يحرّم فيكم الصهباء/ ممدوح عزام
في أي متابعة إلكترونية في محرّكات البحث المعروفة باللغة العربية سوف يعثر من يبحث عن عبارة “الكيل بمكيالين” على عشرات الآلاف من النتائج، بحيث يبدو كأن العرب لا يشكون من شيء قدر شكواهم من هذا المفهوم الذي يطاول جميع المستويات في الحياة العربية. السياسة والفكر والقانون والدخل وتوزيع الثروة والضرائب والمواقف الدولية. وفي أكثر من مقالة تجد نوعاً من الندب الذي يريد أن يظهر أن هذا المبدأ أو المفهوم لا ينتهك سوى الحقوق العربية.
غير أن الشكوى، التي تتضمن قدراً كبيراً من الحقيقة، لا تخفي حقيقة أخرى هي أن الشاكي يمكن أن يرتكب مخالفات أو انتهاكات مماثلة، من حيث الطبيعة والنوع، للممارسات التي يهجوها أو يطالب العالم بالتوقف عن انتهاجها. ويظهر هذا السلوك اليوم في الممارسة السياسية، وفي النقد الأدبي، وفي سلوك الأفراد أيضاً.
ففي السياسة يمكن أن تجد حزباً عربياً، أو تياراً، يسكت عن تدمير المدن، وقتل المدنيين هنا، ويرفع صوته أو “عقيرته” (إذ يتضمن الصوت نوعاً من التباكي) تنديداً بقتلهم هناك. وتظهر ازدواجية المعايير في إدانة العنف هنا، والسكوت عنه، أو تأييده وإطلاق تسميات ملطفة من طراز العنف الثوري عليه هناك.
ويمكن لهذه العقيدة أن تتسلل إلى النقد الأدبي أيضاً، فالمتشدّد من بين بعض النقاد لا يزال يرى أن عدم السير على القواعد في الرواية الغربية تجديداً، ويسمي الإجراءات ذاتها في الرواية العربية انتهاكاً. بل إن الناقد الذي يظهر كثيراً من التسامح تجاه الروائي العربي الذي بات معروفاً ومكرّساً في الثقافة (خذ مثلاً الأخطاء النحوية) يبدي تشدداً لا رحمة فيه تجاه الروائي الشاب الذي ينشر روايته الأولى.
وهناك من يؤيد العشق في السينما والمسلسل التلفزيوني، ويرجمه في الواقع. ويمكن أن ترى آلاف الأشخاص يحتجون ضد آباء قد يضطهدون بناتهم العاشقات في مسلسلات الحب التركية أو المكسيكية، بينما هم يراقبون دفاتر بناتهم، أو سجلات المكالمات في هواتفهن، أو يحرّضون على وضع الأغلال والعراقيل في طريق الحب بين نساء مجتمعاتهم.
وتجمع النظريات الأخلاقية، والنظريات السياسية على ضرورة أن يقترن الفعل بالممارسة، ويدين الفكر المعاصر سلوك الكتّاب والمثقفين الذين يقولون شيئاً، ويفعلون أشياء مناقضة، ومع ذلك فإن المشكلة لا تجد حلاً، إذ أن الأمر يتعلق بموضوعة أكبر هي الإيمان بالعدالة. إذ يمكن أن يرتبك كثير من الناس، حين يتعلّق الأمر بواجبهم تجاه الحقيقة، وإذا ما كان الأمر يتعلق بالمثقفين، أو من يسمّون أنفسهم مناضلين، فإننا سنكون إزاء معضلات أخلاقية صعبة.
والراجح أن المجتمع العربي ظلّ يكابد من مثل هذه المواقف المنافقة منذ زمن بعيد. ومن الواضح أن كاتباً مثل أبو الأسود الدؤلي لم يكن يخاطب الروم أو الفرس حين قال: “لا تنه عن خلق وتأتي مثله”، بل كان يخاطب الفكر والسلوك العربيين. كما لم يكن أبو العلاء المعري يسخر من شاربي الخمر في بيزنطة حين هجا ذلك الذي: “يحرّم فيكم الصهباء صبحاً/ ويشربها على عمد مساء”.
العربي الجديد