أدب نظيف كمقبرة/ خيري منصور
شاع في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح السينما النظيفة للدلالة على أفلام تخلو من مشاهد هي من صميم الواقع البشري، بحيث تبدو الكائنات معقّمة وقد حذف منها كل ما هو عُضوي، ولم يخطر ببال من اقترحوا هذا المصطلح أن النظافة التي يتحدثون عنها هي الحياة ذاتها، بحيث يكون المنتج الذي يبشّرون به نظيفا بالفعل لكن من الحياة، تماما كما هي المقابر التي تخلو من أي نفايات بشرية، لأن الموتى مستغرقون في النوم الأبدي، ولا يأكلون أو يشربون، أو يغتسلون، فالمقابر بهذا المعنى هي النموذج الأقصى للنظافة من الحياة ومظاهرها.
إن حذف ما يسميه البعض الأخطاء البشرية من أي مشهد في حياتنا اليومية هو المرادف لما سماه خبير سابق في البنك الدولي هو هانكوك قتل الفقراء للتخلص من الفقر، تماما كما كان المرضى في القرون الوسطى يحرقون لأنهم مسكونون بشياطين، وتمددت هذه الخرافة لتكون القضاء الذي تحتكم إليه محاكم التفتيش، فمن قالوا بدوران الأرض من أمثال جوتارنو برنو وغاليلو كانت النار بانتظارهم لتطهيرهم أيضا من شياطين أخرى تسكنهم.
لقد عرفت ثقافتنا من قبل مثل هذه النظافة لهذا طُردت نصوص إبداعية من الذاكرة لأنها من إفراز البشر كما هم وكما يعيشون ضمن شرطهم الأرضي والجسدي، ثم تمددت الظاهرة لتشمل المذكرات فهي في معظمها خلت من أي اعترافات حقيقية، وكأن من يكتبها يجلس بكامل أناقته أمام آلة تصوير.
لهذا ما أن جازف بعض المثقفين المعاصرين بكتابة مذكرات تقترب من الواقع، كما هو وتعترف بالأخطاء الحميمية حتى ووجهوا بالشجب والاستنكار، منها «الخبز الحافي» لمحمد شكري و«مذكرات» سهيل إدريس لأن المطلوب من أي مذكرات أن لا تتخطى «الأيام» لطه حسين حيث كل شيء في مكانه تماما، والجسد مقذوف كقشرة خارج النصّ، ما دفع مستشرقا فرنسيا قرأ «الأيام» إلى التساؤل عن الواقع الاجتماعي والإنساني الذي عاش فيه مؤلفها، فهي إلى حد ما نظيفة لكن بالمعنى الذي أراده من وصفوا السينما بالنظافة أي التعقيم، والتمرير من خلال مصفاة محكمة الثقوب هي المصفاة الأخلاقية بمقياس العادات والتقاليد وليس بمقياس معرفي أو فلسفي.
وإذا استمر دعاة تنظيف الكتابة بمختلف حقولها من كل ما هو بشري وأرضي لصالح يوتوبيا تقع خارج الجغرافيا والتاريخ معا، فإن ما سوف يتم حجبه تماما والتستر عليه كما لو أنه عورة هو الإنسان، فالرواية النظيفة مثلا هي تلك الحكاية الأشبه بثمرة الصبير، كما وصفها طومسون حين تنقّب من بذورها لا يبقى سوى هلام كالمخاط، هذا على الرغم من أن دعاة ورشات التنظيف للفنون والآداب ينتسبون إلى ثقافة دينية تجمع مرجعياتها على أن الإنسان خطّاء وأنه ليس معصوما ولهذا السبب كانت التوبة بمثابة اعتراف بحق الإنسان في الخطأ، ثم عودته عنه.
وأذكر للمثال فقط أن الترجمات الأولى لنصوص منها روايات وسير ذاتية وقصائد تعرضت لحذف غير المرغوب فيه منها أي استئصال نخاعها والإبقاء على الجلد والعظم وهما في حالة موت، هذا ما حدث لبعض قصائد بودلير ورامبو وروايات د . هـ . لورنس وهنري ميلر وجان بول سارتر وآخرين، لأن منطق الوصاية في مجتمعات باترياركية لا تنجو منه حتى الكتابة، ما دام بلوغ الرشد ممنوعا، وما دام للرعايا من ينوبون عنها في التفكير والتكفير وحتى الاعترافات .
ولا أدري لماذا لا نعترف بأن بيوتنا التي ننام فيها ونأكل فيها ونمارس فيها طقوس حياتنا اليومية تضم حمامات نتباهى أحيانا في أناقتها واستعراض رخامها ومراياها أمام الزوار؟ أليست هي أيضا عورة في المنزل يجب التستر عليها؟ ولا يخطر ببال من يجردون الإنسان من عناصر وجوده ومكوناته ودوافعه الفكرية أن مثل هذه اليوتوبيا سوف تفرز في المقابل ديستوبيا مضادة لكل أطروحاتها، لأن ما هو غير مسموح علنا يصبح مجالا لتجريب المهارات سرا ومن ثم إخفاء هذه الممارسات وهذا بحد ذاته سبب كاف للإصابة الوبائية بالشيزوفرينيا.
إن هذا يذكّرنا بما كتبه إسحق موسى الحسيني بعنوان «مذكرات دجاجة» قبل عدة عقود، ورغم طرافة هذا العنوان إلا أن الدجاجة يمكن لها أن تتذكر لكن ما من أحد جازف بكتابة مذكرات نعامة، لأنها لا ترى شيئا كي تتذكره ما دام رأسها مغروزا في الرمال، والمطلوب من المذكرات النظيفة أن تتلمذ على النعامة وليس على دجاجة أو حتى قطة.
ما غاب عن هؤلاء هو أن معظم ردود الأفعال البشرية التي انتهت إلى الفوضى وتغييب الروادع هو الإفراط في أمثلة الإنسان، أي النظر إليه بوصفه مثاليا، على الرغم من أن الذين لا يخطئون هم العاطلون عن الحياة أي الموتى.
وما نشهده في أيامنا هذه قد يكون انفجارات متعاقبة لما تفاقم في باطن الذات العربية من فائض المكبوتات لهذا يضيع الفارق بين الثورة بالمعنى التاريخي وبين الفوضى بالمعنى الباكونيني. والأرجح أن الفقر المدقع في المقاربات ذات الصلة بعلم النفس الاجتماعي وبدهيات الأنثربولوجيا أتاح المجال كله لمقاربات سياسية سطحية لا ترى من الجبل الجليدي الغاطس في المحيط غير ما نتأ منه، لهذا أيضا يكون الارتطام محتما ليس فقط لباخرة تحولت إلى أمثولة في الرفاهية مثل تايتانك بل للمجتمع كله، لكن في محيط آخر.
النظافة مطلب حضاري وأخلاقي شرط أن لا تكون نظافة المقابر من كل ما له صلة بالأحياء وما يشهد على أنهم كذلك.
٭ كاتب أردني
القدس العربي