يقين واحد: الاحتيال
اسكندر حبش
في قصيدته الرائعة والمدهشة «ليلة مع هاملت»، يقول الشاعر التشيكي الكبير فلاديمير هولان، في أحد أبياتها «وحده الاحتيال يقين هنا». بيت شعري أثار، حين صدوره، الكثير من التعليقات، مثلما تحولت القصيدة بأكملها إلى مشروع حياتي إن جاز القول لتسم بقوة لا الشعر التشيكي فحسب، بل أيضا العديد من شعراء أوروبا بضفتيها الغربية والشرقية (في ذلك الوقت، إذ يكفي أن نستعيد ما قاله أراغون عن الشاعر) الذين وجدوا فيها، من ضمن ما وجدوه، كلّ ذلك اليأس الذي أنجبته الإيديولوجيات والسياسات التي لم تفرد موقعاً لإنسانية الكائن البشري، إذ شطت كثيراً لتغرق في ألعابها القذرة والمميتة، على حساب كلّ شيء. لأن المهم بالنسبة إليها كان أن تبقى على رأس السلطة، حتى لو كلفها ذلك شعباً بأسره.
بالتأكيد كان هولان يشعر بالغرق في محيط هذه السياسة المجنونة التي لفّت بلاده، مثلما لفت غيرها: سياسة الكذب والرعب والقتل والإرهاب، التي دفعته إلى الابتعاد والانعزال بعيداً عن كلّ شيء، مفضلاً البحث عن حريته حتى لو كلفه ذلك متاعب لا تحصى، أقلها اتهامه بخيانة بلده، (أي خيانة السياسة السائدة).
عقود طويلة تفصلنا اليوم عن قصيدة هولان هذه، (ليست العقود بالفترة الطويلة في أيّ حال، إذ لا بدّ من أن تطرح الذاكرة حضورها الدائم)، لكن ما زال «الاحتيال هو اليقين» عنوانا يصلح لهذا البلد الذي ظننا أنه يستطيع أن يكون مختلفاً، أن يكون مخالفاً، أن يكون استفاد بشيء من تجاربه المريرة الماضية التي قادتنا إلى الموت الجماعي. بيد أنه لم يتوقف عن استعادة كلّ شيء. (من قال إن التاريخ لا يستعاد! يبدو أنه يجيء دوماً على شكل مأساة، إنها الخاصية اللبنانية كما نشهدها اليوم).
كم أشعر بالرغبة، هذه الأيام، في هذه الخيانة، في هذا الابتعاد، في هذا الانكفاء، لأنسى معه كلّ شيء، لأنسى هذا البلد وهذه الوجوه المرعبة التي تحتل أحلامنا، لتقتلها وتجعلها صنواً لكل هذا الموت الذي يعدوننا به من جديد.
في أحيان كثيرة أشعر فعلاً بأن هذا البلد لا يريدنا، ولا أجد سوى أن أقول: لِمَ نريده نحن بعد؟ وأتذكر غودو، بعد تذكري فلاديمير هولان. غودو الذي لن يأتي، فلماذا إذاً لا نغادر حالة الانتظار الطويلة التي نعيشها، فما من إكسير سحري، والزمن لم يعد زمن الأعاجيب والسحرة والخيميائيين.
كلّ ما في الأمر أن لبنان كان فكرة، وأعتقد أن الوقت قد حان لنبدّل أفكارنا المهترئة. بالتأكيد ثمة مكان آخر أجمل. ألم يقل ذلك الكاتب التشيكي الآخر (كونديرا): الحياة في مكان آخر. نعم إنها في مكان آخر. بالأحرى كلّ شيء في مكان آخر، فلماذا لا نبحث عن خارج ما؟
السفير