أدونيس منقلباً ومبتعداً عن تراثه الشعري… إنجاز الثورة السورية وجنايتها/ محمد علي الاتاسي
يعود إلى الجامعة الأمريكية في بيروت بعد مرور 68 عاماً على زيارته الأولى إلى حرمها
بعد خمسة أعوام على اندلاع الثورة السورية، وما يثيره الموقف منها، من انقسامات وتجاذب داخل المجتمع اللبناني، يحلّ الشاعر السوري أدونيس يوم السبت 22 نيسان/أبريل الجاري ضيفا على كلية العلوم والآداب في الجامعة الأمريكية في بيروت٬ ضمن سلسلة من الندوات والمحاضرات احتفالا بمرور 150 عاماً على تأسيس الجامعة.
لا شك أن أدونيس هو واحد من أهم الشعراء العرب الأحياء، ومن المنطقي، في الظروف الاعتيادية، أن تستضيفه كلية الآداب في الجامعة الأمريكية في احتفالية تحمل هذا الطابع الرمزي، لكن هذه الدعوة تأخذ بعدها الإشكالي في هذا الوقت بالذات، بسبب المواقف السياسية الملتبسة للشاعر من الأحداث في بلاده، ومن جرائم نظام الأسد تحديداً.
أدونيس، الداخل إلى حرم الجامعة من مدخلها الرئيسي، على شارع «بليس»، سيعبر من تحت لافتة كبيرة للفصيل العسكري «نسور الزوبعة»، المقاتل إلى جانب النظام في سورية والتابع لـ»الحزب القومي السوري الاجتماعي»، علّقت أمام المدخل الرئيسي، وكتب عليها من بين ما كتب: «مداد الدم، شهادة أرض واحدة» في إشارة إلى ما يعتبرونه وحدة الأرض السورية، التي تضم سوريا ولبنان. واليوم، وبعد عشر سنوات تقريباً على انسحاب الجيش السوري من لبنان، قد يفوت أدونيس وأصحاب الدعوة إلى الاحتفالية، التساؤل ما الذي سيحدث يا ترى، لو أن منظمة مدنية لبنانية قررت مثلاً أن تعلّق بالقرب من المكان ذاته، لافتة تدعو إلى رفع الحصار والتجويع عن أهالي مضايا والزبداني، أو تستنكر إلقاء البراميل المتفجرة على المدنيين؟ هذا حتى لا نتجرأ ونقول إنها تدعو «حزب الله» إلى سحب قواته من الداخل السوري.
نعم قد يفوت أدونيس وأصحاب الدعوة طرح مثل تساؤلات كهذه، لكنهم حتماً يعرفون ماذا سيكون مصير لافتة كهذه متعاطفة مع الشعب السوري، في حال رفعت أمام المدخل الرئيسي للجامعة الأمريكية في بيروت، وهم حتماً يعرفون كيف ستقابل دعوة أيّ أديب سوري معروف بمواقفه المؤيدة لثورة الشعب السوري والمعارضة لنظام الأسد. نعم هم حتماً يعرفون حق المعرفة من هو المنتصر وصاحب اليد العليا، ومن هو المهزوم اليوم في بيروت. نعم سيمر أدونيس من تحت اللافتة، وأغلب الظن أن شعار الزوبعة على هذه اللافتة سيذكّره بواقعة سابقة له في الجامعة ذاتها، ومع الشعار ذاته، عندما أتى إليها من اللاذقية فتى يافعاً عام 1948 لاستلام جائزة جمعية «العروة الوثقى» الشعرية، وأصرّ مسؤولو «الحزب القومي»، ضد رغبة الجهة المنظمة، إلا أن يلقي القصيدة الفائزة في قاعة «الوست هول» وشعار «الزوبعة» يزين صدره، على ما روى هو في المقابلة التي أجراها معه عبدو وازن، ونشرت في صحيفة «الحياة» (20/3/201).
ذروة الصداقة
لقد جمعتني بالشاعر ذات مرة صداقة ناشئة، كتبَ أدونيس في وصفها بأنني «الصديق الذي يعلو بالصداقة إلى ذروتها» (صحيفة «الحياة» بتاريخ 7/8/2003). لقد كان هذا النص الجميل عن دمشق والمهدى لي، بمثابة ردّ للتحية بأحسن منها، من شاعر كبير إلى كاتب يافع، في أعقاب القراءة النقدية التي قدمتها في المكتبة الوطنية في دمشق وبحضور أدونيس، عن علاقته الإنسانية والشعرية الملتبسة مع مدينة دمشق ونشر لاحقا في «ملحق النهار» الأدبي.
لقد مضى زمن طويل، وسال حبر كثير في طاحونة الأيام، منذ أن جمعتنا هذه الصداقة الدمشقية، وجمعنا بيان الـ99، العابرين خفافا في ربيع دمشق المجهض عام 2001. وها نحن اليوم في زمن جديد، زمن ثورات الربيع العربي، زمن البراميل المتفجرة وقطع الرؤوس، زمن «داعش» والأسد، زمن أدونيس ونزيه أبو عفش، زمن الخذلان والموت، زمن النهايات والبدايات وزمن الإرادة والأمل. وعليه لا شيء يجدي اليوم في هذه الجلجلة الكبرى، سوى الكلام الصادق والصريح. يقول أدونيس، في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «تزايت» الألمانية (22/10/2015) إن منتقديه لا يقرؤونه وإن «قراءة أحدٍ هي شرط مهاجمته»، وعليه لن تتضمن هذه المقالة أي نقد من دون شواهد وإحالات إلى كتابات وتصريحات لأدونيس موثّقه بالتواريخ.
توقف أدونيس عن كتابة الشعر منذ فترة ليست بقصيرة، وحسنا فعل صونا لميراثه الشعري، لكنه لم يتوقف عن كتابة المقالات وإعطاء المقابلات الصحافية، التي ضمنها مواقفه السياسية الشعوبية التي لا تنفك تثير الضجة الإعلامية أكثر بكثير مما تقدم المعرفة المعمقة. ولم يتوقف أدونيس خلال السنوات الأخيرة عن الانزلاق أكثر فأكثر في إطلاق التعميمات الاستشراقية بخصوص المجتمعات العربية والثقافة العربية، التي تكاد تطابق الأحكام والصور النمطية التي حفلت بها كتب الرحالة الأوروبيين إلى منطقتنا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فالعرب بنظر الشاعر هم بدائيون، متخلفون، كسالى، عديمو الثقافة، كذابون ومنافقون. لا، ليس في هذا تحريف أو تقويل لأدونيس ما لم يقله، والأمثلة تكاد لا تنتهي. ففي واحد من آخر تصريحاته يقول أدونيس لمجلة «النيويوركر ريفيو أوف بوك» (16/4/2016): « نحن بدائيون. نحن لا نزال في العصور الوسطى وأنت تسأل أسئلة من العصر الحديث؟». وضمير الجمع «نحن» دائما حاضر عندما يريد الشاعر استخدامه لمهاجمة أبناء ثقافته، الذين يختصرهم بكلمة «العرب». يقول أدونيس في مقابلة لصحيفة «السفير» (19/6/2006): «نحن العرب أفراد كسالى، يجب أن ننتقد أنفسنا دائماً». أما كيفية النقد، فهي لا تكون إلا بجلد الذات، وكيل الشتائم للثقافة العربية، بطريقة لا يتجرّأ حتى ممثلو اليمين المتطرف الأوروبي بالتفوّه بمثلها. ألم يقل أدونيس أمام مئات الحضور في كلمته التي ألقاها على هامش معرض الكتاب في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2015، أن «الثقافة العربية السائدة لا تعلّم إلا الكذب والنفاق والرياء». وإذا كانت هذه حال الثقافة العربية، فإن المجتمع العربي الذي تنتمي إليه هذه الثقافة هو مجتمع «يعيش من دون رؤية، من دون مشروع، من دون علم، من دون فن، من دون فلسفة، وحتى من دون عمل». أما الفرد العربي داخل هذا المجتمع فهو «تجريد حقيقي، اسم من دون معنى. الإنسان العربي يولد ميتاً»، كما يكتب أدونيس في الصفحة 20 من كتابه «الربيع العربي» الصادر بالفرنسية عام 2014.
تبدو مشكلة أدونيس الأساسية مع المجتمعات العربية وثقافتها ودينها، لا مع السلطات الحاكمة. من هنا لا غرابة أن يدعو إلى تغيير المجتمعات قبل تغيير الأنظمة، وأن يكرر متلازمة السلطات العربية الحاكمة، بخصوص أن شعوبها غير متهيئة بعد للديمقراطية، وأن التغيير يبدأ من الأسفل وليس من الأعلى، وأساس وبداية هذا التغيير بنظر أدونيس لا تكون بالتنمية ولا بالتعليم ولا بالقضاء على الفقر ولا بالعدالة الاجتماعية، ولكن بفصل الدين عن الحياة العامة! يقول في مقابلة مع إذاعة مونت كارلو الدولية بثت في 14 آذار/مارس 2014 إن «الكلام عن الديمقراطية كلام لا معنى له في أي بلد عربي، إذا لم تكن هذه البلاد أسست أو انفصلت اجتماعياً وثقافياً وسياسياً عن الدين».
مكان المثقف الحقيقي
هذه العلمانوية المتطرفة٬ ولا يصح فيها إلا هذا الوصف، وهذا الاستعلاء الثقافوي النخبوي على الشعوب ومصائرها، سيقودان أدونيس، بخصوص بلده سورية، إلى الإمعان في اتخاذ مواقف مجافية لتطلعات الشعب السوري في الحرية والعدالة. بدءاً من احتجاجه في بداية الثورة على أولية شعار إسقاط النظام، وعلى خروج المظاهرات الaسلمية من الجوامع، وعلى عدم رفع المتظاهرين السلميين لشعارات فصل الدين عن الدولة، وصولاً إلى إعلانه أن «ما حلمنا به كثورة هو غلط ووهم»، وأنه «ليس الشعب من الداخل هو الذي تحرك. تحرك المرتزقة وتحرك كم واحد قاعد بالخارج. بينما المعارضة في الداخل غير معترف بها من الطرفين. ليس هناك ثورة. لم تعد هناك ثورة». طبعا معارضة الداخل غير المعترف بها بعّرف أدونيس، لا تشمل رزان زيتونة ولا يحيى الشربجي ولا فائق المير ولا جهاد محمد ولا رياض الترك. مثل هؤلاء سكت ويسكت عنهم أدونيس، فبالنسبة له معارضة الداخل تبدأ وتنتهي عند هيئة التنسيق الوطني ممثلة بحسن عبد العظيم، التي أعلن أدونيس مرارا تأييده لها.
في السياق ذاته، لا يتوانى أدونيس عن إعطاء الدروس للشعب السوري في ضرورة التضحية والنضال قائلا: «نحنا الشعب السوري لازم نتعلم نناضل ونموت من أجل قضايانا. وإذا درسنا تاريخنا الحديث لا نجد أننا ناضلنا كما ينبغي من أجل استقلالنا، كما ناضلت بقية الشعوب من أجل استقلالها. نحنا أعطينا الاستقلال منحة من الاستعمار. ويجب ان نعترف بذلك… تاريخ الشعوب لا يكتب بسنة أو سنتين، والانحطاط بدّو نضال قوي» (برنامج المشهد على قناة BBC 6 حزيران/يونيو 2015). وأدونيس، الذي كان صامتاً في الماضي على دخول الجيش السوري إلى لبنان، وعلى مجازر تل الزعتر، وعلى مجزرة تدمر عام 1980، وعلى مجزرة حماه عام 1982، وعلى ديكتاتورية الأسد، وعلى توريث السلطة، بقي صامتاً مع اندلاع الثورة السورية على قتل المتظاهرين السلميين في الشوارع، وبقي صامتاً على تدمير المدن والقرى، وبقي صامتاً على تجويع الناس وحصارها، وبقي صامتاً على أهوال التعذيب والقتل في السجون السورية، وبقي صامتاً على قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة، وبقي صامتاً على مجزرة الكيميائي في الغوطة. أدونيس بقي صامتاً، إلى أن سألته صحيفة «اللوموند» الفرنسية في ملحقها الأدبي (29/1/2014) عن سبب تقاعسه عن إدانة استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي، فكان ردّه «أنه إلى يومنا هذا لم يتمّ التأكد بدقة من الجهة التي استخدمت الأسلحة الكيميائية». ويسأل أدونيس مستغرباً «أمام أي جهة قانونية مشرعنة، تم تقديم تقرير دقيق وموضوعي، يعطي الدلائل على مسؤولية هذا الطرف أو ذاك؟ من، من الجيش السوري أو من المتمردين أو من يدعون أنهم متمردون، ابتدأ باستخدام هذه الأسلحة؟ الطرفان قادران على ارتكاب مثل هذه الفظاعات». أدونيس الصامت والمتقاعس، إلا عن تجهيل الفاعل المسؤول عن مجزرة الكيميائي، وإلا عن معاركه الدونكيشوتية في سبيل علمانويته المرتجاة، أدونيس المتنقل بحرية ورخاء بين باريس وبيروت وقريته قصابين، أدونيس الذي سحب توقيعه عن بيان للتضامن مع الشاعر السوري السجين فرج بيرقدار عام 1998 متحجّجا للفنان السوري يوسف عبدلكي بأسباب أمنية وسياسية، كما بين عبدلكي في ردّه على أدونيس في «الحياة» (27/1/2005). أدونيس هذا لا يتورع عن إعطاء دروس في النضال، ومجابهة السلطات الحاكمة للكتّاب العرب الذين قضى بعضهم عشرات السنين في السجون بسبب كتاباتهم وآرائهم السياسية. يقول أدونيس في مقابلة «مجلة النيويوركر» (مرجع سابق): «أتسأل لماذا تخلو السجون العربية من الكتّاب. أتسأل لماذا، لأن هذا يعني أن الكتّاب العرب لا يؤدون عملهم. هم لا ينتقدون…..الكاتب يجب أن يكون دائماً في السجن، لأن معنى ذلك أنه يقول الحقيقة. وإذا كان خارج السجن، فمعنى ذلك أنه لا يقول الحقيقة».
خانته حنكته
محاولة الشاعر العبثية لتبرير ما لا يبرر في مواقفه المتناقضة، تصل في بعض الأحيان إلى ذرى سريالية، كمثل قوله في برنامج المشهد BBC(مرجع سابق): «أنا كنت أتمنى أن تطلع مظاهرة ضخمة واحدة في دمشق، وإذا ضربت من البوليس اليوم، بتطلع في اليوم الثاني. أنا مثلاً كنت أتمنى تطلع مظاهره ضخمة في حلب، في حمص، في المدن الكبرى. ما في ثورة إلا إذا دفع الشعب الثمن». طبعا لا ينسى أدونيس، ولا يتناسى فحسب، مئات الألوف التي نزلت إلى الشارع في المظاهرة الكبرى في مدينة حماة وفي اعتصام الساعة في مدينة حمص، ولكنه يسكت أيضاً عن ألوف الضحايا التي سقطت نتيجة القمع الوحشي للمظاهرات السلمية، الذي كان السبب الرئيس في توقفها.
هذه النظرة الدونية لتضحيات الناس ومآسيها، تسمح للشاعر ليس فقط بوصف الرئيس السوري، في رسالته المفتوحة له في بداية الثورة، بـ»الرئيس المنتخب»، ولكنها تمكّنه من الاستخفاف بتضحيات اللاجئين، معتبرا أنه لم تعد هناك حركة شعبية بالمعنى العميق للكلمة لأن «جسم الشعب السوري الحقيقي، إما هاجروا وتركوا أمكنتهم٬ والجسم الآخر لم يتحرك ثوريا» (مقابلة إذاعة مونت كارلو، مصدر سابق). وعليه لا يجد أدونيس غضاضة بالدعوة إلى ما يسميه «انتخابات نزيهة ترعاها الأمم المتحدة، ويقرّر الشعب فيها من يحكمه.. ويجب أن يتم الانتخاب بمن بقي في البلاد» (صحيفة «تسايت» مصدر سابق)، بمعنى أن انتخابات أدونيس «النزيهة» ستتم مع وجود الأسد ومؤيديه، ومن يعيش تحت سلطته، وبمعزل عن اللاجئين والمهجّرين إلى خارج البلاد.
ودائماً في الصحيفة الألمانية ذاتها، يتحدى أدونيس من يتهمه بدعم النظام «أن يريه سطراً أو جملة واحدة تشهد على ذلك»، وهو إذ يفعل فلأنه مدرك أن تشاطره الثقافي، سمح له دائماً بتجنّب أي مديح علني لشخوص النظام، كما مكّنته في الآن نفسه من تجنّب أي نقد جريء لهذه الشخوص. لكن يبدو أن حنكته هذه خانته أمام إعجابه العميق بحافظ الأسد، فعندما سأله عبدو وازن (الحياة مصدر سابق) إذا كان التقى بالأسد وعن رأيه فيه أجاب أنه لم يلتقه ولم يعرفه إلا من الخارج، وأردف قائلاً: «هكذا أعجبت بسياسته الخارجية، غالباً. كانت تدل على رؤية عميقة، تاريخية واستراتيجية. أعجبت كذلك بقضائه على الطفولة اليسارية، البطَّاشة والجاهلة، في حزب البعث، فقد دمَّر «قادتها» سورية، على جميع المستويات».
واليوم إذ يعود أدونيس محاضراً إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، بعد مرور 68 عاما على زيارته الأولى إلى حرمها، فإن مواقفه السياسية الإشكالية، لا أعماله الشعرية، هي التي سترافقه إلى حرم الجامعة.
من هنا فإن الجامعة، من خلال هذه الدعوة، لا تتطلع إلى المستقبل، ولا تحتفي بواحد من كبار شعراء العربية في العصر الحديث، ولكنها تستقبل علي أحمد سعيد إسبر الإنسان والصحافي، الذي لم ينفك منذ عدة سنوات ينقلب ويبتعد عن ميراث أدونيس الشعري باتجاه أكثر المواقع نكوصاً وانعزالية، وربما تكون هذه واحدة من أهم إنجازات الثورة السورية على الصعيد الثقافي، وواحدة من أكبر جناياتها.
كاتب وسينمائي سوري
القدس العربي
أدونيس يتسلل في “الجامعة الأميركية”/ هدى حبيش
استضافت “كلية العلوم والآداب” في “الجامعة الأميركية في بيروت” الشاعر السوري أدونيس، الذي كثر الجدل حول تصريحاته المتعلقة بالثورة السورية منذ ولادتها، في ندوة نظمتها الكلية احتفالا بمرور 150 عاماً على تأسيس الجامعة. وفيما اعتبرت الكلية في كلمتها المرحبة أن أدونيس “أحد أبرز رموز الحداثة في الشعر والنقد وفي نبذ التعصب والإيديولوجيا وفي الإنحياز للتنوير”، لم تستسغ مجموعة من طلاب الجامعة حضوره باعتباره “شاعراً سورياً يدين بالولاء إلى نظام البراميل المتفجرة”، وهو موقف عبرت عنه هذه المجموعة من خلال مناشير وزعتها على الحضور قبل انسحابها من القاعة بأسلوب حضاري شكرهم عليه مقدّم الندوة.
في الندوة التي حملت عنوان “بيروت: الشعر والفضاء والأجنحة”، بدا أدونيس نخبوياً في مواقفه. فالشعر بالنسبة إليه هو أداة للفرادة وليس للاستخدام “المشترك العام”. “الشعر دائماً في أزمة في العالم كله، وهي عندنا في العالم العربي قائمة منذ تأسيس الدولة الإسلامية الأولى. وتتمثل الأزمة هنا في استتباع الشعر وتحويله أداة إيديولوجية للدفاع عن الدين والسلطة. لكن الشعر الإيديولوجي السياسي شارك في قتل الشعرية العربية وفي قتل اللغة والمخيلة، ذلك أن القصيدة هنا تردنا إلى المشترك العام أي إلى ما هو نقيض الشعر من حيث أنه نقيض للفرادة والمخيلة والحلم”. وبغض النظر عن موقفه من الدين والسلطة، يناقض عزل أدونيس دور الشعر عن الدفاع عن القضايا الاجتماعية مفهوم الشعر الحديث وهو من رواده. فخصائص الشعر الحديث تشمل ارتباطه بالمجتمع تأثراً وتأثيراً.
اتصف حديث أدونيس في هذه الندوة أيضاً، كما في ندوات ومقابلات سابقة، بالتعميم، وخصوصاً في حديثه عن الثقافة العربية والإسلام. يتحدث أدونيس عن الثقافة العربية كأنه أجنبي فيها. وفي تعميماته حولها يذكرنا بالمستشرقين الغربيين. الثقافة العربية بالنسبة إليه “ظاهرة سيكولوجية. إنها ركام من المكبوتات التاريخية، والمعتقدات المسبقة، واليقينيات الخرافية”. فقط لا غير. تشمل تعميماته الحديث عن اللغة العربية أيضاً، إذ أورد في الندوة: “ينعكس الجهل في اللغة العربية على الثقافة والسياسة على السواء.. بشكل عام نجد أن الذين يتقنون العربية حقاً هم في المقام الأول من غير المسلمين والذين يرتقون بها إلى مستويات راقية في الشعر هم من أصول غير عربية كردية وسريانية وأمازيغية”.
واعتبر أونيس “الثقافة العربية السائدة اليوم هي تجسيد للوظائفية، ثقافة سياسية تابعة للسلطة لا أتردد في وصفها أنها ضد الحقيقة، وهي في ذلك ضد الإنسان نفسه، إنها تمارس طغياناً شيطانياً يتحول فيه كل فرد إلى طاغية في مكانه”. جميل انتقاد أدونيس للسلطة والطاغية ليبقى مستغرباً استثناءه الدائم النظام السوري في حديثه هذا. هو الذي يقع في فخ التنميط والمحاكمة في حديثه يتغنى بمجلة “شعر” وهي مجلة أدبية شهرية أسسها الشاعر يوسف الخال في العام 1957، ساهمت في تأسيس الشعر الحديث، وكان أدونيس فرداً من أسرتها لأنها “قامت منذ البداية على القطيعة مع عصر النّهضة باستثناء جبران ومع ثقافة السلطة منذ نشوء الدولة الإسلامية الأولى، أي القطيعة مع ثقافة المعتقد والتنميط والتقليدي والمحاكمة والثقافة التي توحد بين الدين والسياسة وتبني الدولة على أسس دينية”.
وبالعودة إلى حركة الطلاب خلال الندوة، أورد الطلاب في حديثهم مع “المدن” أن “الجامعة توقعت ردة الفعل هذه وأكثر لذلك حضّرت لهذا الحدث بهدوء ومن دون إعلان واسع”. استطاعت هذه الحركة أن تضع أدونيس في موقف حي يترجم تعريفه ومفهومه للديموقراطية. خيبت هذه الحركة الطلابية أمل أدونيس وتوقعاته، فقال: “كان من الأفضل من الإخوان الذين رفعوا الشعارات أن يجلسوا ويتحاوروا ويطرحوا أسئلتهم.. آسف أن هذا يحصل في قلب هذه الجامعة، لكن هذا لا يفاجئني إطلاقاً”.
فعلاً، لم تكن حركة الطلاب هذه مفاجئة، فتاريخ طلاب “الأميركية” حافل بحركات طلابية عبرت عن إختلاف آرائهم عن رأي إدارتهم وعن مطالبهم ومواقفهم. وتتكرر هذه الحركات بين فترة وأخرى مع كل زيارة لشخصية مثيرة للجدل. أما دعوته لهم إلى الجلوس وطرح الأسئلة فعرقلتها الجهة المنظمة بشكل متوقع في مقاطعتها سؤالاً جريئاً لطالب سوري في الجامعة طالبة من الطالب متابعة الحديث مع أدونيس لاحقاً، لكن الطالب استطاع فرض سؤاله بإصرار. أدونيس الذي لم ينكفئ عن دعوة الحضور إلى قراءة آخر إصداراته باعتبارها تبلور أراءه أصر على تصنيف منتقديه الشباب ب”غير مطلعين على كتاباته”.
وإجابات أدونيس لم تكن مرضية بالنسبة إلى كثيرين في القاعة، فلدى إجابته عن سؤال عن موقفه من الثورة توقف عند تعريف الثورة، مسقطاً هذا التعريف عن “الثوار” في سوريا. وفي انتقاده الثورة السورية، سلط الضوء على غياب الحديث عن حقوق المرأة في بياناتها كدليل لعدم ثوريتها.
رغم ما تقدّم، أعرب أدونيس في ختام حديثه عن استيائه من محاكمة الشاعر على مواقفه السياسية والفكرية والدينية بدلاً من قصائده قائلاً: “يطرح معظم النقاد العرب أسئلة حول توجهات الشاعر الفكرية والدينية والسياسية، أسئلة عقيمة جاهلة لا علاقة لها بالشعر ولا بالثقافة، ومن يطرحونها لا يقرأون النص ولكن صاحبه”. قد تكون هذه الحجة محقّة، لكن حديث أدونيس نفسه عن الشعر وتعريفه لا ينفصل عن الحديث عن السياسة والأنظمة والسلطة، فكيف يطلب من النقاد الفصل، بينما لا يفصل هو نفسه مواقفه السياسية والفكرية والدينية عن تعريف الشعر؟
المدن