يسار خلف الناس
امين قمورية
تونس كلها ودعت شكري بلعيد، وهو يستحق وداعاً كهذا بعدما اعطى شعبه كل ما يملك بما في ذلك دمه الحار. لكن الذي انزل الناس الى الشارع، هو الفاجعة بحد ذاتها والخوف من القوى الظلامية، وليس قوة اليسار وقدرته التنظيمية.
اليسار التونسي مثل اليسار العربي عموماً، صار هيكلاً أجوف لا يبقيه على قيد الحياة سوى قلة الموت. لايستيقظ الا بصفعة. فقد قدرته على التواصل مع شعبه ولم يعد يتقن سوى البكاء واللطم. اجاباته عن الاسئلة كانت دوماً مرتبكة ومحيرة لذا سبقته الناس في تحديد الهدف واعطاء الجواب الحاسم عن السؤال نفسه. اثناء الثورة التونسية كان اليسار اشبه بالضائع لا يعرف اين يوجه سهامه يلف ويدور حول الهدف. كان صوت الناس اعلى من صوته واكثر وضوحا: الشعب يريد اسقاط النظام. حدثت الثورة وسقط النظام. وكانت النتائج المخيبة في الانتخابات: هزم اليسار شر هزيمة واكل الاسلاميون الجبنة.
اليسار التونسي اليوم يسقط في الخطأ عينه: حيناً يريد تغيير الحكومة وحيناً يريد تقديم موعد الانتخابات وتالياً يجهل القاتل. لكن الناس مرة اخرى كانت أشطر: تريد محاكمة القاتل، والقاتل معلوم. هو النقيض الواضح لبلعيد فكراً ونهجاً وممارسة. اسمه معروف وعنوانه معروف.
اليسار التونسي، مثل اليسار السوري، مثل اليسار المصري، مثل اليسار العربي عموماً. يسار يمشي خلف الناس وليس امامهم. رجل في البور ورجل في الفلاحة. نصفه الاول يتلطى خلف جزمة عسكرية بذريعة الحفاظ على استقرار هش ومنعاً للفوضى او قطعاً للطريق على من يعتبرهم سلفيين أو أصوليين يريدون اعادة عجلة التاريخ الى الوراء. ونصفه الثاني يمشي خلف لحية محناة تحت شعار التخلص من حاكم مستبد وانتظار لحظة افضل. منهم من يريد تصفية حسابات محتملة مع اسلاميين يخشى رجعيتهم وانغلاقهم ومنهم من يريد ان يثأر من انظمة بوليسية عانى ما يكفي منها. في كلتا الحالين، اوكل اليساريون الى أنفسهم بالمجان وظيفة التنظير والتبرير لهذا الطرف او ذاك، ولما جاء الحساب كانوا هم الضحية، ولعل بلعيد أول الامثلة الحية.
منذ عقود دخل اليسار العربي في غيبوبة لا يستيقظ منها الا بفعل اغتيال سياسي، وكأن قدره تقديم القرابين على مذابح الغير. الا يكفي هذا اليسار هذا العبث بالوظائف التي لا تمت بشيء الى وظيفته الاساس؟ الم يحن الوقت لاجراء مراجعة شاملة واسترجاع مهمته الاصلية بالانحياز الى الناس الضعفاء والبحث عن حلول تخفف اوجاعهم، والبحث عن حلول واقعية عصرية لمشكلاتنا البنيوية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عوض التلهي بالبحث عن جنس الملائكة في الثورات العربية؟!
النهار