صبحي حديديصفحات الرأي

الاحتباس الحراري… بين الثقافات أيضا!/ صبحي حديدي

 

 

«التقدم في التنمية لن يكون بمنأى عن الخطر ما دام الأفراد معرّضين للانزلاق مجدداً في الفقر بسبب عدد من العوامل الهيكلية والمخاطر الدائمة. فالقضاء على الفقر لا يعني مجرد الخروج من دوامة الفقر بل البقاء في مأمن عنها»؛ تقول الجملة، الجميلة الوردية، التي شاءت هيلن كلارك، مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن تختم بها تقرير المنظمة الدولي الأخير، حول التنمية البشرية؛ الذي حمل، بدوره، عنواناً زاهياً: «المضيّ في التقدم: بناء المنعة لدرء المخاطر».

وبعد سنتين، في ختام العام 2017، يُفترض أن يكون البرنامج قد أنجز ما أسماه «الخطة الستراتيجية»؛ التي كان شعارها: «مساعدة البلدان على اقتلاع الفقر، بالتناوب مع الانخفاض الملموس في انعدام التكافو والإقصاء». طموح استثنائي، اذاً، لا تجاري لغته الآملة إلا أغراضه التي تتطلع إلى مستقبل طافح بالبشر والتفاؤل؛ ما خلا أن الواقع على الأرض ليس مختلفاً وقاتماً وباعثاً على التشاؤم، فحسب، بل هو مغاير ومعاكس ومناقض! ولا يزيد في الطين بلة، في ما يخص برنامج التنمية موضوع هذه السطور على الأقل، إلا انعقاد مؤتمرات كونية تسعى إلى تحسين مناخ الأرض، بغية الارتقاء بممكنات التنمية؛ كما هي الحال في مؤتمر باريس الأخير حول الاحتباس الحراري.

وقبل حقبة غير بعيدة، ذهب تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية أبعد، وبالتالي أعمق، من مجرّد الاستبشار بالمستقبل، والطموح إلى الأفضل؛ أو حتى سرد الأرقام القاتمة عن انقسام العالم إلى صفّ التخمة عند القلّة القليلة، وأغلبية الجوع عند السواد الأعظم. لقد تحدث التقرير، وكما قال عنوانه اللافت، عن «الحرّية الثقافية في عالم اليوم المتنوّع»، وبالتالي سعى إلى نقض نظريات صراع الحضارات، بل وسمّى النظرية الشهيرة ذاتها دون حرج أو تأتأة. كذلك بحث التقرير في مسائل الهوية على امتداد العالم، وإشكاليات تعدّد الهويات، ومختلف السياسات الثقافية التي تسود الحاضر بصدد الانفتاح أو الانغلاق والتعدّد أو التعصّب، وكيف يمكن للتنوّع الثقافي أن يكون ميدانا خصباً للتنمية…

وفي السطور الأولى من التقرير وردت هذه الفقرة المدهشة: «في زمن تتردّد فيه بقوّة ــ وبشكل يثير القلق ــ أصداء فكرة صراع الثقافات على نطاق كوني، فإنّ العثور على إجابات للأسئلة القديمة، بصدد أفضل وسائل الإدارة وتخفيف حدّة الصراعات حول اللغة والدين والثقافة والأصل العرقي، يكتسب أهمية متجددة. وهذه ليست قضية مجرّدة في نظر المشتغلين بالتنمية». وبالفعل… التقرير خطا خطوة فكرية غير مألوفة حين استعرض خمس أساطير حول «التنافر» الذي يعيق التنمية الإنسانية والسياسية، والثقافية، ثمّ سعى إلى تقويضها واحدة تلو الأخرى:

ـ الأسطورة الأولى هي أنّ هويّات البشر الإثنية تتنافس مع ارتباطهم بالدولة، ولهذا يوجد نوع من التنافر بين الإقرار بالتنوّع وتوحيد الدولة.

ـ الأسطورة الثانية، أنّ المجموعات الإثنية ميّالة إلى النزاع العنيف مع بعضها البعض بسبب صراع القِيَم، ولهذا يوجد نوع من التنافر بين احترام التنوّع وتوطيد السلم.

ـ الأسطورة الثالثة، أنّ الحرية الثقافية تتطلّب الدفاع عن الممارسات التقليدية، ولهذا يمكن أن يوجد نوع من التنافر بين الإقرار بالتعددية الثقافية وقبول أولويات إنسانية تنموية أخرى مثل التقدّم والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ـ الأسطورة الرابعة، أنّ البلدان المتعددة إثنياً أقلّ من سواها قدرة على التنمية، ولذلك يوجد تنافر بين احترام التنوّع وتوطيد التنمية.

ـ والأسطورة الخامسة هي أنّ بعض الثقافات أكثر ملاءمة من سواها لتحقيق التقدّم التنموي، وبعض الثقافات عندها موروث من القِيَم الديمقراطية لا يتوفّر عند سواها، ولهذا يوجد تنافر بين الحفاظ على بعض الثقافات وإشاعة التنمية والديمقراطية.

والحال أنّ ذلك التقرير لم يشكّل تسفيهاً مباشراً لآراء صمويل هنتنغتون ونظرية صراع الحضارات فحسب؛ بل وجّه طعنات نجلاء إلى معظم آراء كبير مستشرقي عصرنا، برنارد لويس، حول ملفّ محدّد يُطرح الآن بالذات في قلب أوروبا وفي صلب معادلات «الشرق» و»الغرب»: أي الديمقراطية التركية، وصلاحية تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتطابق أو تنافر قِيَمها السياسية والثقافية مع تلك التي يؤمن بها الغرب.

ومراراً شهد العالم هذه الديمقراطية وهي تترنح تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش في تسديدها إلى قلب التجربة، وكلما تعيّن أن يفعلوا ذلك استناداً إلى تقديرات مجلس الأمن القومي التركي بوصفه الحارس الساهر على العلمانية، والوحيد الذي يمتلك الحق في الاجتهاد العلماني وتحويل محتوى الاجتهاد إلى قرارات ملزمة للمجتمع. وكان يستوي أن يلجأ الجيش إلى القانون (المحكمة الدستورية وحلّ الأحزاب)، أو إلى حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس)، أو الإنقلاب العسكري بوصفه ذروة العلاج بالكيّ. ومراراً شهد العالم مهازل القضاء التركي ضدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحياة الحزبية التعددية، خاصة الأحزاب الإسلامية (مختلف التشكيلات السابقة لحزب العدالة والتنمية)٫ والأحزاب والتنظيمات التي تسعى إلى تمثيل الأكراد. سكت برنارد لويس، آنذاك، ثم تحوّل سكوته بعدئذ إلى توجس من الديمقراطية التركية؛ وكأنه في نهاية المطاف يقول للأوروبيين: حتى هذه العزيزة على نفسي لا تصلح للانضمام إلى أوروبا لأنها (وكيف يمكن أن نلتمس له سبباً جوهرياً سوى هذا!) تعيش نوعاً من التنافر بين الحفاظ على قِيَمها الإسلامية وقِيَم الديمقراطية وحقوق الإنسان… تماماً كما في الأسطورة الخامسة التي سفهها تقرير التنمية البشرية.

ولعلّنا ننتقل أبعد، من الأفراد إلى المؤسسات، فنتبصّر في سابقة نوعية حول مبدأ التصالح مع الآخر، وإصلاح ذات البين مع التاريخ. قد يذكر البعض اعتذار الكنيسة الكاثوليكية من يهود فرنسا، أواخر العام 1997، الحدث الذي بدا مختلفاً كلّ الاختلاف عما فعله المستشار الألماني الراحل فيلي براندت عام 1970 حين جثا أمام نصب الـ «غيتو» في وارسو؛ وعما فعله الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران صحبة المستشار الألماني السابق هلموت كول عام 1984 في مقبرة فردان. الاعتذار هذه المرة لم يأتِ من السلطات السياسية العلمانية، بل من الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، التي اعترفت بعد 57 سنة أن صمتها المطبق على ترحيل 75 ألف يهودي إلى المعسكرات النازية لم يكن سلوكاً مسيحياً لائقاً، وهو بالتالي يستوجب الإعتذار العلني وبأفصح العبارات.

المسألة هذه المرّة ثقافية، بين ديانة وديانة، وتراث وتراث، وذاكرة وذاكرة. دلالاتها استثنائية حين يتذكر المرء الصمت (الرهيب بالفعل) الذي التزمته الكنيسة الكاثوليكية إزاء ترحيل اليهود، وقبل ذلك إزاء إخضاعهم لسياسات تمييز جائرة مثل تعليق نجمة داود على الصدر بصورة إلزامية، والمنع من الوظائف الدبلوماسية والعسكرية والتدريسية، ومصادرة الأملاك. واستثنائية حين نتذكّر هذا النداء، الرهيب بدوره، الذي أطلقه الكاردينال الفرنسي الكاثوليكي بودريار عام 1941: «لأنني قسّ وفرنسي يمرّ بمرحلة حاسمة، هل في وسعي أن أرفض إقرار المشروع النبيل المشترك الذي تقوده ألمانيا، والذي يسعى إلى تخليص فرنسا وأوروبا والعالم؟ ها قد حان الوقت لحملة صليبية جديدة، وأؤكد لكم أن ضريح المسيح سوف يتحرّر. ومن خلال أحزان اللحظة سوف ينبلج فجر جديد».

الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، من جانبها، لم تتردد في منح فلاديمير بوتين مباركة إراقة دماء السوريين، فقط، بل أسبغت على العدوان الروسي في سوريا صفة الحملة الصليبية… على خطى الكاردينال الفرنسي بودريار! كأنما التاريخ أكثر ذكاء من أن يقف مكتوف اليدين أمام ظواهر «الاحتباس الثقافي» بين الأمم والحضارات، فلا يتوانى عن توفير الأدلة عليها، مراراً وتكراراً.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى