صفحات الناس

يقتلون كالكبار ويموتون كالأطفال/ ديانا مقلد

 

 

بدا وجهه ناعما لم تتسلل الرجولة إليه بعد، تماما كأي مراهق في عمره.

حتى عيناه اللتان حاول أن يجردهما من أي مشاعر بدت نظرتهما الطفلية متناقضة مع ما يفعل. نعم، شحن الصبي نفسه بطاقة من العنف مصوبا يده الأصغر من المسدس إلى رأس ضحيته الفلسطيني «محمد مسلم» المقيد والراكع بسكون أمامه، ثم أطلق النار عليه.. إنه مشهد إعدام نفذه طفل بحق شاب.

وقائع مرعبة حقا.. لكن هذه الحقيقة لم تكسب ملامح الصبي قسوة ظاهرة، وإن كانت تؤسس لها.

لم نعرف بعد هوية الولد الذي قدمه لنا تنظيم «داعش» بوصفه أداة إعدام، وهو الصبي الثاني الذي يجري الاحتفاء به كجلاد داعشي.

الولد الأول الذي قدمه «داعش» قبل أسابيع عرف عن نفسه وعن جنسيته الكازاخستانية، أما الشريط الجديد فلا هوية واضحة للصبي، وإن كانت الشرطة الفرنسية تميل إلى أنه قريب «لمحمد مراح» الذي نفذ عمليات قتل باسم تنظيم القاعدة في فرنسا عام 2012.

تجاوز «داعش» مرحلة البروباغاندا التي بدأها قبل أشهر حين كان يبث فيديوهات تدريب أطفال على القتال وعلى الذبح، من خلال قطع رؤوس دمى شقراء. المصير الذي خشينا منه حين رأينا أطفالا يذبحون دمى بات الآن حقيقة، وها هم الجلادون الأطفال يتعمدون بدماء ضحاياهم الفعليين في المقتلة الحاصلة. حتما ليس «داعش» من بدأ عمليات تجنيد الأطفال وإشراكهم في الحروب، فالتاريخ حافل بحكايات مرعبة عن كيفية إخضاع الأطفال لعمليات نزع ممنهجة لآدميتهم، وتحويلهم إلى قتلة صغار. إنه حال أكثر من 20 دولة حددتها الأمم المتحدة كساحات قتال يجند فيها أطفال، ويتم إجبارهم على المشاركة في أعمال وحشية بحيث يجري تلقين الأطفال من عمر صغير لضمان الولاء والطاعة وخلق مقاتلين يرون العنف وسيلة للعيش. في تقرير دولي حول الجنود الأطفال في سوريا تبين أن معظم التنظيمات المسلحة تجند أطفالا، وكان سبق للنظام السوري أن قتل وعذب أطفالا. وهنا يتأرجح الأطفال ما بين دوري الضحية والجلاد، ففي إحدى الشهادات لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» يقول طبيب إنه عالج أطفالا في سوريا كانت مهمتهم جلد مساجين. فأي حياة وأزمات تنتظر طفلا تدرب على أن يعذب غيره؟!

في السبعينات استخدم بول بوت من خلال «الخمير الحمر» تقنيات لا تختلف عن «داعش». بالأمس، كما اليوم تبقى الفكرة هي خلق مجتمع جديد غير مخترق من قبل القيم التي لا يريدها بول بوت، أو «داعش».

هذا التنظيم الشيطاني لن يبقى إلى الأبد، وسينتهي حتما، لكن ماذا عن انعكاسات هذه الارتكابات. ماذا عن سيكولوجيا العنف وأثرها في الأطفال وفي المجتمعات التي يعيشون فيها مستقبلا من خلال ما يُسمى بالجرح النفسي والألم والضرر من جراء مشاهدة العنف والمشاركة به والفشل في منعه. واحدة من أخطر نتائج مشاهدة العنف المتكرر فقدان التعاطف وتبلد المشاعر. يتعاظم الخطر لدى من تعودوا الشعور بالرضا من القتل والعنف.

هل يحاول «داعش» خلق مجتمع ذي شهية للعدوان والقتل حتى بعد اندثاره؟! من المستحيل أن نعرف نية «داعش»، لكن المؤكد أنه بات لدينا جيل مصدوم.

في كتابه «يقاتلون كالجنود يموتون كالأطفال»، يصف الجنرال السابق في قوات حفظ السلام في الكونغو بعد حربها الأهلية، روميو دالير، الأطفال بأنهم «السلاح الأمثل في الحروب»، بسبب قدرتهم على التعلم وكلفتهم القليلة، وميلهم إلى الطاعة. وها نحن نتأرجح ما بين مشهدي أطفال يموتون ظلما وآخرين يجندون بوصفهم قتلة.

يصف المتابعون ما يقوم به «داعش» من تجنيد الأطفال واستخدامهم في دعايته بأنه إقحام للأطفال في نوع جديد من سوء المعاملة، ولكن بنطاق صناعي تقني، فوحشنتهم، والنزع المنظم لإنسانيتهم على هذا النحو المصور والدعائي، ستخلق مشكلة متعددة الأجيال. وإذا قدر لهذا الطفل الداعشي الناعم الملامح النجاة من الموت ومن الحرب ومن «داعش»، فهل سينجو من صورته كجلاد..؟!

كم من طفل جلاد بات حولنا..!

كاتبة واعلاميّة لبنانيّة

الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى