يـــأس المثقفيـــن
عباس بيضون
لم تطلب الثورات العربية إذناً من أحد. فاجأت الجميع في الداخل وفي الخارج. لم تكن منتظرة ولا متوقعة حتى من أكثر الناس ايجابية وتفاؤلاً. الآن بعد ان قامت يكتفي كثيرون باتهام الغرب. يكتفي كثيرون برمي المسؤولية على الولايات المتحدة وأوروبا. مثل هذا التفسير رائج بين المثقفين. بعضهم يجد أن من الذكاء وبعد النظر تصور ملحمة كونية في سوريا أو سواها. فتغدو الأحداث السورية حرباً بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي. مثل هذه التنظيرات لا تحتاج إلى محاكمة ولا إلى دليل فهي تبني على خطاب جاهز طالما تبناه المثقفون واعتبروه استشرافاً وعمقاً وإحاطة. تنظيرات كهذه تدل على يأس مقيم توصل إلى إلغاء الواقع العربي واعتباره خلواً من أي شيء. حين يتحرك العرب علينا أن نبحث عن اليد التي تحركهم ولو بدا ذلك محالاً أو شبه محال. إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على اللعب بالدول والحكومات فما هي قدرتها على اللعب بالجماهير التي تربت على كرهها ومقتها واعتبارها مسؤولة عن وجود إسرائيل وداعمة أولى لها. سؤال كهذا له محل آخر. أما الآن ففي وسع مثقفين أن يفترضوا أنها قادرة على اللعب بالجماهير ولا تسأل كيف، لا تسأل بأي أدوات، فهذه هي الامبريالية وهي قادرة على كل شيء. إن أنت أعطيت مثلاً قريباً: لم تستطع الولايات المتحدة بجيشها وسلاحها المباشرين أن تستولي على العراق واستطاعت إيران بدون جنود ولا سلاح أن تنافسها وأن تغلبها في عقر وجودها وجيشها، كذلك لم يستطع الغرب بجيوشه وأسلحته أن يفضّ مسألة أفغانستان. فكيف يمكنه أن يدير من وراء الستار جماهير تربت على مقته. كيف يستطيع في الخفاء أن يفعل ما لا يستطيعه في العلن. وأن يفعل في السر ما لا يستطيعه في الظاهر. ان أنت جهرت بذلك كنت غير دار بأحابيل الامبريالية وغير دار بلعبة الأمم وغير قادر على تحليل كوني للمسألة. كنت بكلمة واحدة لا تعرف بواطن الأمور ودواخلها. كنت عديم الثقافة.
لعل من علائم المثقفين وما يكاد يكون خطاباً للمثقفين ازدراء الذات إلى حد القنوط الكامل والى حد فقدان الأمل المطبق. هذه الزراية بالذات وبالعرب عامة نخباً وعواماً ودولاً تكاد تكون مزاجاً بقدر ما هي مصادرة مسبقة على أي حكم ورداً فورياً. هذه الاستهانة تجعل التحليل فرعاً من المزاج ومزاجاً فحسب، وعياً لا سبيل إلى خداعه وعمقاً ودراية ونباهة وسبراً. لكن هذه الحكمة وذلك التعقل وهذا الامتناع على الخداع قد ترمي بصاحبها في مسالك وعرة، فهو قد يرضى بالاستبداد وقد يساير القمع وقد يمالئ عصبيات مؤرثة وقد يجاري العائلة أو الجماعة أو المنطقة لأن يأسه لا يترك له خياراً إلا أن يرضى بالمتوافر والمألوف، ولأن قنوطه يجعله حذراً مرتاباً متوجساً من أن يخدع كما خدع من قبل وكما ينخدع الآخرون. فهو لا يشك في شيء قدر ما يشك بالثورات والانتفاضات والحشود والجماهير. انه يعلم علم اليقين أن ما سمي ثورات تحول إلى مجالس عسكرية وما سمي انتفاضات أمكن له أن يتحول ببساطة إلى حروب أهلية وما هو حشود وجماهير كان معلباً ويبقى معلباً ولا ثقة في تدفق حشود يعرف كيف تستثار وكيف تتعبأ. باختصار هو مرض احتقار العامة ومقت الجماهير، مرض تأتى من فرط ما لعبت السلطات بهذه الجماهير وفرط ما جرجرت هذه في تظاهرات كرنفالية وفرط ما لهجت الإذاعات والمهرجانات والخطب باسمها وفرط ما ادعتها وادعت الثورة أنظمة ليست سوى حكم الطغمة وسياسة الطغمة. فالواضح أن الواقع السياسي العربي لم يبتذل شيئاً بقدر ما ابتذل القاموس الثوري بكل مفرداته: الثورة والتغيير والجماهير والكادحين والشعب. لقد عهَّرت دعاوة الأنظمة العربية هذا القاموس وحولته إلى اسمال والى مزق فلا عجب أن تتنصل منه نخب أو بعض هذه النخب. بيد أن الذين تنصلوا، بعضهم على الأقل، تورط في الدعاوة للاستبداد بل تورط في أكثر من ذلك: مديح القوة والسلطان المجسدين في القائد. مديح الاستبداد نفسه وهو يقضي على «العملاء» و«أعداء الشعب» و«أعداء الثورة». لقد تحول البعض إلى إعلاء العرق أو إعلاء التاريخ أو إعلاء الطليعة فوق الواقع وفوق الناس فكان بذلك ـ درى أم لم يدر ـ يسلك طريقاً فاشياً ويتكلم لغة فاشية.
لا شك في أن تاريخنا المعاصر من الاستقلالات العربية حتى سقوط فلسطين، كان نوعاً من التاريخ المقلوب. لقد كان حلمنا بما في ذلك النخب، بسماركياً. حلمنا بالقوة وبالتوحيد القومي وبالثأر. نتفق عند كلمة الثأر فهذا المفهوم القبلي سيطر على حياتنا. كان الاستعمار مذلة وكان سقوط فلسطين مذلة أكبر وكان تاريخنا الراهن سلسلة من المذلات. بعد سقوط فلسطين عام 1948. كانت هزيمة 1967، وكان ما بعدها مذلات التبس فيها معنى الثورة ومعنى الشعب ومعنى الجماهير وبالتأكيد لقي هذا القاموس فضيحة تلو فضيحة. أنكره مثقفون وأنكرته نخب حتى إذا انفجرت الأوضاع انفجرت بقرقعة هائلة وانفجر معها في قرقعتها كل ما كان مكبوتاً وكل ما ابتلعته وكل ما صبرت عليه وكل ما تحملته. تنوع المكبوت وتعدد فكان في آن واحد طبقياً واجتماعياً وعرقياً وطائفياً، إذ إن طغم الأنظمة كانت كل ذلك مرة واحدة، كانت مافياوية وعائلية وعرقية ومناطقية وطائفية أو انها استغلت ذلك ولعبت به وعليه. انفجر كل المكبوت كما انفجرت معه كل النعرات وكل الحساسيات وبدا الوضع على حقيقته، بدا ان لا أساس لمجتمع ولا لدولة ولا لثقافة. أي أن ما حدث كان انفجاراً لا بد منه للخروج من عنق الزجاجة ولا بد منه لبداية التفكير الحق في المجتمع والدولة والثقافة. لم يكن الانفجار شعبياً بحتاً فقد انخرطت فيه وأحياناً قادته نخب لا تلائم تفكيرنا عن النخب. انها النخب التي ولدت من تجربة التحديث ومن الصلة المباشرة بالعصر ومن المزاج العالمي والذوق العالمي، هذا لا يكفي لفهم التجربة، إذ إن الروافد المتناقضة المتنازعة التي اندرجت فيها تؤذن بأن التجربة لا تقف هنا. لا بد من نزاعات وتقاطعات واشتباكات على الطريق، لكن المثقف اليائس الذي يقوده يأسه إلى تأييد الاستبداد لن يكون هذه المرة رائياً ولا مستشرفاً.
السفير