صفحات المستقبل

«يـا نجمـة الصبــح.. فوق الشام عـلـيتـي»

ماهر منصور

ننتظر طائرة دمشق حتى تصل المطار. ننتظرها من دون تململ وقد تأخرت، فلا توقيت معروف لوصولها، كما كل شيء اليوم هناك في دمشق. نتوقع التوقيت، نأمل به أو نخشى منه، لكن ما من أحد يجزم به.

أخيراً نلمحه يشقّ طريقه بين الداخلين عبر بوابة القادمين في المطار. نتفقد ملامحه من بعيد. لا نعرف أن كان شحوب وجه من تعب السفر الطويل أو من وجع دمشق. وأخيراً، يتجاوز الحاجز صوبنا. نتحسس جسده ما أن يصير بين أيدينا. نعد أضلاعه ونبضات قلبه وأنفاسه. وحين نطمئن أن كل شيء فيه كامل، نسأله أربعتنا السؤال ذاته: كيف الشام…؟

رائحة «الشام» لم تفارقه بعد. خرج منها وسيعود، يقول لنا. يفاجئنا أنه لم يزل قادراً على السير في شوارعها. ليس كل شوارعها، يستدرك. يقول إنه ما زال يمارس عادته الأثيرة في التسكّع في شوارع المدينة القديمة، من باب الحميدية مروراً بجامع الأموي فمقهى النوفرة باتجاه باب توما، لينعطف على اليمين قليلا صوب حمام البكري، وصولا إلى الساحة حيث الباب. لكنه يعود ليستدرك شيئا فاته: أمضي في الشوارع ولكن ليس كعادتي حين استسلم لها ولدروبها. المشي هناك صار مثل مسألة الحساب. في نهاية كل شارع تخترقه تحتاج إلى التوقف لتسأل نفسك ماذا عن الشارع التالي. يحدثنا بشيء من الحزن، ونسمعه بشيء من الحنين، ثم نصمت بعدها لنتبادل الأحاسيس: لنا خوفه وله حنيننا.

كنا ننتظر القادم من دمشق، كمن ينتظر القادم من حرب بعيدة ليرويها. نأخذه نحو أسئلة نشرات الأخبار العصية على الفهم، فيأخذنا إلى التفاصيل الإنسانية الدمشقية البسيطة هناك. يضحك كثيراً وهو يحدثنا عن زوجته التي اعتادت القذائف ولم تزل تخاف من الصرصور. يمازحني، فيقول لي لستم وحدكم من يعرف نوع القذيفة من صوتها، قبل أن يباغتني بسلام حار من أبي يطمئنني فيه على أهلي وبيتنا في المخيم وعلى بيت الحمام فيه. يستفيض في الشرح، فيخبرني كيف استطاع أبي الوصول إلى بيتنا في المخيم، كيف أنه سُرَّ بأن القصف الذي نال من البيوت والبشر لم ينل من بيت الحمام على سطح بيتنا. يخبرني كيف أن أبي ترك باب البيت مفتوحاً للحمام. كيف عاد متسللاً إلى البيت ليجد الحمام على حاله لم يغادر.

نبتسم لحماسته وهو يروي تلك التفاصيل. يحدثنا عن طوابير الحياة اليومية بانتظار الخبز والمازوت والغاز والكهرباء. لكنه يختار القصص الطريفة من تلك الطوابير ليرويها. في كل مرة كنا نعد أنفسنا، ليذهب راوينا إلى الموجع من تفاصيله. لكنه يواصل كما بدأ. يروي ويروي ويروي. هو لا يبدو مدعياً في الحديث عن تفاصيله الشامية الصغيرة، ولكنه يفاجئنا بعد حديثه الطويل، بأن تلك هي التفاصيل المهمة التي أحب أن يرويها لنا، إلى جانب الموت العبثي والدمار وأخبار القصف اليومي.

يوجز صديقنا القادم من دمشق حديثه عن وجع الشام، ويستفيض في وصف الحياة فيها. لم يكن ذلك ترفاً، كما يبوح لنا في لحظة ضعف، ففي وجع الشام ما يدمي القلب، وما يثقل اللسان ويربكه، وما يجعلنا نوهم أنفسنا أن ما نراه ونعيشه هناك مجرد كابوس ويمضي. يكف صديقنا عن الكلام، ونكف عن أسئلتنا، فيما تمضي السيارة بنا بعيداً عن المطار، يشقّ صمتها صوت الفلسطينية سناء موسى: «يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي/ الجواد أخدتي والأنذال خليتي/ نذر عليّ إن عادوا الأحباب ع بيتي/ لأضوي المشاعل وأحني العتاب».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى