مراجعات كتب

أن تكون عالما في دولة الاستبداد… الكواكبي صورة معبرة عن علاقة المثقف بالطاغية/ عبد القادر ملوك

 

 

من غرائب الصدف أو لنقل من غرائب صنائع ولاة الأمر المستبدين، ان يلقى المرء حتفه من الداء الذي حذر منه و ظل يدعو إلى استئصال شأفته. انه داء متابعة الحكام المستبدين لرجالات العلم و مطاردتهم أينما حلوا وارتحلوا، لا لجرم ارتكبوه واستحقوا بموجبه العقاب، ولا لقول تلفظوا به ولم يلاق هوى لدى الحاكم ولا لمكتوب دبجوه وحمل في ثناياه ما يدينهم ويزج بهم في مهاوي التهلكة، بل فقط لانهم تجرأوا على تنوير العوام وتوضيح الخير لهم وفضح الشر. وهذا لعمري أشد إيلاما على المستبد وأكثر فتكا بسلطته من غيره، كيف لا و»أخوف ما يخافه المستبدون من العلم ان يعرف الناس حقيقة ان الحرية أفضل من الحياة أو ان يعرفوا النفس وعزها، والشرف وعظمته، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرحمة وما هي لذاتها». عبد الرحمان الكواكبي ألف كتابه العمدة «طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد» وهو يمني النفس بان يرفع عن العوام جهلهم الذي هو مكمن دائهم وما يعيشونه من ذل وهوان، لأنهم إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا. والاستسلام أكثر ما يرغب فيه حاكم مستبد يرفل في النعيم حين يرفلون في البؤس ويسعد حين يتعسون. لانه يدرك انه لا «استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه وعماء.

على هذا كان الاستعباد والعلم، يقول الكواكبي، يتجاذبان العوام دون هوادة، يسعى العلماء الذين ينبتون في الغالب في مضايق صخور الاستبداد جهدهم في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها إدراكا منه ان خضوع العوام وخنوعهم انما مرده إلى الخوف الناتج عن الجهل، فإذا ارتفع هذا الأخير «تنور العقل وزال الخوف وأصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال.»

والحال ان ما انتهى إليه الكواكبي من تحليل يعكسه واقع حال بلداننا العربية، حتى وان تعامل صاحب «الطبائع» مع هذه الظاهرة من موقف يكاد يكون محايدا واستنكف عن ذكر أسماء بعينها أو الإشارة إلى حاكم باسمه، يقول متخذا الحيطة والحذر : « و انا لا أقصد في مباحثي ظالما بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه…» قلت ان ما خلص إليه من تحليل نلفيه حاضرا داخل بلداننا العربية، إذ ظل العلماء ورجالات التنوير مطاردين منبوذين، لا يسمع لهم صوت إلا همسا واختلاسا، ولا يخرج كتاب أو مقال بأقلامهم إلا و تتم مصادرته ويتم تشميع دار النشر المسؤولة. لهذا ظلوا في الغالب يرتحلون من مكان إلى مكان ويكتبون كتاباتهم غير ممهورة بأسمائهم، أو يلجأون إلى استخدام أسماء مستعارة تموه عن هوياتهم الحقيقية فتبقيهم أحياء إلى حين، وهم مدركون ان مهمتهم تفوق مهمة الجنود في ساحات الوغى، فكلماتهم أقوى من طلقات الرصاص، إذا ما قدر لها ان تصل إلى العوام وتفعل فعلها فيهم صيَّرتهم قوة لا تصد ولا ترد لا يجد الحاكم معها سوى الفرار ان تأتى له ذلك أو الموت تحت الأقدام. وهذه النتائج هي التي تدفع المستبد إلى الخشية من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه، «لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن وهم التخاذل فقط، وخوفه على فقد حياته وسلطانه وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام، وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياة تعيسة فقط.» و هذا الأمر لكي تدركه الرعية عليها ان تخرج من حالة الشعور بالنقص التي لازمتها بفعل التجهيل الطويل ومن وضع الخصاء الفكري الذي جعلها تميل إلى العجز والاستكانة والاستسلام لواقع الحال. ولن يتم لها هذا الخروج إلا على يديها أولا بالإقبال على العلم والمداومة عليه، ثم على أيدي الفئات المثقفة المتنورة التي يلزمها إخراج الأفراد من حالة اليتم و القصور الذي تعيشه، لأنهم، كما يقول عنهم الراحل عابد الجابري «الذين يحملون آراء خاصة بهم حول الإنسان والمجتمع، ويقفون موقف الاحتجاج والتنديد إزاء ما يتعرض له الأفراد والجماعات من ظلم وعسف من طرف السلطات، أيا كانت، سياسية أو دينية.»

خلاصة القول في ما أراد الكواكبي قوله حول العلاقة بين الاستبداد والعلم، انها أبدا لم تكن علاقة ود و تآخ اللهم إلا إذا كان المقصود بالعلماء فئة المتملقين والطامعين في لقيمات من موائد المستبد. أما غيرهم من العلماء الراشدين والمرشدين فانهم يظلون في شد وجذب مع الطغمة الحاكمة المستبدة والسبب كما قلنا تباعد الأهداف وتناقضها، وهي أهداف في المجمل تتمحور حول الرعية، التي هي من جهة قوة المستبد وسنده مادامت في حالة جهل يورثها الخوف المستديم الذي لا تقوى منه فكاكا بمفردها، وهي من جهة أخرى اليد التي تبطش بالمستبد وتسقطه من عليائه إذا استحكم منها علم العلماء وتخلصت من خوفها وكسرت قيودها.

ربما لا نحتاج إلى تأكيد انه ما من مجتمع تقدم وبلغ شأوا كبيرا في مختلف المجالات وتبوأ مكانة جليلة بين الدول إلا وكان للعلماء ورجالات الفكر فيه حظوة كبيرة ومنزلة عظيمة بالنظر لجليل أعمالهم ودورهم الكبير في رفع ثوب الجهل والغباوة عن الرعية وإلباسها ثوب العلم وتنوير عقولها، وبالمقابل ما من مجتمع أفلس أفراده وتقهقر وضعه وحلت به الفاقة ولبس ثوب الذل والهوان بين الدول إلا وتجد ان الفئة المتنورة فيه قد لحقها العسف وشملها التضييق وطوردت في كل مكان حتى ينتهي بها الحال، في أحسن الأحوال، إلى بلدان أخرى تقدر قيمتها وتسعد بزادها. والكواكبي ما فتئ يذكِّر بهذا الجفاء في العلاقة بين العلماء والمستبد والذي ينتهي بمطاردة العلماء والفتك بهم، كما أسلفنا القول، مشددا على ان « السعيد منهم (يقصد من فئة العلماء) من يتمكن من مهاجرة دياره» لأنه حين تضيق الأوطان بأصحابها لا يجد هؤلاء غير بلاد الغربة وطنا لهم يتنسمون داخله هواء الحرية من جديد و يقون انفسهم وأبدانهم من التهلكة. ورغم ان صاحب الطبائع قد تمكن من الظفر بالنعمة الأولى خارج وطنه الأصل، أقصد نعمة الحرية، حيث تمكن من تدبيج كتابه هذا الموغل في التحرش بالمستبد والكشف عن عوراته، فان النعمة الثانية، نعمة حفظ النفس من الموت الذي يتربص بكل من تجرأ ورفع صوته بكل ما يسيء للحاكم المستبد، لم يتأت له الظفر بها لوقت طويل، إذ رغم هجرته الوطن، سوريا، والإقامة بمصر التي لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني، طالته يد الاستبداد بعد ان دست له سما في فنجان القهوة، ليفارق الحياة بعدها في عام 1902، و يكون موته صورة معبرة عن علاقة الاستبداد بالعلم التي لا يشفع فيها للعالم ادعاء الحياد في معالجته للاستبداد ما دامت صفة العالم لوحدها تهمة عقابها الموت في قاموس الاستبداد.

٭ كاتب مغربي

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى