يوسف بزي في حوار مع طلعنا عالحرية
“بعد العام 2011 اكتشف اللبنانيون السوريين أولاً بوصفهم شعباً ثائراً وفائق الشجاعة طلباً للحرية والكرامة، وثانياً أنهم “شعب” وليس فقط عسكرياً أو عامل بناء. شعب من أطفال ونساء وصبايا وشبان ورجال وعجائز. شعب من متعلمين وأغنياء وفقراء وأبناء أرياف وفلاحين ومهندسين ومفكرين وفنانين… شعب يعرف الكثير عن لبنان ولا نعرفه”.
“للأسف، اللبنانيون لا يرون خلاصاً من حزب الله أصلاً إلا بأن يظل متورطاً في سوريا حتى آخر يوم من الحرب فيها، طامحين بأن سقوط النظام سيودي بالحزب معه إلى التهلكة”.
يوسف بزي، كاتب وصحفي وشاعر لبناني، رئيس تحرير ملحق «نوافذ» في جريدة المستقبل، من المثقفين اللبنانيين الذين كان لهم موقفهم الواضح والمؤيد للثورة السورية منذ أول لحظة.
كان لطلعنا عالحرية معه اللقاء التالي:
1- تم اقحام لبنان في الصراع السوري عبر مشاركة حزب الله العلنية في القتال الى جانب النظام، فهل تم ذلك لاعتبارات محلية ام خارجية/ايرانية؟
قبل عامين، قلت لأصدقاء سوريين: “سترون مقاتلي حزب الله في شوراع دمشق”. بدا كلامي صادماً لهم حينها، فهم كانوا ينظرون إلى حزب الله بوصفه “مقاومة”، وأنه – رغم تحالفه مع النظام – لن يترك الجبهة مع إسرائيل ويطلق النار على المواطنين السوريين. هذا الإعتقاد تبدد أخيراً، وتبددت معه جملة مقولات سياسية لها محمولات أيديولوجية، منها ذاك الإيمان العمومي بمقولة “المقاومة” بوصفها مهمة تاريخية ملقاة على عاتق الشعوب العربية… في حين أن هذه المقولة تكشفت عن تاريخ من الحروب الأهلية المتناسلة، وعن تقويض حثيث للدولة وللمجتمع، وعن تخريب فرص التنمية، عدا عن استعداء العالم والتأخر عن شروط العصر. والأهم، هو تحول مقولة “المقاومة” إلى مسوغ لتعطيل السياسة والإستيلاء على الثروة الوطنية وغياب الحريات وتثبيت الإستبداد، من دون “تحرير” الأرض وبلا “تحرر” الإنسان.
إن “حزب الله”، كما هو معروف، ليس مجرد حزب لبناني. فهو تأسس، بداية، عام 1982 بعد قرار حافظ الأسد، أثناء الإجتياح الإسرائيلي للبنان، بالسماح لفرقة من “الحرس الثوري” الإيراني بالدخول إلى لبنان، والتمركز في منطقة بعلبك – الهرمل، بالبقاع الشمالي، أي في المنطقة التي تخضع لسيطرة تامة ومراقبة لصيقة من المخابرات السورية. وعمل “الحرس الثوري” بالتعاون مع المخابرات السورية على تكوين أولى خلايا “حزب الله”. لقد وجد الأسد الأب بديلاً عن الأحزاب اليسارية والقومية وعن المنظمات الفلسطينية التي انهارت بعد حرب 1982.
منذ ذلك الحين، بدأت ترجمة “التحالف الإستراتيجي” بين النظامين الإيراني والسوري في لبنان، بدعم وتمويل وتسليح ما سيسمى في منتصف الثمانينات “حزب الله”، الذي سيتولى بالتعاون مع المخابرات السورية تصفية “المقاومة الوطنية اللبنانية” (التي أصرّت على استقلالية قرارها الوطني)، كما سيتولى مهام أخرى كخطف الأجانب، وخطف الطائرات وتفجير سفارات والقيام باغتيالات. لقد تحول هذا الحزب إلى “جهاز” أمني يمارس نشاطه في شتى أنحاء العالم. نشاط لا تتحمل تبعاته أي دولة طالما أنه ليس “إيرانياً” وليس “سورياً”، وبطبيعة الحال ليس “لبنانياً”. وهذا الجهاز، بوصفه “مقاومة” كان دوره (خصوصاً في التسعينات) التنسيق مع النظام السوري في تخريب مفاوضات السلام، ورهن لبنان كورقة بيد حافظ الأسد، والحرص على بقاء جنوب لبنان جبهة مفتوحة، أي “ساحة” و”صندوق بريد” بين الأسد وإسرائيل. وهذه الأخيرة عندما طلبت عام 1993 إرسال الجيش اللبناني إلى جنوب لبنان ترتيباً لانسحابها منه، تفاجأت بمسارعة النظام السوري على منع الحكومة اللبنانية من إرسال الجيش اللبناني وأجبرتها على إعادة الأرتال من منتصف الطريق، في الوقت الذي أمطر حزب الله شمال إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا، في رسالة مفادها: “لا أمن لإسرائيل ولا انسحاب من جنوب لبنان إلا باتفاق مع سوريا”. وكان الرد الإسرائيلي عملية “تصفية الحساب” التي تسبب بمقتل المئات وتدمير القرى وتشريد مئات الآلاف وتكبيد الإقتصاد اللبناني مليارات الدولارات. الأمر نفسه تكرر عام 1996، حين طلبت إسرائيل بواسطة فرنسا أن ترسل الحكومة اللبنانية مجدداً الجيش اللبناني إلى الجنوب تمهيداً للإنسحاب، سارع حينها عبد الحليم خدام إلى باريس، معلناً “وحدة المسار والمصير” بين لبنان وسوريا، وتم تهديد أركان الحكم في لبنان إن أبدوا أي نية في إرسال الجيش إلى جنوب لبنان، واشعل حزب الله الجبهة، وردت إسرائيل بعملية “عناقيد الغضب”. لكن الغضب الفعلي سيكون من النظام السوري وحزب الله، عندما استثمر رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك رفيق الحريري علاقاته العربية والدولية في جهده الدبلوماسي لوقف حرب “عناقيد الغضب” وفق اتفاق “تفاهم نيسان” الذي كرس معادلة جديدة: تحييد المدنيين، شرعنة المقاومة دولياً لكن حصراً بمهمة تحرير الجنوب، بوصفها مهمة تتناسب مع قرار مجلس الأمن 425 الذي ينص على الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. ومرد الغضب السوري – الحزب اللهي، أنه يقيد “المقاومة” بالمقاومة وحدها وبلبنانية أهدافها فقط. لذا، عندما أعلنت إسرائيل نيتها الإنسحاب من جنوب لبنان عام 2000، رد فاروق الشرع بأن “الإنسحاب من طرف واحد مرفوض”!! وأنه “مؤامرة”! فيما صرّح نعيم قاسم (نائب الأمين العام لحزب الله) بأن الإنسحاب “يضرّ بإسرائيل.. فصواريخنا عندئذ سيكون بمقدورها أن تطال عمق إسرائيل” كما لو أنه ينصحها بالبقاء!
هذا، وبات الكل يعرف أن حرب تموز 2006، كانت بمبادرة من الحزب قلباً للمعادلات الجديدة التي فرضها الشعب اللبناني بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري و”انتفاضة الإستقلال” عام 2005 وانسحاب الجيش السوري ومخابراته. لقد افتعل حرباً باسم ثلاثة أسرى أودت بحياة ألف وخمسمئة لبناني وأكثر من عشرة آلاف جريح، ومليون مهجّر، عدا عن تدمير عشرات القرى ومعظم البنية التحتية، مع خسائر تجاوزت الـ 15 مليار دولار. فقط ليقف بشار الأسد منتقماً من “مذلة” الإنسحاب من لبنان. عدا عن تجديد “شرعيته” باسم المقاومة، بعد أن شعر بخطر “ربيع دمشق”. ولا ننسى أن بندقية “المقاومة” أهداها حسن نصرالله شخصياُ لرستم غزالي في نيسان 2005 في إشارة إلى أن هذه البندقية، رغم مشاعر اللبنانيين بل نكاية بهم، ستظل بخدمة النظام السوري وحلفه الإستراتيجي مع إيران.
أظن أن سرد هذه السيرة (المختصرة رغم طولها)، توضح من دون لبس، أن “حزب الله” لا يقيم وزناً لأي اعتبار لبناني، كما أن النظام السوري لا يقيم أي اعتبار لأي مصلحة وطنية سورية أو قومية، كذلك النظام الإيراني الذي لا يحتسب أي ضرر قد يلحق ببلاد أخرى أو شعوب أخرى ولا حتى بمصلحة الشعب الإيراني. فهذا الثلاثي يشكل منظومة “مارقة” أو “ممانعة” لا اعتبار عندها للحدود أو للأعراف أو القوانين، عدا عن ازدرائها لإرادة الشعوب ومصالح المجتمعات، وتوسلها الدائم للعنف والقمع والقتل بوصفها سياسة وحيدة وشرطاً واجباً لبقائها.
لقد كشفت الثورة السورية أن النظام السوري وحزب الله والنظام الإيراني يشكلون سوية منظومة واحدة تتجاوز مفهوم الدول المستقلة، ومفهوم سيادة وحدود كل دولة، ومفهوم الكيان الوطني. إنها منظومة “تستولي” على إيران وسوريا ولبنان، تماماً كامبراطورية غير معلنة، حيث لا تستقيم فيها تعابير “المحلية” أو “الخارجية” عندما نتحدث عن تدخل حزب الله أو إيران أو الميليشيات الشيعية العراقية أو عن استنجاد النظام السوري بهؤلاء جميعاً في حربه على الشعب السوري.
2- كان حزب الله يطالب الدولة بإغلاق الحدود في وجه حركة السلفيين من طرابلس الى سوريا قبل ان يتحول الى التدخل العلني، ما انعكاس ذلك على الدولة اللبنانية وعلى العلاقة بين الرئاسات الثلاث وعلى تشكيل وزارة جديدة؟
منذ التمرد المسلح الذي قاده حزب الله في 7 أيار 2008 بات من الصعب التحدث عن دولة لبنانية كاملة السيادة أو تامة الإستقلال في قرارها. فهذا الحزب صار، بقوة سلاحه، هو صاحب القرار الأخير في تشكيل أي حكومة وفي تسمية رئيسها، عدا عن فرض ما يناسبه بصياغة بيان تشكيل الحكومة (سياستها). وعلى الرغم من موافقة الحزب على سياسة “النأي بالنفس” التي أعلنتها الدولة اللبنانية تجاه الصراع في سوريا، إلا أن الحزب لم يتردد منذ اليوم الأول للثورة السورية في العمل على دعم النظام لوجستياً وأمنياً، بل وحتى دبلوماسياً عبر وزير الخارجية اللبناني التابع له. لقد حاصر طرابلس أمنياً وأشغلها بحرب متقطعة بين الأحياء العلوية الموالية للنظام وسكان المدينة المؤيدين للثورة، عدا عن محاصرته ومراقبته للطرق بين منطقة عكار اللبنانية وريف حمص من جهة تلكلخ، ثم محاصرته لعرسال وجرودها الجبلية المتصلة بريف حمص من جهة القصير، عدا عن انتشاره العسكري في كل البقاع الشمالي (بعلبك، الهرمل) وصولاً إلى قلب القرى الشيعية الحدودية داخل سوريا، وضمانه الحدود ما بين معبر المصنع في البقاع الأوسط المتصل مباشرة بدمشق وصولاً حتى شبعا جنوباً التي تتصل بحوران ودرعا. وساعده في ذلك ولاء الكثير من أجهزة الدولة الأمنية له، وهيمنته عليها.
وبما أن رئيس مجلس النواب نبيه برّي هو حليف عضوي لحزب الله، وهو القطب الثاني من الثنائية الشيعية المهيمنة على الطائفة، كما هو “صديق” تاريخي لآل الأسد، فقد ضمن الحزب عدم تحرك مجلس النواب بفاعلية ضده، أما الحكومة التي يهيمن عليها فلأنها ضمت إئتلافياً “الوسطيين” (وليد جنبلاط، رئيس الجمهورية، نجيب ميقاتي) إضافة إلى “التيار العوني” والثنائي الشيعي: “أمل” و”حزب الله”، فإنها لم تصمد بعد سقوط شعار “النأي بالنفس” عملياً، وبات من المستحيل الدفاع عن بقائها أمام المجتمع الدولي والعربي وأمام الرأي العام اللبناني. هكذا استقالت حكومة نجيب ميقاتي، بعدما قرر الحزب أنه مستعد للتضحية بها مقابل التزامه دعم النظام السوري بكل الوسائل.
اليوم، بات واضحاً أن رئاسة الجمهورية التي تلحّ على “النأي بالنفس” صوناً للسلم الأهلي، وحفظاً لمصالح لبنان عربياً ودولياً، محاصرة سياسياً من قبل حزب الله، وهي عاجزة عن مواجهته. الضعف في رئاسة الجمهورية هو ترجمة لعجز الدولة بأسرها عن بسط سلطتها وسيادتها بوجود ميليشيا فائضة القوة والسلاح.
ونجم عن قرار حزب الله التدخل في سوريا تعطيل كامل للنظام اللبناني، فاقمه استثارة الحزب للإستنفار المذهبي وتحفيز الطوائف الأخرى على خيار التسلح (بحثاً عن توازن وحماية)، وتراجع خطير في الإقتصاد، وفي الأمن اليومي. وأدى ذلك إلى استحالة إقرار قانون جديد للإنتخابات أو حتى إجرائها، عدا عن استعصاء تأليف حكومة جديدة إلى أجل غير معلوم، ناهيكم عن منع تعيين قائد جديد لقوى الأمن الداخلي، أو التمديد لقائده، وكذا الأمر سيكون مع قائد الجيش الذي ستنتهي ولايته قريباً. وسيكون من الصعب جداً إجراء انتخاب رئيس جمهورية جديد في هكذا ظروف. بهذا المعنى، لقد جعل “حزب الله” لبنان بلداً موقوفاً، أو مؤجلاً.
3- تكرر الحديث عن تنسيق بين الجيش اللبناني وحزب الله في عرسال وعبرا، ما انعكاس ذلك على وضع الجيش واحتمال انفجاره؟
التجارب السابقة، من مثل صدام الجيش مع المنظمات الفلسطينية عام 1973، ثم الحرب الأهلية 1975 – 1990، تفيد أن الجيش اللبناني بوجود دولة ضعيفة بل بغياب حكومة فاعلة، يصبح عرضة للتصدع والإنشقاقات وفق انشقاق المجتمع طائفياً أو مذهبياً أو سياسياً. لكن بسبب هذه التجارب المريرة أيضاً، ثمة حرص من معظم اللبنانيين على صون الجيش بوصفه رمزاً كيانياً. ورغم نقمة شرائح لبنانية كبيرة من شبهة “تعاون” بين حزب الله ومخابرات الجيش تحديداً في الكثير من المسائل الأمنية، إلا أن هذه النقمة لا ترتقي إلى سوية الدعوة للخروج عليه أو التمرد بوجهه أو الإنشقاق عنه. علماً أن هذا الجيش تغيرت بنيته العقائدية طوال 30 عاماً من “إعادة التأهيل” الذي مارسته الوصاية السورية عليه، والإختراق المنظم له الذي مارسته “حركة أمل” و”حزب الله”، عدا عن الولاء العاطفي القديم الذي يكنه ضبّاطه لقائدهم السابق ميشيل عون، ما يجعل الجيش حالياً أكثر طواعية لمشيئة حزب الله، رغم انضباطه بالقرار السياسي الرسمي.
أستطيع القول أن الجيش، في حال حدوث صدامات واسعة النطاق، لن ينهار بل سينسحب إلى حال العجز. وهذه كانت دوماً غريزته، بما يتوافق في الوقت نفسه مع رغبة الطوائف اللبنانية في أوقات المحن: تحييد الجيش خارج صراعاتها. تتفق على إلغاء دوره، والحفاظ عليه في آن.
4- هل يمكن ضبط انخراط حزب الله في الصراع ومن ثم اخراجه من الورطة ؟
بما أن لا تغييراً جذرياً في الإستراتيجية الإيرانية، ولا بخيارات النظام السوري ولا بعقيدة حزب الله العسكرية، عدا عن “التكليف الشرعي” الذي أبلغه خامنئي لحسن نصرالله قبيل معركة القصير… للأسف، لا أرى أي إمكانية لإخراج حزب الله من سوريا قبل سقوط النظام في دمشق. واستغرب أن البعض لم يستوعب بعد أن معركة حزب الله في سوريا هي معركة حياة أو موت… وحتى النهاية. وأبلغ الجميع منذ الآن، أن المجتمع الشيعي في لبنان لن يخرج عن طاعة حزب الله ولو كلفه هذا جلّ شبابه ورجاله. لن يبتعدوا عنه إلا بعد هزيمة تامة وكاملة.
كذلك للأسف، اللبنانيون لا يرون خلاصاً من حزب الله أصلاً إلا بأن يظل متورطاً في سوريا حتى آخر يوم من الحرب فيها، طامحين بأن سقوط النظام سيودي بالحزب معه إلى التهلكة. والكثير من اللبنانيين يرون في الكارثة السورية أفضل مما تصوروه كطريقة للقضاء على حزب الله. وهذا الأخير بات يدرك أن أي تراجع ولو خطوة واحدة ستعني نهايته المبرمة.
5- تقدر مصادر لبنانية ان عدد اللاجئين السوريين جاوز المليون، لكن لبنان رفض اقامة مخيمات نظامية وتنظيم الاغاثة، ما السبب وما انعكاس فوضى اللجوء والانتشار على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى فرص تلقي لبنان مساعدة دولية للاجئين؟
يعود التخوف الرسمي اللبناني من فكرة المخيمات إلى التجربة الفلسطينية. فهذه المخيمات تحولت إلى مناطق مستعصية وشكلت مصدر قلق دائم، وبؤر توتر حالت دون الإستقرار، وكانت منطلقاً للكثير من الحروب والصدامات الدموية. المخيمات لعبت دوراً كبيراً في الديموغرافيا السياسية، وأطاحت بالتوازنات الإجتماعية الهشة أصلاً. لذا فهذا التخوف من خلق كتل سكانية سورية بمليون نسمة منعزلة وقائمة بذاتها في مخيمات مؤقتة قد تصير دائمة في بلد صغير كلبنان مفهوم نسبياً. لكن في المقابل، ثمة حسنات أراها في عدم وجودها، فالسوريون في لبنان، وعلى عكس ما هو الحال في تركيا أو الأردن، وجدوا حواضن اجتماعية كبيرة لهم. وهم بسهولة فائقة تأقلموا مع الحياة اليومية وبأقل قدر من الشعور بالغربة. وهم لهذا السبب ليسوا مجرد “لاجئين” ضجرين ومتبرمين وغاضبين محشورين في معسكرات من خيم، بل هم ساعون في سوق العمل، يستأجرون المنازل، ويرسلون أولادهم إلى المدارس، ويجدون وظائف في قطاعات عدة (نصف صفحات الجرائد اللبنانية ستكون بيضاء من دون الكتّاب والصحافيين السوريين مثلاً)، ويدخلون الجامعات، ويؤسسون أعمالاً وتجارة وصناعة، يشترون ويبيعون وينفقون. بل ومن المدهش أنني طوال السنتين الأخيرتين، كنت أتوقع برعب تفشي العنصرية اللبنانية على نطاق واسع، لكن ما حدث أن الحوادث والإحتكاكات العنصرية كانت أقل بما لا يقاس مما توقعه أشد المتفائلين. والسبب ليس أن اللبنانيين باتوا فجأة أكثر تهذيباً، بل “الوجود السوري” في لبنان تغير تغيراُ جذرياً. فقبل العام 2005 كان السوري في لبنان إما عسكري متسلط ومخبر وضيع وشبيح، وإما عامل بسيط شبه أمي ومعدم. وفي الحالين هو صورة عن سلطة وصاية متجبرة وقاهرة في جانب، وتتصف بالوضاعة والتخلف والدونية الثقافية من جانب آخر. هذه المفارقة كانت تدفع اللبناني إلى شعورين متناقضين: الذل إزاء السوري العسكري، والفخر إزاء تفوقه ثقافياً وحضارياً. وعلى هذا المنوال ارتسمت العلاقات اللبنانية السورية في ظل النظام البعثي ومخابراته. لكن بعد العام 2011 اكتشف اللبنانيون السوريين أولاً بوصفهم شعباً ثائراً وفائق الشجاعة طلباً للحرية والكرامة، وثانياً أنهم “شعب” وليس فقط عسكرياً أو عامل بناء. شعب من أطفال ونساء وصبايا وشبان ورجال وعجائز. شعب من متعلمين وأغنياء وفقراء وأبناء أرياف وفلاحين ومهندسين ومفكرين وفنانين وأبناء أرستقراطية ومدن وأبناء ضواحي وجبال وسهول ووديان. شعب يعرف الكثير عن لبنان ولا نعرفه. يشرب العرق مثلنا والماتيه والشاي والقهوة، ويجيد المآكل نفسها التي كنا نظن أنها لبنانية وحسب…هذا الإكتشاف يمكن عليه القول: إن أول إنجاز للثورة السورية أنها أقامت علاقة بين الشعبين لأول مرة منذ استقلالهما.
بقي أن نقول، أن قسماً لا يستهان به من اللاجئين السوريين يعانون من نقص في الإغاثة، رغم الجهود المحلية والدعم العربي والدولي، والسبب مرة أخرى يعود إلى أن الثقة العربية والدولية بلبنان ضعيفة مع وجود حزب الله وتأثيره على السياسة الرسمية.
6- أخيرا.. وخارج الموضوع اللبناني، كيف تقرأ تأثير الحدث المصري على الربيع العربي عموماً وعلى الثورة السورية خصوصاً؟
التطور الأخير في مصر، الذي زاوج بين الإحتجاج الشعبي العارم (خروج 30 مليون مواطن في التظاهرات) و”الإنقلاب” العسكري، والذي أطاح بحكم “الإخوان المسلمين”، يؤكد على جملة معطيات:
المعطى الأول، أن الشعوب العربية إذ أمسكت بحريتها فلن تفلتها ثانية. وهي مصممة على التعبير والمشاركة في السياسة، وعلى المراقبة والمحاسبة، وعلى عدم الخضوع لـ”القدر” ولا الانقياد لأي سلطة تناقض طموحاتها في الحرية والكرامة والعدالة.
المعطى الثاني، وهو درس قاس للإخوان المسلمين ولكل تيارات الإسلام السياسي، أن الديموقراطية ليست فقط وسيلة لـ”الوصول” إلى السلطة، بل هي “طريقة” في الحكم.
المعطى الثالث، أن العسكر يظل خطراً على مشروع الدولة المدنية والنظام الديموقراطي طالما وجد في التيارات السياسية من يتواطأ معه للإنقلاب على الشرعية الدستورية.
المعطى الرابع، أن المرحلة الإنتقالية لن تنتهي مع الإسلام السياسي بسهولة، لكنها مستحيلة من دونه أيضاً. إحتمال نشوب حرب أهلية يظل ملازماً، إن ضعفت مخيلة التسويات.
المعطى الخامس، وهو الأهم، أن نجاح بناء الدولة بعد الثورة مناط بإنجاز دستور لا لبس فيه بانتصار المساواتية المدنية الكاملة، في الحقوق وفي المسؤوليات، كما لا لبس في حصانة الحريات الفردية والعامة.
الثورة السورية، بعد سقوط النظام ستواجه كل هذه المعطيات، مضافاً إليها “المعضلة الليبية” المتمثلة بتسليم سلاح الكتائب الثورية للسلطة الوليدة.
طلعنا عالحرية / العدد 31
9 / 7 / 201