورغم الشكر الكبير الذي نرسله إليهم ورغم الاحترام الكبير الذي نكنه للكثيرين منهم إلا إننا نتساءل هل الوقت مناسب الآن لعقد كل هذه المؤتمرات والدماء ما تزال تتدفق من الصدور العارية البريئة ،ثم نتساءل أيضاً عن مدى تمثيل المشاركين في هذه المؤتمرات للشرائح الواسعة من الشعب السوري ومدى انخراطهم في العمل النضالي والسياسي المعارض طوال سنوات القمع السلطوي ، من منهم ساند مطالب الشعب المشروعة ووقف إلى جانب المسحوقين منهم ومن منهم تفرغ لأعماله التجارية والخيرية المربحة في ظل أجواء الفساد والمحسوبية ثم انقلب بليلة وضحاها إلى معارض كبير ، اليوم وفي هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها البلاد لا بد من الفرز الواضح بين الشرفاء والفاسدين من السلطة والمعارضة على حد سواء ، فمن غير المعقول أن يوقع المجتمعون في مؤتمرات التنسيق والتسويق والتصفيق على وثائق وتعهدات واتفاقات ترسم مستقبل الوطن وجماهير هذا الوطن ، دون أن يكون لهذه الجماهير حتى فرصة الاطلاع عليها ، إن مطالب الجماهير المنتفضة واضحة ولا تحتاج إلى كثير من الفراسة و البحث وعقد المؤتمرات وهي بالمختصر المفيد: أولاً:حل الأجهزة الأمنية وسحب الجيش من المدن والبلدات والسماح بالتظاهر السلمي والكف عن الاعتقال والقمع للمتظاهرين العزل والمعارضين السلميين ،وتشكيل هيئة تحقيق مستقلة من شخصيات مشهود لها بالنزاهة للتحقيق في حوادث القتل سواء للمتظاهرين أو لعناصر الجيش .
ثانياً :فتح المجال أمام تشكيل الأحزاب والجمعيات بحرية تامة مادامت لا تمارس العنف أو تدعو إليه وثالثاً: تشكيل حكومة انتقالية مصغرة من شخصيات أكاديمية مستقلة ، مهمتها الإسراع في إنجاز الإصلاحات والتمهيد لانتخابات برلمانية متعددة تحت إشراف عربي أو دولي بحيث تكون مهمة البرلمان الرئيسة : تغيير الدستور الحالي وصياغة دستور عصري يلبي متطلبات المرحلة ، ويقود سورية إلى عصر الدول المتقدمة القائمة على فصل السلطات واستقلاليتها ومبدأ تداول السلطة في ظل جمهورية برلمانية ديمقراطية قائمة على التنوع الثقافي والتعدد السياسي والحرية المستندة إلى قانون الوطن السوري أولا ولجميع السوريين.
إن على المعارضين المجتمعين في مؤتمراتهم التي تعددت كثيراً ، إن كانوا بحق يهدفون إلى وقف نزيف الدم ، أن يتقدموا جماهيرهم المنتفضة في الساحات فبدلاً من الجلوس في القاعات المكيفة والتنظير عبر شاشات التلفاز ،بإمكانهم أن يتجمعوا في ساحة الصالحية وأمام مبنى البرلمان رافعين لا فتات : أوقفوا القتل أولا ، اسحبوا الجيش أولا ، نحن هنا معتصمون في الساحة حتى يتم وقف العنف ، اقتلونا أولا قبل أن تطلقوا النار على أطفالنا ،لنا في غاندي ونلسون مانديلا مُثلاً للقادة الذين يؤثرون حياة ومصلحة شعوبهم على مصلحتهم الشخصية ، أيها الاخوة الأكارم لا تتوهونا في ردهات القاعات والمؤتمرات مثلما ضيعتنا السلطة في ترهات اللجان والمواعيد وأزيز الرصاص ، فهذه السلطة التي تعلن نيتها للإصلاح وتصرح إنها ستقوم بما هو ابعد من مطالب المتظاهرين ، تصر في الوقت عينه على وصم المتظاهرين بالمندسين والمتآمرين والعصابات المسلحة ، وتتعامل مع العالم بنفس الخطاب الإعلامي الذي عفى عليه الزمن وبنفس الشخصيات والوجوه القديمة ،وتصدر بعضهم حتى إلى مؤتمرات المعارضة ،أما الحلول في الشارع فهو المزيد من الدماء والمزيد من الأرامل والثكالى ،وسط الصمت العربي المريب ، والإدانة العالمية الخافتة .
الوطن في هذه المرحلة الصعبة والعصيبة بحاجة إلى كل الشرفاء وكل أصحاب الضمير الخائفين على مستقبل أبنائهم وبناتهم ،لا أعتقد إن احداً في هذه البلاد يحب وطنه أكثر من أولئك الشهداء الذين ضحوا بأراوحهم في سبيل نيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ،ودون أي تخوين لأحد أو إنقاص لقيمة أية شخصية فان الثورة تجرف في طريقها دائما كل مخلفات الماضي ،تهدم قيم الفساد والنفاق والتسلط ، لتبني مكانها قيم العدالة والمساواة والشفافية والتواضع السياسي ، على معارضينا الأعزاء أن لا يسيروا مسار السلطة في تجاهلهم للوجع الجماهيري ،عليهم أن يلتحموا بالقوى الشعبية المهمشة والفاعلة في هذا الحراك التاريخي ، أن يتخاطبوا معهم ويخطبوا فيهم وسط ساحاتهم العامة رغم كل القمع والخوف من قوى الأمن ، عليهم أن لا يكونوا متسلطين أكثر من السلطة وألا يكرروا خطيئة العراق باستبدال دكتاتور كبير بديكتاتوريات متعددة وفاسدة.
إن التاريخ يُكتب اليوم من جديد في هذا الشرق ، وان أية خطيئة ترتكب بحق شعوب المنطقة لن تغتفر بعد اليوم ،فقد طال زمن العبودية وآن لبوابة الحرية أن تفتح أبوابها لذوي القلوب الرحيمة والعقول النيرة .
كاتب سوري