أوباما و«خطبة الوداع»: الفارق بين البعوضة وبرميل الأسد/ صبحي حديدي
ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما ما يشبه «خطبة الوداع الكونية»، أمام حشد من الزعماء الأوروبيين، في هانوفر. ولقد ذكّرهم، ولكن ذكّر العالم بأسره معهم، أو حتى قبلهم، بسلسلة «القِيَم» المشتركة التي تجمع العالم الغربي، أوروبا وأمريكا: «نؤمن بالعدالة، وألا يتوجب أن يموت طفل من وخزة بعوضة، وألا يتعذب امرؤ من معدة خاوية؛ وأننا، معاً، نستطيع أن ننقذ المعمورة وشعوب العالم الأضعف من التأثيرات الأسوأ لتبدّل المناخ». كذلك: «إذا توجّب عليك أن تختار ساعة ولادتك في برهة في الزمن، على امتداد التاريخ الإنساني، دون أن تعرف مسبقاً ماهية جنسيتك وجنسك أو الوضع الاقتصادي الذي ستكون فيه، فإنك سوف تختار الحاضر».
أي: حاضر العالم من وجهة النظر، والقِيَم، الغربية، الأورو ـ أمريكية، على وجه التحديد. لأنّ إنسان هذا العالم أكثر ثراءً، وحرّية، وصحّة، وتعليماً، وعدلاً، ؛ الأمر الذي لا يعني وجود شرور، وإرهاب، وديمقراطيات كاذبة، و»قوى خطيرة تهدد بجرّ عالمنا إلى الوراء»، حسب تعبيرات أوباما. ورغم انه أتى على ذكر سوريا مراراً، وتباهى بإرسال 250 جندياً من «قوات العمليات الخاصة» الأمريكية، سوف «يكون دورهم جوهرياً في توفير التدريب والمساعدة للقوات المحلية التي تواصل مجابهة تنظيم الدولة الإسلامية»؛ فإنّ أوباما تفادى الحديث عن أطفال سوريين لا يموتون جراء وخزة بعوضة، بل تمزّق أجسادهم براميل بشار الأسد وقذائفه، أسوة بمقاتلات فلاديمير بوتين، أو صواريخ إيران و»حزب الله». هذا، بدوره، فارق قِيَم وعيش ومصير، لكنه يُقاس بالدماء التي تُراق يومياً، وبالتشرد والضياع والخراب، وبإهدار الكرامة الإنسانية؛ على نقيض مزاعم أوباما حول عالم مشترك، متسامح، عادل…
هذا، مع ذلك كله، موضوع آخر لا طائل من وراء الخوض فيه، خاصة بعد اتضاح «عقيدة أوباما» سنة بعد أخرى، وانكشاف فصولها الأحدث، أي نزعة التمركز حول الذات الغربية؛ آتية، للمفارقة الصارخة، من أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة. ما هو أكثر جدارة بالنقاش هنا، بصدد «خطبة الوداع الكونية» هذه، يتصل بالعلاقة الفعلية بين أمريكا وأوروبا، بمعزل عن الكلام الوردي والبلاغة الطنانة. ثمة فائدة في العودة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، أحد ملهمي أوباما؛ وإلى العام 1997، حين لم يشأ كلنتون تفويت فرصة الاحتفاء بالذكرى الخمسين لإطلاق «خطة مارشال»، دون الاستماع بطرب بالغ إلى ما صدر عن زعماء أوروبا من عبارات العرفان بالجميل. ذلك لأنّ تلك الخطة انطوت على عون أمريكي هائل لأوروبا أربعينيات القرن الماضي، حين كانت القارّة العجوز خربة ومنهارة وممزقة، تتضور جوعاً إلى ما تحمله الشاحنات الأمريكية من موادّ إغاثة تبدأ من الدقيق والحليب، ولا تنتهي عند قلم الرصاص وكيس الإسمنت.
وفي تلك المناسبة كانت وسائل الإعلام متنبهة إلى الاحتفال، على عكس حالها يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1947، حين ألقى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جورج مارشال، خطبة قصيرة في حفل تخريج دفعة جديدة من طلاب جامعة هارفارد؛ وكان في الواقع يطلق المبادرة الدبلوماسية الأضخم والأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة: ما سيعرف فيما بعد باسم «خطة مارشال»، لانتشال أوروبا من أوزار الحرب العالمية الثانية. وآنذاك، لم تكترث الصحافة الأمريكية بخطبة من سبع دقائق، ألقاها رجل جافّ الروح وصارم الملامح، لا تنفرج شفتاه عن ابتسامة مجاملة حتى عندما يطلق فرنكلين روزفلت واحدة من النكات الرئاسية المأثورة. ولأنّ أحداً لم ينتبه، فإن أحداً لم يناقش خطورة مشروع فريد عكفت على هندسته أكبر أدمغة الإدارة آنذاك (مارشال نفسه، بمعونة دين أشيسن، جورج كينان، وليام كلايتون، وشارلز بوهلن)، وسوف يقلب العالم رأساً على عقب، وسيتكلف 13 مليار دولار (قرابة 90 مليار بحسابات هذه الأيام).
قبل هذه المبادرة، في شباط (فبراير) عام 1946، كان القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في موسكو قد أرسل «البرقية الطويلة»، التي ستدخل التاريخ بوصفها التبشير الإيديولوجي الأوّل بالحرب الباردة القادمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. صاحب البرقية كان جورج كينان، الذي سوف يكتب المقال الشهير في مجلة Foreign Affairs بتوقيع X، فيستحق عليه لقب «نبيّ الحرب الباردة» بلا منازع. وفي البرقية كما في المقال، ساجل كينان بأنّ الولايات المتحدة لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي أمام ما سيجرّه خراب أوروبا الاقتصادي من خراب إيديولوجي سيكون في صالح الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، وسيقلب الانتصارات العسكرية الأمريكية إلى هزائم عقائدية للقِيَم الرأسمالية. لكن المحتوى البراغماتي لسجال كينان لم يكن يدور حول ملء البطون الجائعة بقدر ما كان يستعجل تطويق الانهيار الوشيك في أوروبا، والسيطرة على تعطش الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إلى ملء فراغ القوّة هنا وهناك، واستخدام سلاح المعدة الخاوية لضبط الأرواح الهائمة والعقول التي تفسّر الخراب. وكان كينان يريد للولايات المتحدة أن تتولى زمام العالم الحرّ (وبالتالي زمام العالم بأسره خارج الملكوت الشيوعي)، عن طريق استخدام كيس الطحين الذي سوف يكمل العمل الذي قامت به الدبابة والقاذفة أثناء سنوات الحرب وتحرير أوروبا.
وهكذا فإنّ «خطة مارشال» لم تكن عملية كبرى في التطويق والاختراق والتحصين، فحسب؛ بل سلسلة عمليات ستراتيجية في التجارة والاستثمار والأعمال (إعادة تشغيل مصانع كبرى مثل رينو وبيشينيه وداسو في فرنسا، وفولكسفاكن وديملر ـ بينز في ألمانيا، وفيات في إيطاليا)؛ وفي التسويق الفلسفي للقِيَم الرأسمالية، والتصدير الثقافي لنمط الحياة الأمريكي، وما إلى ذلك. ولم يكن هذا التوجه جديداً، فمنذ مطلع القرن اعترف الرئيس وودرو ولسون بالدور الداعم الذي يلعبه جهاز الدولة الرأسمالية الكونية، بالنيابة عن الرأسمالية الكونية: «ولأنّ التجارة تضرب صفحاً عن الحدود، والصناعي يلحّ على امتلاك العالم بأسره سوقاً له، فإنّ من الواجب على عَلَم بلاده، راية الأمّة والجيش، أن يرفرف خلف ظهره. وينبغي على أجهزة الدولة حماية التنازلات التي يتوصل إليها التاجر والصانع، حتى إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم في هذه السيرورة. ويجب الحصول على المستعمرات أو إقامتها إذا لم تكن موجودة، بهدف استثمار وتوظيف كل زاوية من جهات الكون».
وفي الذكرى الخمسين لـ»خطة مارشال» توافد قادة أوروبا إلى لاهاي، المقرّ الرسمي للاحتفالات، لا لكي يتسابقوا في التعبير عن عرفانهم بجميل الولايات المتحدة؛ بل كذلك لكي يصيخوا السمع إلى رسالة الردع المبطنة، في دعوة كلينتون إلى «خطة مارشال» جديدة من أجل إنقاذ أوروبا الشرقية. وما لم يقله كلينتون صراحة، قالته وزيرة خارجيته يومذاك، مادلين أولبرايت، في أعمدة الصحف: «إذا لم تنتسب الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية إلى النظام، فإن الشراكة الأطلسية في التجارة والأمن لا يمكن أن تتمّ، كما أنه لا يمكن إنجاز عملة أوروبية أو سياسة خارجية موحدة».
يومذاك لم تكن «داعش» قد ولدت بعد، بل لم تكن أبراج 9/11 قد تهاوت؛ وكان أنصار «القاعدة» لهم اسم آخر، هو «المقاتلون من أجل الحرية» في أفغانستان؛ ولم يكن أحد يتوقع أن يكون سيد البيت الأبيض أسود البشرة… عالم يتغيّر بالطبع، ولكن ثمة في الجوهر ما لا يتغيّر إلا على سبيل إعادة إنتاج أسوأ عِبَر الماضي، وليس قِيَم الحاضر أو المستقبل. على غرار الفارق بين بعوضة تقرص، وبرميل يمزّق الأجساد إرباً!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي