صبحي حديديصفحات الرأي

”الإحياء” الإسلامي ومنتصف العصا: رحل الترابي وتسلّم الغنوشي/ صبحي حديدي

 

 

في وسع أنصار الشيخ راشد الغنوشي، رئيس «حركة النهضة» التونسية، أن يسارعوا إلى تنصيبه خليفة مستحقاً للشيخ حسن الترابي (1932ـ2016)؛ إنْ لم يكن على الصعيد التنظيري. وللأول باع طويل وعتيق في هذه الرياضة الفكرية، فعلى الآقل، بل على الفور، في ميدان الحذلقة السياسية والتكتيك العتيق في إمساك العصا من المنتصف، وادعاء العدل على طرفيها، والإنصاف التام. وسبحان المصادفات، حقاً، بين رحيل الشيخ السوداني وتصريحات الشيخ التونسي حول «حزب الله»: لا نصنفه كتنظيم إرهابي، لأنه لا أحد يستطيع أن يزايد على الحزب في دوره الوطني (هذا منتصف العصا الأول)؛ لكن دور الحزب في سوريا هو إشكالي، وهو محل أخذ ورد لأنه دعم الثورة المضادة (منتصف العصا الثاني)…

أن ترسل آلاف المقاتلين (أنفسهم، حَمَلة راية «الدور الوطني») إلى سوريا، ليس للقتال دفاعاً عن نظام مجرمي الحرب ومصاصي دماء الشعب السوري، فحسب؛ بل، أيضاً، لارتكاب المجازر ومحاصرة المدن والبلدات والقرى وتجويع النساء والأطفال والشيوخ؛ أمر «محل أخذ ورد»، ليس أكثر، في تنظير الشيخ الغنوشي. لكنه ـ لا عجب البتة، في الواقع، ولا جديد في التكتيك ـ تنظير قابل للقلب والاستقلاب؛ لأن أجهزة الشيخ سارعت إلى تخفيف أضرار هذه الأقوال، التي لا تروق لكبار رعاة الغنوشي خارج «النهضة» وخارج تونس كلها، بالقول إن تصريحات الشيخ «فُهمت بطريق الخطأ»: من جانب العباد الخطائين بالطبع، لأن لغة الشيخ لا يأتيها خطأ من داخلها!

من جانبه كان الترابي ـ سواء كان الشيخ في واحدة من الإشراقات المعدّة للاستهلاك الداخلي، أو تلك الخاصة بالتصدير إلى الخارج – كما تقول النكتة الشعبية السودانية ـ المنظّر الأبرز لما سُمّي بـ»حركة الإحياء الإسلامي»؛ وكان «القدوة الحسنة» لجيل (أوّل وثانٍ ربما) انخرط في تسييس معقّد، تنظيمي وفكري، لستراتيجيات وتكتيكات جماعات «الإخوان المسلمين» وعقائدهم. صحيح أنه لم يكن حسن البنّا، وكان محالاً أن يعيد إنتاج شخصية أبو الأعلى المودودي؛ لكنه ظل شديد الولع بطراز من الهوس البلشفي بالتنظيم والتعبئة. ذلك، والكثير سواه، يتيح استبعاد النظرة الأحادية إلى شخصية الترابي على الضفتين: التقيّ النقيّ (كما يردّد الحالمون من أتباعه)، أو المنافق ومنظّر الإرهاب (كما يردد العصابيون من خصومه).

«ما الذي يمكن أن يعنيه الحكم الإسلامي؟» سأل الترابي ذات يوم. «النموذج بالغ الوضوح، أما أفق الحكم فهو محدود، والقانون ليس توكيلاً للرقابة الاجتماعية لأنّ المعايير الأخلاقية والضمير الفردي شديدة الأهمية، وهي مستقلة بذاتها. لن نلجأ إلى ضبط المواقف الفكرية من الإسلام، أو قنونتها، ونحن نثمّن ونضمن حرية البشر والحرية الدينية ليس لغير المسلمين فحسب، بل للمسلمين أنفسهم حين يحملون قناعات مختلفة. إنني شخصياً أعتنق آراء تسير على النقيض تماماً من المدارس السلفية في التشريع حول مسائل مثل وضع المرأة، وشهادة غير المسلم في المحاكم، وحكم الكافر. البعض يردد أنني متأثر بالغرب إلى حدّ اقتراف الكفر. ولكني لا أقبل الحكم على سلمان رشدي بالموت، ولو استفاق مسلم ذات صباح وقال إنه كفّ عن الإيمان، فهذا شأنه وحده».

ويمضي الشيخ في شرح تفسيره لعلاقة الدين بالدنيا فيقول: «الحكم الإسلامي ليس شاملاً لأن الإسلام وحده هو الرؤية الشاملة للحياة، وإذا اختُزل في الحكم وحده فإن الحكومة ستكون عاجزة مشلولة، وهذا ليس من الإسلام في شيء. الحكم لا مصلحة له في التدخل في عبادة الفرد أو صلاته أو صيامه إلا في ما يتصّل بالتحدّي العلني للصيام. نحن لا نخلط بين ما هو أخلاقي وما هو شرعي. الرسول نفسه أغلظ في القول ضدّ الممتنعين عن الصلاة، ولكنه لم يتخذ أي إجراء بحقهم. وتوجد فروض اجتماعية حول كيفية اختيار الرجال والنساء للباسهم، ولكن المسألة ليست جزءاً من القانون». ولا يكتمل المعمار التنظيري للشيخ الترابي من دون التوقف عند الإسلام الراهن، في العالم الراهن: «قد تكون النزعة القومية هي البديل عن الإسلام في بلدان أخرى. لكن الإسلام هو النزعة القومية الوحيدة المتوفرة أمامنا إذا شئنا تأكيد قيمنا الوطنية الأصلية، وأصالتنا، واستقلالنا عن الغرب. الإسلام هو حداثتنا الوحيدة. إنه العقيدة الوحيدة التي يمكن أن تقوم مقام العقيدة الوطنية في أيامنا هذه».

هذا منتصف العصا، في افتراض مشروع، فما الذي احتواه المنتصف الثاني؟ ذات يوم، بسبب تصريحات اعتبر فيها أنّ الرئيس السوداني عمر البشير «مدان سياسياً بجرائم ارتكبت في دارفور، وعليه المثول طوعاً أمام المحكمة الجنائية الدولية»، لجأت السلطات السودانية إلى اعتقال الشيخ الترابي. بعد احتجاز دام شهرين، تمّ الإفراج عنه، ليس بدون مفارقة صارخة: كان الاعتقال يستهدف التنكيل به، وكان الإفراج يسعى إلى… استرضائه، والإيحاء بتوفّر إجماع شعبي سوداني حول رفض المذكّرة. لكن إيمان الترابي بـ «العدالة الدولية» ـ كما مثّلها، يومذاك، القاضي لويس مورينو أوكامبو ـ بدا موضع مساءلة فورية؛ بالنظر إلى لائحة مواقف الترابي السابقة من قرارات «المجتمع الدولي» حول السودان، لكي لا يتحدّث المرء عن كامل فلسفة الترابي في صدد المعادلات ما بعد الكولونيالية بين المستعمِر والمستعمَر، والشرق والغرب إجمالاً.

«عرب الحدود»، في جانب آخر من تنظير الشيخ، هو التعبير الذي اعتاد استخدامه لوصف عواقب الفاصل الزمني الطويل الذي جعل ولادة الهوية العربية في السودان قيصرية، بالمعاني السيكولوجية والسياسية والجغرافية؛ وسهّل لجوء الإدارة الاستعمارية البريطانية إلى سياسة الباب المغلق، المعاكسة تماماً للسياسة التي اعتمدها الروّاد العرب. وفي معجم مفردات التاج الإمبراطوري، كان إغلاق الباب على عرب الشمال المسلمين يعني فتحه على مصراعيه أمام قبائل الجنوب عبر تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم، وتأسيس وضع خاص بها، وإسناد الخدمات التربوية والاجتماعية إلى البعثات التبشيرية، وتكليف زعماء القبائل بالشؤون الإدارية المحلية، وإحياء اللغات الإثنية والثقافة القبلية على حساب الإسلام واللغة العربية. وحين أحرز السودان استقلاله عام 1956، كان الجنوب يسترجع، لتوّه، ذاكرة الرقّ وإرث الطريقتين الصوفيتين ـ السياسيتين (الأنصار والختمية)، ويستعد للأسوأ عن حقّ أو عن باطل.

ومن المفارقات ذات الدلالة أنّ «الاستبداد العلماني»، كما يصف الكاتب الأمريكي ملتون فيورست أسلوب حكم جعفر النميري بعد انقلاب 1969، حظي بدعم مبدئي من الشيوعيين، وبمعارضة من الشيخ الترابي الذي بقي رهن الإعتقال طيلة سبع سنوات. ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري عشرات القادة الشيوعيين، قبل أن يهتدي إلى فضائل الشريعة وتطبيق الحدود في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، فلا يكتفي بالإفراج عن الترابي بل ويعيّنه وزيراً للعدل! المفارقة الأخرى أنّ اكتشاف النفط كان المعيار الحاسم لاختبار سلسلة القوانين الاستبدادية (غير العلمانية هذه المرة!)، وطرح ورقة الإنفصال بعنف حصد أكثر من مليون ضحية، في أقلّ التقديرات تشاؤماً. الترابي كان المهندس الحقيقي وراء هذا الطور من نقل «عرب الحدود» إلى «عرب الإسلام»؛ أو الحكم الإسلامي، أو الشريعة في تطبيقها الدنيوي المعتدل، أو ما يشاء المرء من تسميات تدخل في النطاق الدلالي ذاته.

وذات يوم، أخيراً، كان منتصف عصا الشيخ يشير إلى سهره شخصياً على طيب إقامة أسامة بن لادن في السودان؛ وكان المنتصف الثاني ينقل وقائع جلسة الكونغرس الأمريكي المخصصة للاستماع إلى الشيخ، ينظّر وينظّر وينظّر. العصا آلت اليوم إلى الغنوشي، أغلب الظن، وتنظيرات الوريث عن «حزب الله» ليست سوى أول الغيث!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى