يوتيوب:هيمنة ناقصة
روجيه عوطة
أسلحة مستحدثة لمعركة الحقيقة
تغيّرت معادلة بيار بورديو القائلة أن العدد الأكبر من الناس لا يقرأ الصحف، بل يُشاهد التلفاز. وهذا يعني، بالنسبة إليه، أن الشاشة الصغيرة هي الركيزة الأولى للنظام الرمزي الذي يهيمن على المجتمع بإشاراته الإعلامية، كالصور والأخبار. ولكن، مع وجود موقع “يوتيوب” على الإنترنت، لم تعد الهيمنة ممكنة، لا سيما في البلدان التي لم يتقيّد إعلامها المرئي بخطاب السلطة، بل انفتح على الديمقراطية والاختلاف، حتى لو جرى الانفتاح على المستوى الظاهري فحسب.
اخترق “يوتيوب” آحادية الصورة التلفزيونية. إذ تكاثرت الشاشات، وتعددت أخبارها. فكل فرد يحمل هاتفاً مجهزاً بكاميرا، ويقدر على التصوير، وعلى نشر المشاهد المسجلة في الموقع، فيتفاعل معها المشاهدون مباشرةً. فـ”الجمهور”، الذي لا تتوقف التلفزيونات عن صناعته، هو نفسه الذي يصوّر ويسجل ثم يُطلق الشاشات “اليوتيوبية”. وهذا يدل على أنه، خلافاً لما تعتقده القنوات المرئية، طرف فاعل في الإنتاج الإعلامي، وليس مجرد متلقي. إذ أن الهيمنة التلفزيونية، التي تحدث عنها بورديو، تنطلق من أحد الأحكام المسبقة، الذي يفيد أن المُشاهد مشلول الإرادة، ولا يمكنه أن يرفض أي معلومة قد تصله إلى منزله. فهو الجالس أمام التلفاز، المندهش بصوره وسرعة أخباره، لن يتمكن من إطفائه والتخلي عنه. لأن في هذا الفعل، ابتعاد عن المصدر الوحيد للمعلومات، وعن السهولة في الوصول إليها. فقد اقترن التلفزيون بالجمود، واللا-حركة، كما ارتبطت صورته بالكسل، الذي قدسته الحداثة التقنية.
نتيجة دخولهم إلى الشبكة الالكترونية، انفتح المستخدمون على مصادر معلوماتية مختلفة. ما عادوا ينتظرون الخبر من التلفزيون، بل أن باستطاعتهم قراءته أو مشاهدته على الإنترنت. فالمنافسة التقليدية بين الجريدة والتلفزيون، تحول إلى سباق بين الأخير والعالم الإفتراضي: من يحصل على المعلومة سريعاً؟ من ينشرها مباشرة ً؟ ما عدد مشاهديها؟ بمعنى استفهامي آخر: من يهيمن أكثر في الفضاء الإعلامي؟
لكن، في حال المقارنة بين التلفزيون و”يوتيوب”، نجد أن مقومات السباق على الهيمنة بين الإثنين غير مكتملة بعد. وذلك، بسبب القوة الزمنية للشاشة التلفزيونية، بحيث لا تزال الثقة بها متينة، خصوصاً من الأجيال القديمة، التي لا تتجرأ على التخلي عنه لصالح تقنية إعلامية جديدة. ومن ناحية أخرى، تشكل الشاشة الصغيرة جزءاً من نظام حياتهم اليومية، فالقرار الذي يصدر عنهم، قائم في أجزاء منه على الأخبار والصور التي تصلهم عبرها. إذ أنها تهندس يومياتهم السياسية، والاستهلاكية على سبيل المثال، بلا أن تشعرهم بالهيمنة عليهم.
فالتلفزيون يسيطر على المشاهدين من باب تسليتهم، والترويح عن أنفسهم، بلا أن يبذلوا جهداً أو يشعرون بالتعب في علاقتهم معه. تالياً، لا يعود مجرد تقنية تواصلية ومعلوماتية، بل أنه يرمز إلى راحتهم، وتبديد غلاظة الوقت بالصورة قبل العودة إلى الروتين اليومي، أي أنه، مثلما قال بورديو، مقوم من مقومات السيستام الرمزي الذي يهيمن على الناس، الذين هم، في الزمن الإعلامي، كتلة من المشاهدين.
يختلف “يوتيوب” عن الشاشة الصغيرة، من جهة التنوع في الصور، وتبديده الآحادية الإخبارية. إذ يقدر المستخدم أن يشاهد في الموقع فيديواً مناقضاً لذلك المعروض على التلفزيون. فيكتشف أجزاءاً جديدة من المشهد المصوّر، وبالتالي، تنكشف حقائق أخرى أمامه، لا تقترن بالتأويل الخبري الذي تعتمده القنوات الإعلامية في تعاملها مع أي حادث من الأحداث. وفي هذا المعنى، ينظر الموقع إلى كل المحطات التلفزيونية كأنها شاشات رسمية، تعتمد التنميط في نقل الصورة، ولا تزيح عن الثنائية الإعلامية، التي كان بورديو قد حددها في مباحثه السوسيولوجية، أي ثنائية العاجل والتفكر. إذ يتعاطى التلفزيون، على عكس الشاشة “اليوتيوبية”، مع كل الوقائع بوصفها أخبار طارئة، لا بد من تغطيتها، وترجمتها في خبر وصورة بطريقة عاجلة، من دون الاعتماد على التفكر فيها، أو التوسع في تناول محتوياتها من زوايا مختلفة.
غير أن الهوية غير التقنية للـ”يوتيوب” لم تكتمل بعد. فما زال يُنظر إليه كأنه وسيلة إلكترونية لتحميل الفيديوات، وعرضها أمام المشاهدين من دون أن تكون هذه الأفعال (التحميل والعرض) جزءاً من نظام رمزي واسع. بمعنى آخر، لا تزال العلاقة بين المشاهد والموقع غير متينة، بحيث لا تسمح للمستخدم بالتحرك على أساس ما يشاهده في الصورة اليوتيوبية. والأخيرة لا ثقة كبيرة بها، لأن “يوتيوب” يشرع شاشاته أمام المزوّر والمغشوش والمزيف، مثلما يشرعها أمام الحقيقي والصادق والواقعي. وهذا ما يُضعف من احتمال هيمنته على الفضاء الإعلامي، أو بالأحرى يقلل من احتمال دخوله في سباق تنافسي مع التلفزيون.
وبعيداً من مقومات الهيمنة الناقصة في “يوتيوب”، وعناصرها المهددة بالنسبة للشاشة الصغيرة، لا تستقيم المقارنة بين الطرفين سوى من ناحية تأثير الصورة على المشاهد. فيعتقد بورديو أن التلفزيون هو سلطة مشهدية ثابتة مكانياً، مع العلم أنها تنقل المشاهد إلى أمكنة متعددة، وقد تعيّن وجهتها كما في حال الحرب. ففي حال نشرت الشاشة الصغيرة خبراً عن حرب مقبلة، تحدد بخبرها هذا مستقبل المشاهد، وتجبره على ترك مكانه والتفتيش عن منطقة آمنة. أما “يوتيوب”، فتأثير صوّره على المشاهدين لا تزال تخضع لما يمكن أن نسميه “اقتصاد العين”، أي أن الأخيرة تحاول تحديد الصور التي ترغب في مشاهدتها، من دون أن تندرج خياراتها في إطار رمزي، كالذي يفرضه التلفزيون في الحياة اليومية. وقد يكون السبب الحاضر وراء هذا الإقتصاد، هو العلاقة بين المستخدم والشاشة “اليوتيوبية”، بحيث هو من يختار مواضيع الفيديوات التي يريد مشاهدتها، بالإضافة إلى طريقة التفاعل معها بالتعليق أو النشر على حسابه الشخصي في “فايسبوك” مثلاً.
تتيح حرية الاختيار للمشاهد التفلت من سلطة الشاشة الثابتة، كما في حال التلفزيون. لكن، وفي الوقت عينه، تطرح إشكالية أخرى، تتمثل باحتمال خضوعه إلى سلطة صوّرية متنقلة. فقد يمر “اقتصاد العين” في مرحلة من الجمود، نتيجة استخدام “يوتيوب” من قبل أي نوع من السلطة، سياسية وتجارية أو غيرها. وهذا ما بدأ يظهر في الآونة الأخيرة، بحيث يختار المستخدم فيديو معين، فيضطر إلى مشاهدة إعلان تجاري قبل أن ينتقل إلى مشاهدة الفيديو المطلوب. وذلك لأن الموقع أتاح عرض الإعلانات فيه، وأجبر مستخدميه على مشاهدتها.
بهذا المعنى، يتبدد الفارق بين التلفزيون و”يوتيوب”، بحيث لا يعود المستخدم يختار فيديو ليشاهده، بل أنه يختار صورة لتخضعه. ويُضاف إلى ذلك، أنه يختارها في كل مكان وزمان، بلا أن يتقيد بمكان الشاشة التلفزيونية، أو توقيت البرامج المعروضة عليها. إلا أن غياب النظام الرمزي بين المشاهد والموقع، يخفف من احتمال الهيمنة، إذ يبقى المستخدم حراً في الامتناع عن مشاهدة هذا الفيديو والانتقال إلى آخر. ولكن، في حال تحولت الصورة “اليوتيوبية” إلى صورة سلطوية، فسيؤدي هذا الإمتناع إلى الاقلاع عن الصورة بأكلمها.
المدن