أنظر ماذا هو أنت في السوبرماركت/ حسن داوود
أتيح لآني أرنو أن تتسوّق في مخزن كبير في مدينة كاسوفي السلوفاكية. كان قد افتتح منذ عهد قريب وكان الأول من نوعه في المدينة بعد سقوط النظام الشيوعي. هناك كان ينبغي على إدارة المخزن أن ترشد الناس إلى كيفية التسوّق فيه، لذلك كانت تُسلّم لكل داخل منهم سلّة تجميع البضائع، خالية، عند دخوله. وكانت هناك امرأة تقف في مكان عال مشرفة على حركة المزدحمين حول رفوف البضائع. لم يكن هؤلاء قد اعتادوا بعد على ما يسمى الخدمة الذاتية: «كانوا يتوقفون طويلا أمام المعروضات دون أن يلمسوها، أو يعودون أدراجهم حائرين بحذر، مرتابين.».. وقد أربك أرنو، وكان ذلك من عشرين سنة، «مشهد الدخول الجماعي هذا، دخول من انجذب إلى النبع، في عالم الاستهلاك».
في زيارات تفصل بين إحداها والأخرى أربعة أيام أو خمسة لأحد مراكز «أوشون» الفرنسية للتسوق، جعلت الكاتبة تدوّن ما يمكن وصفه باليوميات المراقِبة لوجود الناس هناك. بدأت بذلك في أحد أيام تشرين الأول/ أكتوبر 2012، وهو تاريخ لا يدلّ على شيء طالما أن هذا النوع من التسوّق كان قد بدأ قبل ذلك بعقود، وهو ما زال فارضا وجوده، بل مكتسحا، على الدوام، دكاكين البقالة في الأحياء. فقط في صفحات كتابها الأخيرة، تذكر أرنو ما قد يهدّد هذا الوجود، حيث بدأ الدليفري يتشكّل كأنظمة، وليس فقط كخدمات فردية تؤدّى في مدن تتميز العمالة فيها بالأجور المتدنية. لكننا، على أي حال، ما زلنا في عالم المخازن الضخمة تلك.
تفتتح أرنو كتابها بمقطع منسوب إلى راشيل كورك يعود إلى 2013 يصف فيه تلك المساحات المضاءة بالنيون التي، «لا طابع لها، والتي هي أبدية إلى درجة توحي معها بالرفاه والعجز في الوقت ذاته». وهي، أرنو، تعلّق على ذلك في إحدى الصفحات حيث تذكر بأن «الحاضر هنا يتكرّر مئات المرّات»، بل آلاف المرّات، إذ كان ما يفصل بين زيارة تسوّق وأخرى أربعة أيام أو خمسة. «لا تاريخ هنا» تكتب، ذاكرة كيف أنها تخلط بين يوم وآخر، بل بين مخزن وآخر. ثم أن ما يحدث الآن لا يتميز بالقدر الكافي عما كان يحصل في مرّات التسوّق السابقة. ليس إلا أشياء بسيطة كأن تنثقب علبة حليب هناك عند صندوق المحاسبة، ويترقّب أولئك المنتظرون دورهم كيف ستكون ردة فعل الموظّفة وراء آلة الحساب. هذه الحادثة، على ضآلتها، قد تكون استثنائية، طالما أن لا يحدث شيء هناك يستحقّ التذكّر. ذلك النشاط في التنقل بين الأجنحة والرفوف لا يصاحبه نشاط تقوم به الذاكرة. ما يجري السعي إليه هنا هو التحقّق من أن شيئا ينبغي ألا ينقص هناك في خزائن البيوت التي تُحفظ فيها السلع.
كما وأن تستبق ما سيلي اليوم، أو الأيام التي أنت فيها الآن، مجاريا في ذلك النشاط الذي يبذله مركز التسوّق لاستباق المناسبة. فما يذكّر بقدوم عيد الفصح، أو عيد ميلاد يسوع المسيح، أو عيد جميع القديسين، أو عيد الأم، أو عيد العشّاق… إلخ، هو ما تسرع تلك المراكز إلى عرض بضاعته قبل أن يحين موعده. «اللجاجة التجارية» تكتب أرنو، «تقرّب المستقبل، وتجعل ماضي الأسبوع المنصرم في مهبّ النسيان». لذلك، كما في مكان آخر من الكتاب، «يمكنك في هذا المكان أن تشعر بأنك تائه، متوعّك، لكن حاشا أن تشعر بالإحباط»، طالما أنك تارك حاضرك وراء ظهرك، وذاهب منه إلى ما يجب أن تحضّر لحصوله بعد أيام.
ثم هناك التراوح بين الخفاء عن الآخرين والخوف من الانكشاف، بل الافتضاح أمامهم. أكثر ما يحدث ذلك في الصف الذي نختاره من بين الصفوف الكثيرة المتوازية لنتبين، إثر دراسة سريعة تجريها رؤوسنا، أيها الأسرع في إيصالنا إلى دورنا. في حساب ذلك علينا أن نأخذ في الاعتبار عدد الذين سبقونا، وها هم واقفون أمامنا، وكميات البضائع التي في عرباتهم، كما أعمارهم أيضا، تلك التي تحدّد بطأهم أو سرعتهم، ويرجع ذلك غالبا إلى أعمارهم، فكبار السن يستغرقون الوقت مضاعفا في وضع السلع على البساط المعدني، سلعة بعد سلعة، ما قد يدفع موظفة الصندوق إلى أن تمد يدها، نافدة الصبر، لتلتقط ما لم تصل به اليد البطيئة إليها… إلخ. أما الانكشاف فيحصل هناك، حيث سيعرض المتسوّق أمام المحدّقين في الصف وراءه كل ما وضعه في عربته. من ذلك مثلا أن هؤلاء سيعرفون «طريقة عيشنا وحسابنا في المصرف. عاداتنا الغذائية واهتماماتنا الأكثر حميمية. حتى وضعنا العائلي، فالمشتريات التي نضعها على بساط الصندوق، تقول إذا كنا نعيش بمفردنا أو نعيش كثنائي، مع طفل أو مع أولاد يافعين، أو مع حيوانات».
تلك المساحة الشاسعة المغمورة بالضوء، التي تبذل جهودا مضنية لجعلنا نُعجب، أو نرضى، أو نخرج من دون أي خطأ قد نحتجّ به، لا تتركنا هكذا أحرارا في المقابل. إنها تملي علينا طقسها، حتى إن بذلت جهدا إضافيا لكي لا نعرف بأننا واقعون في أسره. ألم تنتبه إلى أن الجميع يبدون كأنهم واحد هناك، لا يكاد يشذّ أحدهم عن الآخر. ألم ترَ لطف موظفة الصندوق المتلازم مع إصرارها على أن ترى ماذا في قعر حقيبتك وهل أبقيت، أو أخفيت شيئا هناك؟ ألا يجعلك ذلك الحارس عند بوابة الخروج، الضخم الجسم، تضطرب فيما هو ينظر إلى ما تحمله يداك وما قد تخفيه جيوبك، بل وستضطرب أكثر إن خرجت من دون أن تشتري شيئا، «كأن الانصراف دون تسوّق شذوذ مشبوه، فأنت مذنب بعدم شرائك شيئا».
تستغرب آني أرنو كيف لم تشكل المراكز التجارية هذه موضوعات للكتابة، لماذا لم يتناول الأدب السوبرماركت؟ وهي تجيب بأن ذلك الإغفال يرجع إلى كونه، على رغم أساسيته في حياتنا، يقع في باب النوافل. ما لا قيمة له في الحياة، لا قيمة له في الأدب، وهي تشبه ذلك بالعمل المنزلي، المناط بربات البيوت، حيث لا يدخلهن الأدب إلى مجاله إلا بعد أن يخلعن مآزرهن ويخرجن محتجّات من البيوت.
كتاب آني أرنو «أنظر إلى الأضواء يا حبيبي» نقلته إلى العربية لينا بدر وصدر عن دار الجمل، 2017.
٭ روائي لبناني
القدس العربي