يسقط الأمل/ روجيه عوطة
من المستحيل إدراك الثورة السورية بالإستناد إلى مقياسَي التفاؤل والتشاؤم. فهما يصيبان الثورة في صميمها، ويحددان أحداثها على مسندي الخير والشر. هذا التحديد، على مضمونه الأسطوري، يغبش النظر إلى الحدث، ويشل كل حركة داخله، قد تؤدي إلى اجتياز عوائق الظرف الموضوعي، أو تذليلها. فالقياس التشاؤمي يوازيه خطاب يقول في سلبية مجريات الثورة، لا سيما بعد الثناء الدولي على المجرم بشار الأسد، أو “الرئيس المقبل” بحسب رغبته.
أما القياس التفاؤلي، فيرافقه خطاب يعلن أن مناويل الثورة على ما يرام، إذ يجوز تسليم سددها للآتي من التبدلات، والإنتظار قليلاً إلى حين إعلان انتصارها. تشاؤمياً، النظام قوي للغاية، لكنه ضعيف، وسيتداعى بفعل أول صفقة أميركية- روسية، تفاؤلياً. من هاتين الوجهتين، تتجمد الثورة على حال من التنازع بين بداية نهايتها ونهاية بدايتها.
صحيح أن التفاؤل بات اليوم هزيلاً، غير أن التشاؤم لا يزال يشترط حضوره كي ينطلق في تفجعه، الذي ينطوي على شكل من أشكال الندم، وعلى نوع من أنواع التبكيت الضميري. لذا، سرعان ما ينتج التوجع للثورة، شكاية دائمة منها، وحنينا إلى ما قبل وقوعها. وينتج تالياً، استسلاماً مبيناً أمام النظام. فالخطاب التشاؤمي يثبت النظر على موضوع واحد، غياب التظاهرات على سبيل المثال، وهو موضوع لا يتغير أو يتحول، لأنه يصبح صورة سلبية، لا صلة لها بالواقع، مهما تبدلت أحواله.
التثبيت نفسه، ينسحب على التفاؤل، الذي يحيط بحادثة أحادية، عازلاً إياها عن سياقاتها، ومؤبّداً إيجابيتها. فيهجس فيها، ويعممها على الثورة، حتى تستحيل ضرباً إيديولوجياً، من المستحيل مواكبة الأحداث في إثره، أو تخطي المعرقلات في نتيجته. يتشابه التفاؤل والتشاؤم من ناحية “تأبيد” الثورة على مستوين متقابلين، الأول إيجابي، والثاني سلبي، لا يتيحان التيقظ النقدي. الخطاب التشاؤمي ينفي الثورة بسابقها “المخطئ”، أما التفاؤلي، فيلغيها بآنية هشة، لا شك أنها زائلة. تالياً، ليس في مقدور المتشائم أن يرنو إلى مسعى ثوري انطلاقاً من سلبيته، كما ليس في استطاعة المتفائل أن يشيد واقعا ثوريا، أو يكشف عنه، لأن إيجابيته منزوعة من زمن الحدث المتدفق.
غالباً ما يترافق خطاب التشاؤم- التفاؤل بالكلام عن الأمل، أكان مفقوداً أم حاضراً. فلطالما كان هذا “الشعور” إيديولوجياً، يندرج في سياق النهي عن الثورة بسبب افتعاله في ظل “الأبد” الغليظ. أما بعد اندلاع الثورة، فيستحيل الأمل وحدة إديو- شعورية، من خلالها يتسلل النظام إلى الحدث الإنتفاضي، فيرجئ تخلصه من خطابي التشاؤم والتفاؤل، ويخفف من زيفهما، حتى تصبح السلبية والإيجابية، الأداة الوحيدة، التي يمكن استخدامها لتحقيق غاية خطابية، منالها سهل وسبيلها مفتوح.
فإذا تشاءم المرء من الثورة، وندم على اندلاعها بسبب الخسائر مثلاً، لجأ إلى الأمل كي لا يشعر بذنب أو بوخز ضميري، يدل على خيانته الحدث الثوري. أما إذا تفاءل من الثورة، وعلق في صورة أحادية عنها، صار الأمل عبارة عن نافذة داخل تلك الصورة. علماً أنها نافذة بمشهد ثابت، بحيث يطل المتفائل منها على الواقع حتى لا يشعر بخديعة ذاتية، حين يكتشف أن الثورة ليست على ما يرام. الأمل المقرون هنا بالتشاؤم أو بالتفاؤل، علامة من علامات الوعي الشقي، وإشارة من إشارات سوء النية، التي من نافل القول إنها تعبّر عن خطاب البعث، مثلما تشير إلى تأسيد الخطاب.
لا تقرأ الثورة إنطلاقاً من التشاؤم أو التفاؤل، كما لا تُخاض بالأمل، خصوصاً أن النظام قد محا المسافة بين المنازع والمقولات. فعندما يعلن بشار الأسد أنه سيترشح إلى سدة الرئاسة العام 2014، يستفز بإعلانه هذا خطاب التشاؤم والتفاؤل، محرّكاً إياه مباشرةً. إذ يتفاءل بعضنا، ويتشاءم بعضنا الآخر، وجميعنا نأمل، لا سيما أن النظام الدولي خلف النظام البعثي، لا في وجهه. وردود الفعل هذه تسمح لسلطة الأسد بأن تتأبد أكثر. إذا جرى التخلص من هذا الخطاب، لما ترك للديكتاتور متكآت في الثورة، أو طرق للتسلل نحوها. فليعلن ترشحه، وفلتندلع الثورة مرة أخرى، أو بالأحرى، فلتتناقد (من نقد) وتستمر.
النهار