صفحات المستقبل

يد اللاجئ البيضاء/ فاطمة برّو

 

عزيزي جميل، تحمّلني قليلا،

هذا نفسي الأخير. هذا ما اعتقده. غريق جديد في اللائحة. استبدل رقمي على الشاشات  باسمي الحقيقي، أخبر الآخرين عن هواياتي، أخبرهم كم رغبت بملاقاة المدن الكبيرة، كيف سبّحت لانتهاء الحرب، ظهّر صورة لي على “فايسبوك”، كبّرها وعمّمها، لا تقل أنّي لاجئ، انطق اسمي ألف مرة، سجّله حتّى لا تنساه. لست خائفاً، أنا متعب فقط.

انقلب المركب، ريشة زائدة أحدثت تلك الرضّات، تحلّلنا في المياه واحداً واحداً. ظننت بالبدء أنّها مزحة، كلما نزلت إنشاً، ظننتها مزحة يا جميل. أهكذا نختتم فيلماً؟ أتخيّل الآن رئتيّ تفوشان كالبطّة. أتذكّر دولاب بطّة النيلون. قالوا إنّه قد ينقذني منه. البحر لا أحبّه، أقيس فيه طول سمكة، أقبّلها، أصلّي لها وأحوم حولها. اليد البيضاء، يدي البيضاء تلوّح لشيء نسيته هناك، تركته هناك. لا شيء يؤلمني. أنت يا الله تعلم، وأنا أعلم أيضاً، أنّنا الحلائب السّامة المرّة للحرب. لكنّني ظننت لفينة أنّني استثناء عمّا يشبهني، يلفّني ويعانقني. أحب العناق، انزل يا الله لأعانقك بشدة، انزل لأخمّن عمرك. الأيّام أعدّها: سبعة كلّ أسبوع، كل ربع شهر، كل ساعة تقريباً. نوح هزم المياه بوحي صغير. أين لافتة الخروج الخضراء؟

البحر أجلس فوقه في مركب معلّق. أسمع أزيز البواخر المعطّلة. وزني ثقيل، الملح يصلني، الشمس تصلني، الإله فوقي مباشرة. آخذ نفسا وأطلقه بسرعة، أقصّ شعري وأبدّده، أفكّ عنقي وأعطيها لقرش هازئ. هذه صيغة التخلّص من كل ما نبت هناك. أتجرّد من الأظافر، الأسنان أمهلها قليلاً. نحن كل هذا العالم، هكذا قالوا لنا. لست خائفاً، أنا متعب فقط.

لم نطلب شيئا كبيراً. أن تتوقّف الحرب، أن تتجمّد الحرب، أن يكون ذلك الرحم الغليظ دافئاً، لم نطلب شيئا كبيرا يا جميل. أقول لرفاقك الغرقى: يا طين البحر، مدّوا أياديكم منه، لوّحوا لي، أزيلوا عنّي هذه المياه، اقتربوا منيّ، أنا الدكنة السوداء في العمق، أنا قالب الحلوى، سأنزّل لكم أقصاب سكر لتتنفسوا، سأبوح لكم عن رواسب ما كنّا نعيش فيه. هذه هي الحالة الزرقاء، هذا هو دار الممر الذي أخبرونا عنه وهذه هي الآخرة. الموت كثيف في هذا الفراغ. الشاطئ أراه من بعيد يلمع، أتذكر على الفور رغيف الخبز. الأصابع في المياه أمرّرها، قدمي تعبت، يدي تعبت. لست خائفاّ.

نحن طُعم السمكات الكبيرة، هذا ما لم يقولوه لنا. أراقب حذاء أخي يطوف، أشاهد بطون الأسماك، بطني الكبيرة وجلدي النيّئ. أتفرّج على الله. أغرق وفي فمي ملح، أغرق وفي فم العالم نتف من جلودي. تذوّقت الحرب، تذوّقت البحر. وقعت تحت هذا الجسر الأزرق. رأيت الإله يضحك وضحكت. لست خائفاً.

لا شيء أتّكئ عليه. مت، مات هذا الجسد، تخلّصت منه، مات قربي. نحن كل هذا البحر. النهارات الغائمة، تصحّ للنسيان، تصحّ لتآلف الأشياء. أريد منطاداً صغيراً يكمشني. هذا نفسي الأخير، ألفظه، ألفظ اسم رغدة، أحب رغدة. المسيح مشى على الماء، بخفّة مشى على الماء، ممّا كان يهرب؟

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى