الاستفتاء التركي: ما بعد جمهورية أتاتورك مقالات مختارة تناولت الحدث
الاستفتاء التركي: نعم ولكن؟
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
شهدت تركيا يوم 16 أبريل/ نيسان 2017 استفتاءً شعبيًا في تعديلات دستوريّة، طرحها حزب العدالة والتنميّة، لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهوريّة، وتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. ومع أن النتائج النهائية للاستفتاء جاءت لمصلحة التعديلات المطروحة؛ جاء تقارب نسبة المؤيدين (51.4 %) والرافضين (48.6 %) مخيبًا لآمال حزب العدالة والتنمية، على الرغم من الانتصار المهم الذي حققه، ولا سيما أنه دخل معركة الاستفتاء في الدستور الجديد متحالفًا مع حزب الحركة القومية؛ إذ حصل الحزبان مجتمعَيْن على أكثر من 60 % من أصوات الناخبين في الانتخابات العامة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015. فوق ذلك، أحدث الاستفتاء شرخًا سياسيًا ومجتمعيًا، وفجّر نقاشاتٍ سياسيّة وقانونية وإعلامية داخل تركيا وخارجها، تجاوز مناقشة الرزمة المطروحة من الحزب الحاكم، ووصل إلى حدّ الطعن في صحة النتائج المعلنة.
أهم التعديلات المقترحة
تعيد التعديلات الدستورية المطروحة لـ 18 مادة دستوريّة هيكلة صلاحيات السلطات الثلاث، وتنقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وهو نظام قائم في الديمقراطيات، بحيث يحصل رئيس الجمهورية على صلاحياتٍ تنفيذيةٍ واسعةٍ، تجعل منه صاحب القرار في جهاز الدولة، وخصوصًا بعد إلغاء منصب رئيس الحكومة. وبتحول النظام إلى نظام رئاسي، يصبح من حق الرئيس تعيين نوابه والوزراء، وكذلك كبار الموظفين البيروقراطيين. كذلك تمنح التعديلات الدستورية الرئيس حقَّ إقالتهم، كما توسعت صلاحيات الرئيس التشريعية بمنحه الحق في إصدار مراسيم تشريعية، لا تمس الحقوق والحريات الأساسية، وإن جعلها الدستور الجديد لاغيةً في حال إقرار البرلمان قانونًا مخالفًا لهذه المراسيم. كما تسمح التعديلات لكل من
“جاء تقارب نسبة المؤيدين (51.4 %) والرافضين (48.6 %) مخيبًا لآمال حزب العدالة والتنمية، على الرغم من الانتصار المهم الذي حققه” البرلمان (بموافقة ثلاثة أخماس أعضائه) ورئيس الجمهورية بالدعوة إلى انتخابات مبكّرة، على أن تشمل كلًا من رئاسة الجمهورية والبرلمان في آن معًا. وحصل منصب الرئيس بموجب التعديلات أيضًا على حق إعلان حالة الطوارئ وعرض الميزانية العامة على البرلمان.
ومن جهة أخرى، تمنحه التعديلات الجديدة هامشًا أوسع من الحريّة والمرونة والتأثير، وخصوصًا أنها تعطيه حق الاستمرار في علاقته بحزبه؛ الأمر الذي يثير مخاوف المعارضين من تحول الرئيس، في ضوء الاستقطاب السياسي والمجتمعي الذي أبرزته نتائج الاستفتاء، إلى طرف سياسيّ حزبي في البلاد. وإضافةً إلى ذلك، ارتفع عدد المقاعد في البرلمان التركي من 550 مقعدًا إلى 600، وخُفِّض سن الترشح للبرلمان من 25 عامًا إلى 18 عامًا، ويحق لكل حزب أو مجموعة أحزاب حصلت على الأقل على نسبة 5% من إجمالي الأصوات في آخر انتخابات أن تتقدم بمرشحها للرئاسة، على أن تحصل على توقيعات 100 ألف ناخب على الأقل.
دلالات الأرقام
مثّل حجم المشاركة الشعبيّة الكبيرة مفاجأة؛ إذ وصلت نسبتها داخل تركيا إلى 85% من إجمالي 55.3 مليون ناخب، يحق لهم المشاركة في الاقتراع؛ الأمر الذي عكس الاهتمام الشعبي مقارنة بالاستحقاقات الانتخابية السابقة. وكان رفض المدن الكبيرة (إسطنبول وأنقرة وإزمير) التعديلات الدستوريّة أشدّ ما يلفت الانتباه إلى التحولات في اتجاهات الرأي العام. فعدا عن الثقل المعنوي والمادي لخسارة إسطنبول، رفضت ست ولايات كبرى النظام الرئاسي، وهي التي صوّتت بأغلبية ساحقة لمصلحة الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات عام 2014. وفي سياقٍ موازٍ، استطاعت القوى الحزبية والسياسية المعارضة للتعديلات الدستورية (في مقدمتها حزب الشعب الجمهوريّ) تحقيق مكاسب انتخابية، بعد أن خسرت الجبهة المؤيدة للتعديلات الدستورية (حزبا العدالة والتنمية والحركة القوميّة) ما يقارب عشر نقاط من كتلتها الانتخابية، مقارنة بأصواتها في الانتخابات البرلمانية الماضية (في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، متراجعة من 61.4 % إلى 51.4 %، وهو مؤشر ذو دلالة كبيرة في ظل الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة التي عاشتها تركيا منذ الانقلاب العسكري الفاشل منتصف يوليو/ تموز 2016، وما نجم عنها من إعلان لحالة الطوارئ، وحملات اعتقالات، نالت من تصفهم الحكومة بـ “المنتمين إلى جماعة فتح الله غولن” المتهمة بالتخطيط للانقلاب. وفي المقابل، نجح حزب العدالة والتنمية في رفع أصواته في الولايات ذات الأغلبية الكردية جنوب تركيا وشرقها، مقارنةً بالانتخابات الماضية، على الرغم من رفضها التعديلات الدستوريّة؛ ما يؤشر إلى تراجع شعبية حزب الشعوب الديموقراطي الكردي، القريب من حزب العمال الكردستاني. وهو مؤشرٌ على موقفٍ سلبي من سياسة المواجهة التي تبناها هذا الحزب منذ الأزمة في سورية. فمن الواضح أن غالبية الكرد تؤيد التسوية السياسية في تركيا.
قراءة في النتائج
فاجأت النتائج المتقاربة، وخصوصا في المدن الكبرى، حزب العدالة والتنمية الذي حاول
الحصول على تأييد 60% من إجمالي المصوّتين، للإسراع بإنفاذ التعديلات. ويعزى تراجع نسبة التأييد إلى جملةٍ من العوامل، من أهمها:
سلبية الدعاية الانتخابيّة: فقد ركز الحزب الحاكم والرئيس أردوغان، في خطاباتهم الدعائية، على ما أسموها “المؤامرة الداخلية والخارجيّة”، عوضًا عن إبراز التعديلات الدستوريّة ومزاياها وفائدتها في حل مشكلات تركيا وأزماتها الداخليّة التي تزداد صعوبةً وتعقيدًا، بسبب الوضع الإقليمي المتفجر، وحالة عدم الاستقرار التي رافقت المحاولة الانقلابية وأعقبتها، صيف العام الماضي. وفي السياق نفسه، ربط الرئيس أردوغان، في مهرجاناته وحملاته الانتخابية، بين التعديلات الدستوريّة ومسألة الرد على من وصفهم بـ “المتآمرين والإرهابيين” لغايات التحشيد والتعبئة الشعبيّة، وهو ما أقلق الناخب التركي الذي لم يقتنع، كما يبدو، بهذه الثنائية.
عمق التغييرات المطروحة: تجاهل حزب العدالة والتنمية حساسية النخب التركية وشرائح شعبية واسعة، تجاه عمق التغييرات التي تحدثها التعديلات المطروحة في بنية الدولة وسماتها والنظام السياسي وعلاقته بالمجتمع؛ إذ بينت نتائج الاستفتاء قلقًا من تراجع النظام العلماني لمصلحة نظام رئاسي، يقوده رئيسٌ من حزب محافظ، يسعى إلى تحجيم دور البرلمان ونفوذه، والقطيعة مع عهد الجمهورية التركية الأولى، والانتقال إلى “الجمهورية الثانية”. لا يخلو هذا كله من إشاراتٍ إلى ميول ونزعات شخصية وسلطوية عند أردوغان في نظر معارضيه. وقد فاقمت النبرة التصعيدية لأردوغان ضد أحزاب المعارضة وقياداتها، واتهامها بضرب وحدة البلاد وتوفير الغطاء السياسيّ للمتآمرين على تركيا؛ الخوفَ من هذه النزعات.
تجاهل التيار الصامت: أدّى التقليل من أهمية الأصوات المعارضة أو ما يوصف بـ “التيار الصامت” داخل حزب العدالة والتنمية، والذي تعبر عنه شخصيات قيادية، بينها الرئيس التركي السابق عبد الله غول، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، ونائب رئيس الوزراء السابق بولنت أرينج؛ إلى توجيه رسائل معاكسة إلى جمهور الحزب وأنصاره، وقد تبدى هذا في تصويت ما بين 2 – 3% من قاعدة “العدالة والتنمية” ضد التعديلات الدستورية.
موقف الكرد والقوميين الأتراك: دفع حزب العدالة والتنمية، فيما يبدو، ثمن تصريحات شكري قرباتاه، أحد المستشارين القانونيين لأردوغان، وصاحب الدور الأبرز في صناعة مشروع النظام الرئاسي قبل أيام من الاستفتاء، عن ضرورة تعديل نظام الحكم الإداري لتمهيد الطريق أمام طرح نظام الولايات (النموذج الصيني). ومع أن هذه التصريحات كان لها أثرها في زيادة أصوات الكرد المؤيدين للتعديلات؛ قد أثارت غضب القوميين الأتراك، ودفعت أكثرهم إلى معارضة التعديلات، على الرغم من تأييد قيادة حزب الحركة القومية لها.
الفشل في استقطاب الشباب: على الرغم من أن التعديلات الدستورية تخفض سن الترشح من 25 إلى 18 عامًا، فإن حزب العدالة والتنمية لم يحقق إلا نجاحاتٍ محدودة في كسب أصوات فئات شابة جديدة تلتحق للمرة الأولى بالعملية الانتخابية، ويصل عددها إلى ما يقارب مليونَيْ مقترع.
استنتاجات أولية
على الرغم من تحقيق الرئيس أردوغان هدفه في تعديل الدستور، وإقامة نظام رئاسي يعطيه
“مثّل حجم المشاركة الشعبيّة الكبيرة مفاجأة؛ إذ وصلت نسبتها داخل تركيا إلى 85% من إجمالي 55.3 مليون ناخب” صلاحيات تنفيذية وإجرائية واسعة، فإن الفارق الضئيل بين نسب التأييد والرفض يعد مؤشرًا على انقسام اجتماعي، سيبقى قائمًا حتى عام 2019؛ موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، حيث يبدأ العمل بالنظام الرئاسي والتعديلات الجديدة. وكما هو معروف؛ تمثل الكتلة الانتخابية لأحزاب المعارضة 35% من إجماليّ الشعب التركي؛ حزب الشعب الجمهوري (25%) وحزب الشعوب الديمقراطي (10%)، لكنها استطاعت، في هذا الاستحقاق، حشد 48% من إجمالي عدد الأصوات، وهو ما يضع الحزب الحاكم وحليفه، حزب الحركة القوميّة، أمام واقع جديد، قد يؤدي إلى انزياحٍ في خيارات الناخبين وتفضيلاتهم، في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وبناء عليه؛ من الخطأ تلقّي حزب العدالة والتنمية نتائج الانتخابات على أنها دعم شعبي تمكّنه من إنفاذ التغيرات التي يريدها في الدولة والمجتمع على نحو منفرد، من دون تحقيق حدٍّ أدنى من الإجماع الشعبي أو التنسيق مع قوى المعارضة، ولا سيما التي عارضت الانقلاب العسكري مبدئيًا، ووقفت مع الحزب في مواجهته. تلك القوى المعارضة حصلت مع الاستفتاء على دعم شعبي قد يدفعها إلى تجاوز مسألة الاعتراض على تغيير شكل نظام الحكم إلى موجات احتجاج شعبية، ترفض قرارات الحكومة وأساليبها في الإدارة، مذكرةً بأحداث “غازي بارك” التي وقعت عام 2013، مستفيدة من النهج الصدامي للرئيس أردوغان وإعلاناته المتكرّرة عن عزمه إجراء استفتاءات حول قضايا إشكالية أخرى؛ مثل إعادة حكم الإعدام، وسحب طلب الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوربي، وكذلك المواقف الغربية والأوروبية التي لم تعد تحصر نقدها للحكومة التركية بالتعديلات الدستورية بمبرّر “التعارض مع التزاماتها بالمعايير الأوروبية”، بل راحت تنتقد سير عملية الاقتراع، وتصفها بأنها كانت بعيدةً من المعايير الدوليّة، كما جاء في تقرير بعثة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
خاتمة
يُعَدُّ الاستفتاء في التعديلات الدستوريّة حدثًا مصيريًا يتجاوز مسألة تحديد شكل النظام السياسي، رئاسيًا كان أم برلمانيًا، فكلاهما ممكن في الديمقراطيات. فالانقسام الذي أظهرته النتائج يبين أبعادًا أخرى، متعلقة بهويّة الدولة التركيّة، وطبيعة العلاقة بين قواها السياسية والاجتماعية، فضلاً عن تحالفاتها وعلاقاتها الخارجيّة. لذلك، ستغدو مُهِمَّةً مراقبةُ سياسات أردوغان والحكومة التركية خلال الفترة المقبلة، والطريقة التي ستردّ بها قوى المجتمع، بما فيها أحزاب المعارضة أيضًا، في ضوء الاستقطاب الشديد داخل المجتمع، والذي كشفت عنه، بجلاء، نتائج الاستفتاء.
العربي الجديد
دلالات التصويت بـ”نعم” على التعديلات الدستورية بتركيا وتداعياته
صوَّت الأتراك بـ”نعم” على مشروع التعديلات الدستورية، فاتحين الباب أما تغييرات في بنية الأحزاب وتحالفاتها، وعلاقات بلادهم الخارجية.
ملخص
أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا رسميًّا فوز معسكر “نَعَمْ” على التعديلات الدستورية، بما يزيد عن 51 بالمئة بقليل، أمام معسكر الرافضين للتعديلات بنسبة تزيد عن 48 بالمئة بقليل، وهي نتائج ليست نهائية.
ما كان مفاجئًا، أن الأغلبية الساحقة من أصوات حزب الحركة القومية، الذي ساندت قيادته وأغلبية كتلته البرلمانية حزمة التعديلات، قالت: لا؛ كما أن المدن الخمس الكبرى، بما ذلك إسطنبول وأنقرة وأزمير وأضنة وأنطاليا، صوَّتت جميعًا لصالح لا.
الواضح أن الصوت الكردي لعب دورًا بالغ الأهمية في تحقيق فوز أنصار “نعم”. بمعنى أن من قالوا: نعم للتعديلات في مدن الكثافة الكردية فاق بصورة ملموسة مجموع أصوات العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
في المجال الخارجي، لا يُتوقع أن تترك نتيجة الاستفتاء أثرًا مباشرًا على الملفات الإقليمية الساخنة، سيما في سوريا. كما أغلب القضايا الإقليمية.
مقدمة
كان الأحد، 16 أبريل/نيسان 2017، يومًا تاريخيًّا، صعبًا ومرهقًا، في مسيرة الجمهورية التركية، أشبه بيوم إعلان الجمهورية نفسها، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، على أنقاض السلطنة العثمانية. ذهب الأتراك بعشرات الملايين، ومن ساعات الصباح الأولى، في ثالث استفتاء تعقده حكومات العدالة والتنمية منذ توليها مقاليد البلاد في 2002، للتصويت على جملة من التعديلات الدستورية الجذرية، التي ستغير الطريقة التي تدار بها شؤون الدولة التركية وتحول نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي. وقد انتهى اليوم الطويل بإقرار التعديلات، وإن بفارق صغير.
في تعليقه على النتائج، قال الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي نجحت المعارضة في رسم صورة تربط التعديلات الدستورية به شخصيًّا: إن إقرار النظام الرئاسي يضع نهاية للجدل المستمر منذ مئتي عام حول مسألة الحكم. ولابد أنه قصد بذلك بداية اندلاع جدل الحكم في عهد التنظيمات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، الذي أسَّس للاضطراب السياسي الذي شاب العهد العثماني المتأخر ولأزمات الجمهورية المتكررة منذ 1923. ولكن المعارضين، الذين يقولون: إن الاستفتاء أظهر انقسام الرأي العام حول النظام الرئاسي أكثر من الإجماع حوله، يعتبرون مثل هذه النتائج لن تضع حدًّا لهذا الجدل، ولا يستبعدون خوض أول انتخابات رئاسية مقبلة على برنامج لإصلاح الإصلاحات المقرَّة.
كيف تُفهم نتائج استفتاء النظام الرئاسي في تركيا؟ ولماذا أثارت التعديلات الدستورية المقترحة كل هذه الجدل والمناخ الانقسامي؟ وما الآثار المتوقعة لإقرار التعديلات الدستورية، إجرائيًّا وسياسيًّا؟
الاستفتاء ونتائجه
ثمة 58 مليون مواطن تركي كان يحق لهم التصويت في الاستفتاء، 55 مليونًا منهم داخل البلاد وثلاثة ملايين خارجها؛ حيث تتواجد جاليات تركية معتبرة الحجم في دول، مثل: ألمانيا وهولندا والولايات المتحدة. طبقًا لأرقام اللجنة العليا للانتخابات، بلغ عدد المصوِّتين في الخارج ما يقارب المليون ونصف المليون، إضافة إلى ما يزيد عن 49 مليونًا أدلوا بأصواتهم في 174 ألف صندوق اقتراع داخل البلاد. بذلك، بلغت نسبة المصوتين 86 بالمئة من مجموع من يحق لهم التصويت، وهي نسبة عالية جدًّا، مقارنة بنسب المصوتين عادة في انتخابات الدول الغربية الديمقراطية، سواء الأوروبية منها أو الولايات المتحدة.
وبالرغم من أن اللجنة العليا للانتخابات أعلنت رسميًّا فوز معسكر “نعم”، إلا أن النتائج الرسمية لنسب المصوتين لن تُعرَف بصورة نهاية إلا بعد الانتهاء من الطعون خلال الأسبوعين التاليين للاستفتاء. ولذا، فإن النتائج المعلنة بعد الانتهاء من إحصاء الأصوات، والتي أعطت أنصار “نعم” ما يزيد عن 51 بالمئة بقليل، ومعسكر الرافضين للتعديلات ما يزيد عن 48 بقليل، ليست نهائية. ولكن ليس متوقعًا أن تتغير النتيجة بصورة ملموسة، سيما أن المصوتين بنعم أكبر نسبيًّا من المصوتين بلا.
وقد كشفت خارطة توزيع الأصوات عن نتائج متوقعة وتقليدية في بعض جوانبها، وأخرى مفاجئة خرجت عن المألوف في السلوك الانتخابي المعهود في الخمس عشرة سنة الماضية، بيد أنها تقدِّم التفسير الضروري لفوز معسكر نعم بفارق صغير.
على مستوى ما هو متوقع، أُقرَّت التعديلات الدستورية بأغلبية كبيرة في معظم ولايات الأناضول والبحر الأسود، بينما حقق معسكر الرفض نتائج ملموسة في الولايات الغربية على ساحل المتوسط وحوضي بحري مرمرة وإيجة، التي تعتبر مناطق نفوذ تقليدية للمعارضة.
ما كان مفاجئًا، أن الأغلبية الساحقة من أصوات حزب الحركة القومية، الذي ساندت قيادته وأغلبية كتلته البرلمانية حزمة التعديلات، قالت: لا؛ بمعنى أن قيادة الحزب لم تستطع إقناع قاعدة الحزب الشعبية بمساندة النظام الرئاسي. كما أن المدن الخمس الكبرى، بما ذلك إسطنبول وأنقرة وأزمير وأضنة وأنطاليا، صوَّتت جميعًا لصالح لا. ولكن، وباستثناء أزمير، قلعة حزب الشعب الجمهوري المعارض، حيث حصل أنصار “لا” على 68 بالمئة من الأصوات، فإن الفارق بين المعسكرين كان ضئيلًا في كافة المدن الأخرى. أضنة، بالطبع، هي مدينة قومية التوجه، ولأن أغلبية أنصار حزب الحركة القومية صوَّت بلا، فإن ذهابها لمعسكر الرافضين ليس مستغربًا؛ ولكن إسطنبول وأنقرة تصوِّتان عادة بأغلبية مريحة لصالح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، ولابد أن يطرح الفشل في الحصول على دعم المدينتين للتعديلات أسئلة مقلقة في قيادة العدالة والتنمية وحكومته. الحقيقة، أنه بين المدن الثلاثين، التي توصف بلدياتها بالكبيرة (بيوك شهر؛ والتي يزيد عدد سكانها على 700 ألف نسمة)، صوَّتت الأغلبية في 17 مدينة لصالح “لا”.
ما يبدو واضحًا، هو أن نتيجة الاستفتاء جاءت أقرب إلى نتائج الانتخابات الرئاسية في صيف 2014، التي فاز فيها أردوغان بما يقارب 52 بالمئة من الأصوات، في مواجهة منافس اصطفت خلفه أحزاب المعارضة، مع فوارق مهمة وذات دلالة في نمط توزيع الأصوات. لم يضف دعم حزب الحركة القومية شيئًا لأصوات معسكر “نعم”، بالتأكيد، ولكن قطاعًا ملموسًا، أيضًا، من سكان المدن الكبرى، من أبناء الطبقة الوسطى، الحاصلين على تعليم جيد، من أنصار حزب العدالة والتنمية، اختار أن يقول: لا. السبب الرئيس خلف موقف هؤلاء هو عدم اقتناعهم بالمبررات التي قدمها الداعون لضرورة التعديلات الدستورية. فكيف، إذن، عوَّض أنصار التعديلات فقدان جزء من قاعدتهم التقليدية، والفوز في الاستفتاء؟
الواضح أن الصوت الكردي لعب دورًا بالغ الأهمية في تحقيق فوز أنصار “نعم”. فاز معسكر “لا” في أغلب مدن الكثافة السكانية الكردية، بالتأكيد، ولكن نسبة الأصوات التي قالت: “لا” في هذه المدن كانت أقل بكثير من الأصوات التي ناصرت المعارضة القومية الكردية في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 البرلمانية. بمعنى أن من قالوا: “نعم” للتعديلات في مدن الكثافة الكردية فاق بصورة ملموسة مجموع أصوات العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. مثلًا، بلغ مجموع أصوات العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في الانتخابات البرلمانية بمدينة هكاري 17 بالمئة من الأصوات، بينما أعطى 32 بالمئة من الناخبين في هذه الولاية أصواتهم لصالح “نعم” في الاستفتاء، وكذلك كان الأمر في ديار بكر (22 و32 بالمئة)، وشيرناك (16 و32 بالمئة)، وموش (35 و50 بالمئة)، وآغري (27 و43). أهمية هذه النتائج أنها تكشف عن فقدان ثقة الرأي العام الكردي في حزب العمال الكردستاني وعودته إلى سياسة الحرب على الدولة والمجتمع في العامين الماضيين، وعن نجاح حكومة العدالة والتنمية في كسب ثقة قطاعات أكبر من الرأي العام الكردي في جنوب شرقي البلاد.
ليس ثمة شك في أن المعارضة نجحت في إقناع قطاع كبير من الأتراك بأن النظام الرئاسي ليس مشروع الحكومة ولا حتى حزب العدالة والتنمية، بل مشروع أردوغان الشخصي. والمؤكد، من جهة أخرى، أن قيادة حزب العدالة والتنمية وحكومته، كما الرئيس أردوغان، خاضوا الحملة الانتخابية بهدف إقرار هذه التعديلات بنسبة لا تقل عن 55 بالمئة من الأصوات. في النهاية، أُقرَّت التعديلات، بالفعل، ولكنها أقرت بفارق صغير، بحيث يمكن القول: إن نتائج الاستفتاء مثَّلت رسالة من وجهين: لم يفقد الشعب ثقته بالرئيس، وقد أعطاه الموافقة على مشروع الانتقال إلى النظام الرئاسي، ولكن هذه الموافقة رافقها قدر قليل من مشاعر السعادة.
انقسام حول التعديلات
دستوريًّا، حُكمت تركيا بالنظام البرلماني منذ ولادة الجمهورية في 1923. ولكن كلًّا من رئيسي الجمهورية الأولين، مصطفى كمال وعصمت إينونو، تمتع بسلطات معنوية هائلة، وفَّرت لهما تأثيرًا كبيرًا على رؤساء حكوماتهما وسياسات تلك الحكومات. ولأن البلاد حُكمت من قبل حزب واحد، حزب الشعب الجمهوري، حتى 1950، لم يُعانِ مصطفى كمال ولا إينونو من مشاكل النظام البرلماني. ولكن، ومنذ بداية التعددية السياسية في 1950، بدأت معضلات النظام البرلماني في البروز. تركيا، كما كل دول المشرق، تعيش حالة انقسام سياسي، وفقدان الإجماع على مسائل الأمم الكبرى؛ وقد أدى النظام البرلماني منذ بداية التعددية الحزبية إلى قيام حكومات ائتلافية ضعيفة، كانت سببًا في تعطيل ملموس لعجلة التنمية، وإلى سلسلة من الانقلابات العسكرية المباشرة وغير المباشرة.
كل رؤساء الحكومات الكبار منذ 1950 طالب بالتحول إلى النظام الرئاسي، بمن في ذلك: مندريس، وديميريل، وأوزال، وأربكان. أردوغان ليس أول من قال بضرورة الانتقال من البرلماني إلى الرئاسي. وليس ثمة شك في أن أحمد داود أوغلو، الذي خلف أردوغان في رئاسة الحكومة وقيادة حزب العدالة والتنمية في الفترة بين صيف 2014 وربيع 2016، بذل جهودًا كبيرة لإقناع أحزاب المعارضة الرئيسة بمساندة مشروع وضع دستور جديد للبلاد. ولكن داود أوغلو لم يستطع الحصول على دعم حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية لدستور يقوم على النظام الرئاسي؛ وبالرغم من الأغلبية التي تمتع بها حزب العدالة والتنمية في البرلمان، لم تكن هذه الأغلبية كافية لإقرار دستور جديد في البرلمان، ولا حتى لحصوله على أصوات برلمانية كافية لطرحه على الاستفتاء الشعبي، ولكن المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، ولَّدت تغييرًا كبيرًا في المناخ السياسي.
كانت المحاولة الانقلابية مؤشرًا واضحًا على أن الدولة التركية لم تزل عرضة لمخاطر كبرى؛ ولأن مصير الدولة يحتل الموقع المركزي في عقل حزب الحركة القومية، فسرعان ما انتقلت قيادة الحزب من معسكر الرافضين للنظام الرئاسي إلى الـتأييد. مهَّد انضمام حزب الحركة للقومية إلى حزب العدالة والتنمية في الدعوة للنظام الرئاسي الطريق لكتابة مسودة التعديلات الدستورية، المكونة من 18 مادة، ومن ثم إلى حصول هذه التعديلات على ما يكفي من الأصوات في البرلمان لطرحها على الاستفتاء الشعبي.
بيد أن إقرار التعديلات في البرلمان للاستفتاء لم يضع نهاية للنقاش الذي اندلع حولها. أخذ حزب الشعب الجمهوري موقفًا معارضًا لفكرة النظام الرئاسي من أصلها، وكذلك فعل حزب الشعوب الديمقراطي، ذو التوجه القومي الكردي والمرتبط بحزب العمال الكردستاني المصنف دوليًّا بالإرهابي. ولكن الجدل حول التعديلات كان أوسع بكثير من قاعدتي الحزبين وأنصارهم في دوائر السياسة والثقافة والإعلام. وربما كان وجود شكوك حول التعديلات داخل العدالة والتنمية نفسه، وفي صفوف حزب الحركة القومية، الأكثر مدعاة لقلق معسكر تأييد التعديلات.
بخلاف موقفي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، كانت الأغلبية العظمى في العدالة والتنمية، وربما حتى في صفوف قياديي الحركة القومية وبرلمانييه، ترى ضرورة الانتقال للنظام الرئاسي. ولذا، فإن الشكوك حول التعديلات، في صفوف الحزبين، تعلقت ببعض مواد حزمة التعديلات، وليس كلها، سيما تلك التي يقول منتقدوها: إنها تعطي الرئيس صلاحيات كبيرة، تُضعف من صلاحيات البرلمان، وقد تؤدي إلى إضعاف نظام التعددية الحزبية في الساحة السياسية التركية؛ بمعنى إضعاف الحيوية السياسية في البلاد. كان غياب الحماس الكبير للتعديلات في صفوف حزب العدالة والتنمية، وبروز مجموعة من القيادات النشطة في حزب الحركة القومية، عارضت رئيس الحزب ودعت قواعد الحزب إلى التصويت ضد التعديلات، إضافة إلى فقدان الحملة الانتخابية المناصرة للتعديلات للمهنية والحنكة السياسية، التي طالما تميزت بها حملات العدالة والتنمية الانتخابية، أسبابًا في فتور الاستجابة الشعبية لحملة التصويت بنعم. وبدا أن الرئيس، أردوغان، ورئيس الحكومة، يلدريم، اللذين تصدَّرا حملة “نعم”، لم يستطيعا تقديم المسوغات الكافية للانتقال للنظام الرئاسي، أو طرح الخطاب المقنع لجدواه وأثره الإيجابي على استقرار البلاد ودفع عجلة نهضتها إلى الأمام.
سؤال الشرعية
خلال ساعات قليلة من إعلان النتائج الأولية، تصاعدت أصوات في حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، شكَّكت في انتصار معسكر المؤيدين. وأكد مسؤولون في الحزبين على أنهما سيطالبان بإعادة فرز الأصوات في ما يقارب 60 بالمئة من صناديق الاقتراع، موزعة على عدد واسع من مراكز الاقتراع. ولكن، وحتى إن قدم الحزبان أسبابًا مقنعة للجنة الانتخابات العليا، تسوغ إعادة الفرز في هذه الصناديق، فالأرجح أن النتيجة المعلنة، مساء الأحد 16 أبريل/نيسان، لن تتغير بصورة جوهرية. إن لم يكن الفارق بين نسب الأصوات التي ذهبت لكل من المعسكرين كبيرًا، فإن فارق الأصوات، الذي يرجَّح أنه يفوق المليون وثلث المليون صوتًا، كبير بالتأكيد.
هذا، بالطبع، لم يمنع التشكيك في شرعية إقرار التعديلات؛ إذ إن تعديلات دستورية تطول نظام الحكم نفسه، تحتاج أغلبية أكبر، في منظور المشككين، من تلك التي حصل عليها أنصار التعديلات. في المقابل، يجيب أنصار التعديلات بأن الجميع يعرف أن البلاد منقسمة حول القضايا السياسية الكبرى، وأن نتيجة الاستفتاء لا تختلف عن انتخابات رئاسة الجمهورية في 2014 وعن توزيع الأصوات بين الحزب الحاكم ومجمل أصوات أحزاب المعارضة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 البرلمانية. فوق ذلك، فإن استفتاء 1987 حول الحياة السياسية، لم يقر عودة سياسيي ما قبل انقلاب 1980 إلا بما يزيد عن الخمسين بالمئة من الأصوات بنقطة عشرية واحدة. وفي استفتاء 2010 على حزمة التعديلات الدستورية الكبيرة، التي تقدمت بها حكومة العدالة والتنمية، والذي دعمته قطاعات واسعة من الشعب التركي، بما في ذلك الدوائر الليبرالية والعلمانية، لم تقر التعديلات بأكثر من 58 بالمئة من الأصوات.
هذه هي طبيعة الحياة السياسية في تركيا الجمهورية، يؤكد أنصار التعديلات، ومهما كان حجم الفارق بين الجانبين، فقد قال الشعب كلمته. ويشير هؤلاء إلى الاستفتاء البريطاني في صيف 2016، الخاص بعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والذي انتهى إلى إقرار خيار الخروج من الاتحاد، أكبر قرار في تاريخ بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية، بنسبة أصوات لا تفوق تلك التي حصل عليها أنصار النظام الرئاسي في تركيا. إضافة إلى ذلك، فإن نسبة من أدلوا بأصواتهم، من مجموع من يحق لهم التصويت، في الاستفتاء التركي، تفوق بصورة هائلة نسبة من صوَّت في الاستفتاء البريطاني.
في النهاية، ومهما كان صدى هذا الجدل، فالمؤكد أن الطريقة التي ستتم بها إدارة المرحلة الانتقالية سيكون لها الأثر الأكبر في التهدئة أو تفاقم حالة الاستقطاب السياسي في البلاد. طبقًا للتعديلات الدستورية المقرَّة، لن تكتمل عملية الانتقال إلى النظام الرئاسي إلا بعد عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية معًا، وفي يوم واحد، في خريف 2019. وهناك بالتالي عامان كاملان ليُظهر الرئيس وقيادة وحكومة العدالة والتنمية حُسن النية والمقاربة التوافقية تجاه أولئك الذي صوَّتوا بلا، بما في ذلك ضمن دوائر التأييد التقليدية لحزب العدالة والتنمية.
الطريق إلى النظام الجديد
ما إن تعلن اللجنة العليا للانتخابات النتيجة الرسمية النهائية للاستفتاء، من المتوقع خلال أسبوعين، حتى تبدأ عملية تدريجية لانتقال البلاد إلى النظام الرئاسي. بعض مواد حزمة التعديلات الدستورية، يمكن الشروع في تطبيقها مباشرة بعد إعلان النتيجة الرسمية للاستفتاء، مثل عودة الرئيس لاكتساب حقوقه في عضوية حزب سياسي ما، تمامًا كما كان عليه الأمر في تركيا قبل دستور 1961، الذي وضعه انقلابيو مايو/أيار 1960. ولكن اكتمال عملية الانتقال للنظام الرئاسي لن تصل محطتها الأخيرة إلا بعد إجراء انتخابات خريف 2019 المتزامنة؛ حيث سيختفي منصب رئيس الحكومة وتنتقل صلاحياته التنفيذية إلى رئيس الجمهورية.
هذا على المستوى الإجرائي البحت للعملية الانتقالية، ولكن المسألة الأهم تتعلق بالمستوى السياسي، ليس فقط ما يتصل منه بخيارات الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ولكن أيضًا بمستقبل حزبي الحركة القومية والشعب الجمهوري. كشف الاستفتاء عن فشل زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، في قيادة قاعدة الحزب الشعبية لتأييد التعديلات الدستورية، وعن التأثير الكبير للقيادات المناهضة له، وهذا ما سيعيد الحياة إلى الحراك الساعي إلى الإطاحة ببهتشلي. أما حزب الشعب الجمهوري، وبالرغم من تصريحات قياداته المشكِّكة بنتائج الاستفتاء، فليس من الخافي على قطاع واسع من كوادر الحزب أن زعيمه، كمال كاليشدار أوغلو، قد فشل مرة أخرى في مواجهة حزب العدالة والتنمية، وربما حان الوقت لذهابه.
كما أن هناك أسئلة لا تقل أهمية حول مستقبل حزب العدالة والتنمية، بما في ذلك احتمالات استقالة رئيس الحكومة ورئيس الحزب يلدريم، الذي لا يبدو سعيدًا في علاقته ببعض وزرائه المقربين من أردوغان، ولابد أنه يشعر الآن بأنه أدى مهمته ولم يعد مطالبًا بالبقاء في منصبه. وعلى الحزب، إضافة إلى ذلك، أن يبدأ البحث عن الأسباب، سواء السياسية أو تلك المتعلقة بطريقة إدارة الحملة الانتخابية، التي أدت إلى فشله في تحقيق نسبة الخمسة والخمسين من التأييد الشعبي للتعديلات الدستورية، سيما خسارة تأييد قلاع تقليدية للحزب، مثل مناطق أيوب وفاتح وزيتونبورنو في إسطنبول الكبرى. لقد بدا الحزب، سيما بعد إطاحة حكومة داود أوغلو واستبعاد المجموعة الشابة التي أحاطت به من المواقع القيادية، وكأنه فَقَدَ الكثير من ديناميته وللرؤية المقنعة للمستقبل. فهل سيعمل أردوغان خلال العامين المقبلين على احتضان هؤلاء مرة أخرى، وضخِّ دماء جديدة إلى العدالة والتنمية، خاصة بعد عودته إلى صفوف الحزب وقيادته. لتحقيق فوز برلماني ورئاسي معًا في 2019، يحتاج أردوغان، كما العدالة والتنمية، ليس لإعادة بناء الصورة والتصور، وحسب، بل ولابتكار رؤية وخطاب جديدين، أيضًا.
على المستوى القومي، وبالرغم من دعم حزب الحركة القومية للتعديلات والنظام الرئاسي، فإن فشل الحزب في إضافة كتلة شعبية ملموسة لمعسكر المؤيدين في الاستفتاء يعني أن العدالة والتنمية ليس مدينًا بالكثير لبهتشلي وحزبه. ما كان متوقعًا قبل الاستفتاء أن التقارب بين الحزبين سيحد من قدرة العدالة والتنمية على المناورة فيما يتعلق بالمسألة الكردية. الآن، يفتح التحرر النسبي من أعباء العلاقة مع حزب الحركة القومية مجالًا أكبر أمام العدالة والتنمية للذهاب نحو مقاربة مختلفة للمسألة الكردية، على الأقل في المدى المتوسط.
في المجال الخارجي، لا يُتوقع أن تترك نتيجة الاستفتاء أثرًا مباشرًا على الملفات الإقليمية الساخنة، سيما في سوريا. كما أغلب القضايا الإقليمية، لا تعتبر السياسة التركية تجاه الأزمة السورية مشروطة بطبيعة نظام الحكم في البلاد، بل بطبيعة التوازنات في الساحة السورية، وطبيعة العلاقات التركية مع كل من روسيا والولايات المتحدة.
من جهة أخرى، ستلعب ردود فعل العواصم الأوروبية على نتائج الاستفتاء دورًا مباشرًا في مفاقمة التوتر الراهن في العلاقات بين الجانبين أو في تهدئته. وفي ضوء الانتقادات الأوروبية المبكرة للمناخ الذي أُجري فيه الاستفتاء، لا يبدو أن تطبيعًا قريبًا للعلاقات التركية-الأوروبية يلوح في الأفق. أما إن ذهبت تركيا نحو خيار تبني حكم الإعدام، كما وعد الرئيس في أكثر من مناسبة خلال الحملة الانتخابية، فسيرد الاتحاد الأوربي بالتأكيد بتجميد طلب العضوية التركي رسميًّا، ويبدأ البحث عن قواعد مختلفة للعلاقة بين تركيا والاتحاد. ما قد يشكِّل عزاء للرئيس التركي هو اتصال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، به مساء 17 أبريل/نيسان، للتهنئة بإجراء الاستفتاء.
جمهورية أتاتورك وحجاب أردوغان/ صبحي حديدي
الإنصاف يقتضي الإقرار، في المقام الأوّل، بأنّ الاستفتاء التركي خضع منذ البدء لسيرورة ديمقراطية سليمة، وفي ظلها انتهى: البرلمان صوّت على طرح التعديلات على الاستفتاء العامّ، والشعب صوّت لصالحها، ولا يعيب النتيجة ـ بالمعنى الدستوري والقانوني الصرف، أساساً ـ أنّ الفارق كان ضئيلاً، ما دامت لائحة الاستفتاء الداخلية تقرّ الأغلبية البسيطة. من السخف، في المقابل، القول بأنّ ضآلة الفارق تطعن في صدقية النتيجة حين يتصل الأمر بتعديل الدستور، فالاستفتاء استفتاء في نهاية المطاف، وقد حدث مراراً أنّ ديمقراطيات غربية عريقة عدّلت دساتيرها (أو اتخذت قرارات مصيرية كبرى، كما في نموذج انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، بموجب أغلبية لا تكاد تُذكر.
ليس أقلّ إجحافاً بحقّ الديمقراطية التركية المعاصرة، وأياً كانت مظانّ المرء حولها، الافتراض بأنّ الشعب التركي ملتفّ حول التعديلات؛ أو أنّ الشارع ليس منقسماً حولها، أفقياً وشاقولياً في الواقع. نسبة الـ»نعم»، مقابل نسبة الـ»لا» تؤكد هذا، أوّلاً؛ ثمّ تشدد عليه حقائق أخرى عابرة للسياسة اليومية، أو حتى اصطفافات الحياة الحزبية التركية الراهنة، لأنها ببساطة شؤون إيديولوجية تخصّ الملفّ المركزي الأكبر الذي شغل ويشغل تركيا منذ 90 سنة ونيف: العقيدة الكمالية، ما يتوجب أن يبقى منها، وما يتوجب أن يُعدّل، أو حتى يُلغى نهائياً؛ اتكاءً على سنّة الحياة، في أقلّ تقدير!
ومن حيث المنطق، أو على الأقل استناداً إلى وقائع التاريخ، ليست الحكومة التركية الراهنة هي الصيغة السياسية أو الحزبية النموذجية التي حلم بها مصطفى كمال أتاتورك حين أعلن الجمهورية، وأرادها دولة علمانية أكثر قرباً من الغرب، على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وكان أتاتورك قد فصل الدولة عن الدين، وأقام نظاماً تعليمياً علمانياً، ووضع النشاطات الدينية تحت المراقبة، واعتمد الحروف اللاتينية، ومنح الحقوق المدنية للنساء، بل أدخل تغييرات على طريقة الأتراك في اللباس.
إلا أن الكمالية خضعت، وتخضع، لمراجعات جذرية لا تبادر إليها القوى الإسلامية، مثل «العدالة والتنمية»، فحسب؛ بل القوى الليبرالية، واليسارية، وشرائح واسعة من المفكرين والمثقفين الأتراك المستقلين. هنالك تأكيد على طابع الكمالية الشمولي، وقوميتها المفرطة، وتناقضها مع توجهات العصر عموماً، ودمقرطة البلاد خصوصاً. والمرء يتذكر أنّ الرئيس التركي الأسبق أحمد نجدت سيزر كان، في مناسبة العيد الثمانين للجمهورية، قد رفض توجيه الدعوة إلى عدد من زوجات نوّاب «العدالة والتنمية» الحاكم، وبينهن زوجة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، لأنهنّ محجبات. لم يكن سيزار منتخباً عبر الاقتراع المباشر، في حينه، ومع ذلك منح نفسه صلاحية بروتوكولية قصوى؛ لعلّ الرئيس الحالي، المنتخَب شعبياً، كان سيتردد في اللجوء إليها.
الجانب السوسيولوجي، بين الأرياف والمدن، جدير بتأمّل لا يقلّ جدّية؛ إذْ أنّ المدن الثلاث الأكبر في تركيا، إسطنبول وأنقرة وإزمير، صوتت ضدّ التعديلات الدستورية بمعدلات عالية، مقابل تصويت الأرياف والأطراف الهامشية لصالحها. ثمة، هنا، ما يتوجب أن يثير قلق الحزب الحاكم، وربما معظم الأحزاب الرئيسية: حول قراءة كلّ من الريف والمدينة لمفهوم السلطة المركزية؛ وحول الوشائج العميقة، والخافية أحياناً، بين الشرط الطبقي والديمغرافي والجغرافي، وبين العقيدة وفكرة الجمهورية ذاتها.
ولا ريب، بالطبع، في أنّ التعديلات الدستورية الأخيرة تمنح أردوغان صلاحيات إضافية نوعية وطاغية؛ ولكنها، في آخر الأمر، تنطبق على شخص رئيس الجمهورية التركية، في ذاته، أياً كان، وأياً كانت عقيدته. وهي، بذلك، تطوي صفحة الشدّ والجذب الماضية، بين جمهورية أتاتورك وحجاب السيدة أردوغان مثلاً؛ لصالح أنماط أخرى من المجابهات والانقسامات والنزاعات، في المستقبل.
شريطة أن تظلّ تركيا بمأمن من الانقلاب العسكري، وأن تبقى الديمقراطية التركية… ديمقراطية!7
القدس العربي
أردوغان حيال الانقسام الكبير وسؤال الديموقراطية/ طارق عزيزة
وفقاً لنتائج الاستفتاء التركي الرسمية المعلنة، نجح الرئيس رجب طيب أردودغان في تمرير التعديلات الدستورية التي ستخوّله مزيداً من الصلاحيات عبر تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي، وهو الحلم الذي راوده سنوات، فسخّر كل الإمكانيات المتاحة أمامه لتحقيقه.
النتائج تقول أيضاً إنّ أردوغان نجح في شقّ المجتمع التركي وتهديد استقراره. ذلك أنّه بعيداً من التشكيك في نزاهة الاستفتاء، وشبهة التلاعب والتزوير التي دفعت بالمعارضة إلى تقديم الطعون والمطالبة بإعادة فرز الأصوات في عدد كبير من الدوائر، وبصرف النظر عن الظروف الملتبسة التي جرت في ظلّها «الحملة الانتخابية»، بعد كل ما شهدته البلاد من انتهاكات واسعة للحريات، واعتقالات بالجملة للمعارضين بذريعة محاولة الانقلاب الفاشلة، وهي كلها مسائل تستوجب النظر عند مناقشة النتيجة، بعيداً من ذلك كله، وعلى افتراض أنّ الاستفتاء سليم مئة في المئة، فإنّ فارق الفوز الطفيف يؤكّد أنّ المواطنين الأتراك منقسمون بين مؤيّد للنظام الجديد ورافض له.
أصحاب «لا» لم يسلّموا بهزيمتهم، ولا يبدو أنّهم سيرضخون بسهولة للأمر الواقع. فبعدما رفضت اللجنة العليا للانتخابات الطعون التي تقدّمت بها المعارضة لإلغاء نتائج الاستفتاء، من دون أن تكلّف نفسها عناء النظر الجدّي فيها، على رغم صدورها عن أحزاب ذات شعبية واسعة ولها كتل وازنة في البرلمان، عبّر معارضون عن نيّتهم الاحتكام إلى المحكمة الدستورية التركية، ثم إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، إذا اقتضى الأمر، ولم يستبعد آخرون احتمال النزول إلى الشارع، علماً أنّ وزير العدل التركي أعلن أن «المحكمة الدستورية سترفض أيّ طعن تقدّمه المعارضة في نتائج الاستفتاء».
هذا يعني أنّ حالة «الاستقرار» الاجتماعي والسياسي في البلاد وانعكاسات ذلك الاقتصادية، مرشّحة لمواجهة امتحان ليس من السهل توقّع تجلّياته على الأرض، فالأمر لا يتعلّق بقانون إجرائي ما أو تعديل بسيط للدستور وإنما يتناول آلية توزيع وممارسة السلطة في الدولة عبر تغيير شكل ومضمون نظامها السياسي برمّته.
وإذا كان الاستفتاء قد «حسم الجدل في شأن شكل نظام الحكم في تركيا»، وفق ما رأى بعضهم، فإنّه سيعيد الجدل حول حقيقة علاقة الأحزاب ذات الخلفية الأيديولوجية الإسلامية بالديموقراطية، لا سيما أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يعدّ ذروة ما توصّلت إليه تجربة «الإسلام السياسي» في المنطقة حتى اللحظة، وهو المثال المحتذى لكثيرٍ من الأحزاب والحركات الإسلامية.
سيقول بعضهم لماذا التحامل على أردوغان وحزبه، أليس هناك دول ديموقراطية تقوم على النظام الرئاسي؟ الجواب نعم، هناك بالفعل ديموقراطيات عريقة تبنّت النظام الرئاسي. لكن من الأفضل لهؤلاء مقارنة نظام أردوغان الرئاسي المقبل والصلاحيات الاستثنائية التي سيتمتع بها بسواه من الأنظمة الرئاسية الديموقراطية في العالم، وما تتضمنه من التزام تامّ بمبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها، فلا يمكن الرئيس أن يتجاوز السلطة التشريعية، ولا سلطة له على القضاء وهكذا. هاكم النموذج الأميركي، وهو النظام الرئاسي الأبرز في العالم، يقدّم مثالاً حيّاً على ذلك، حيث تتمتع السلطة القضائية باستقلالية تجعلها ندّاً للرئيس لا تابعاً له على نحو ما تفضي إليه التعديلات الأردوغانية.
وعودةً إلى افتراض ما جرى غاية في النزاهة، فإن الانقسام التركيّ المستجد يشكّل فرصة لفتح باب النقاش حول الأدوات الإجرائية في الديموقراطية نفسها وما قد يترتّب عليها، لاسيما «صندوق الاقتراع» التي يكاد الإسلاميون لا يرون في الديموقراطية سواه فيختزلونها به. ماذا لو طرح حزب ما أو زعيم كاريزميّ النظامَ الديموقراطي نفسه على التصويت، وصوّت الناخبون «بديموقراطية» على إلغائه، فهل يجب القبول بذلك بدعوى «احترام رغبة الغالبية»، أم أنّ الأجدى تحصين المجتمع من انحرافات استبدادية كهذه بإقرار مبادئ فوق دستورية غير قابلة للمساس. في مثال آخر، كيف للنتائج الصندوقية أن تعبّر في شكل عادل عن الإرادة الشعبية في القضايا الكبرى، عندما تتيح لغالبية النصف + واحد البتّ فيها، في حين أن حسمها يفترض أن يحتاج إلى ما يشبه الإجماع الوطني.
في مثال الاستفتاء التركي الأخير، «قرّر» نصف الشعب تغيير نموذج الحكم إلى آخر يرفضه النصف الثاني من الشعب. من المفارقات هنا أن الدستور التركي الحالي اشترط لعزل رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى، موافقة غالبية ثلاثة أرباع عدد أعضاء الجمعية الوطنية (المادة 105)، فهل يستقيم أن يحتاج بتّ عزل الرئيس نسبة 75 في المئة من النواب، بينما تكفي نسبة تزيد قليلاً عن النصف في الاستفتاء لتغيير نظام الحكم ومنح الرئيس صلاحيات شبه مطلقة.
سيكون من المفيد للمحتفين بنجاح «نعم» تأمّل الشبه الكبير بين حجم الصلاحيات الهائل في النظام الرئاسي بطبعته الأردوغانية والنسخة الأسدية المعمول بها في سورية منذ عهد الأسد الأب، حيث يهيمن «الرئيس» على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقاً لأحكام الدستور. فإذا أضيف إلى المشهد نزوع أردوغان السلطوي الذي كشفت عنه ممارساته وخطاباته، فضلاّ عن الهزّات الكبرى التي أصابت الديموقراطية التركيّة في عهده، لا سيما بعد المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي أودت تداعياتها بالكثير من مكتسبات الأتراك على صعيد الحريات العامة وحقوق الإنسان، وقد قيل في ذلك الكثير، فلن يكون من الصعب توقّع أيّ مستقبل ينتظر الديموقراطية في تركيا.
الحياة
الاستفتاء التركي ومصير الأسد/ سميرة المسالمة
اختار المقترعون الأتراك تعديل دستورهم وفق القاعدة المعمول بها “أن الشعب سيد مصيره”، وهي العبارة الشائعة اليوم في الحديث عن مصير رئيس النظام السوري، وهي عبارة صحيحة قانونياً من حيث المبدأ، لكنها من الناحية العملية، أي عندما يتعلق الأمر بواقع السوريين شعباً، تبدو كمن يشعل النار في قلب الماء، وذلك لأسباب امتلكها الشعب التركي الجار لسورية، بينما حرم منها السوريون.
يتوفّر في تركيا الاستقرار والأمان والدستور الضامن للحق في التصويت الحرّ، والمشاركة السياسية، وحرية الرأي، والأساس لذلك كله التمتّع بمكانة المواطنة، سواء كان الحديث عن موالين للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أو معارضين له، وسواء كانت هذه التعديلات التي تم الاستفتاء عليها تزيد من جرعة الديمقراطية أو تحاصرها وتجعلها بيد الرجل الأوحد.
ولعل ذلك الأمر هو الذي يغيب، على ما يبدو، عن أذهان من يتحدّث عن اختيار الشعب السوري مصير رئيسه، وهو المسؤول عن حربٍ دامية ومدمرة يشنّها على شعبه، منذ ستة أعوام، أي منذ انطلاقة الثورة السورية التي نادت بالحرية والكرامة للمواطنين، وإبعاد أذرع الأمن عن حياتهم الشخصية، في أصغر تفاصيل تلك الحياة، حيث الاختيار مقرونٌ بوجود حقوق المواطنة، واعتراف الحاكم بتداول السلطة، وأن السيادة هي للشعب، أي لمجموع المواطنين الأحرار والمتساوين، وليس لمجرد فردٍ مهما كان منصبه.
من جانب آخر، لم يكن فوز الحزب التركي الحاكم في معركته الاستفتائية بالشكل الذي تمناه، حيث حجبت المدن الأهم والكبرى موافقتها على التعديلات، لكن في المحصلة النهائية حصل حزب العدالة والتنمية على فوزٍ أقرب إلى طعم الخسارة، إذ عارض التعديلات نحو نصف المصوّتين، ما يضع هذا الحزب أمام مسؤوليات كبيرة، تستلزم منه بذل أقصى الجهود، للعمل من أجل ألا تكون تلك التعديلات كأنها جدار فصل، يقسّم المجتمع التركي قومياً أو مصالحياً، إضافة إلى ما هو موجود من انقسامات أيديولوجية أو سياسية مستوعبة تحت عباءة الموالاة والمعارضة.
فما الذي يجمع بين الشعبين، السوري والتركي، ليكونا المقرّرين لمصيريهما، هذا هو السؤال الذي لا يستطيع الإجابة عليه النظام وداعماه (روسيا وإيران)، ولا حتى “أصدقاء الشعب السوري” الذين يتعاملون مع تلك العبارة على أساس أن الشعب السوري يمكنه ممارسة حق التصويت، في ظل القصف والتدمير والاعتقال والقتل والتهجير والتغيير الديمغرافي، ما يستوجب، قبل ذلك، تأمين مستلزمات التصويت. وبديهي أن أساس هذه المستلزمات حقوق المواطنة، وفي الحرية والمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة، غير متجاوزين في ذلك كله حق السوريين بالعدالة الانتقالية التي تحاول بعض الدول تغييبها، والقفز عنها، لتمكين المسؤولين عن كل الجرائم من العودة إلى كرسي الحكم من نافذة الحل السياسي، في جنيف التي تتوالى أرقامها جولة بعد أخرى.
لا تختلف طروحات كل من الطرفين النظام والمعارضة، في كل واحدةٍ من جولات جنيف، لكنها، في الآن نفسه، لا تتطوّر، لتصبح أكثر قابليةً لإنتاج الحل “السحري” الذي يحقق الانتقال السياسي، وينهي الإرهاب، ويحدّد معالم الدستور، والانتخابات لسورية، ما بعد الصراع الذي لم يعد صراعاً بين السلطة والمعارضة، فقط، كي يحتكم السوريون إلى صناديق اقتراع، كما حصل في تركيا، قبل أيام، لإنتاج سورية الجديدة، سورية التي أضحت ممزقة اجتماعياً ومدمرة عمرانياً ومبعثرة سياسياً وتبعيةً وارتهاناً.
من هنا، تتحمّل الأطراف السورية المعارضة المدعوّة إلى جنيف، بكل أطيافها، المسؤولية المباشرة عن بلورة مشروع وطني، يعيد إلى السوريين حقّهم المشروع في إبداء رأيهم بشكل سورية التي يريدون الذهاب إليها، بعد أن تكتمل المحاصصات الدولية والإقليمية، أو تعزّز حقوقهم في هذه المحاصصات، بدل أن تزيدها تهميشاً وتهشيماً. ونقول لهذه الأطراف: اذهبوا جميعا إلى التفاصيل السورية التي لن يعطي لها بالاً المتقاسمون على النفوذ فيها، وهي أولاً وآخراً تتعلق بالإرادة والمصالح والآمال السورية المجتمعة، وليست المقسمة إلى منصاتٍ وأجنداتٍ وتسمياتٍ أخرى.
العربي الجديد
أردوغان إذ ينهي المثال التركي/ وائل السواح
قطع رجب طيب أردوغان الخطوة الأخيرة نحو تكريس نفسه ديكتاتوراً مطلقاً للجمهورية التركية، منهياً بذلك فصلاً جميلاً من فصول السياسة في تركيا والمنطقة.
فقد نظر جزء كير من شعوب المنطقة إلى التجربة التركية بإعجاب وتقدير. واعتبر كثير من الإسلاميين المعتدلين أنها نموذج لتعايش الديموقراطية مع الإسلام. أما القوميون العرب فقالوا هي ذي القومية تتعايش مع الديموقراطية، وأعجب الممانعون بمواقف أردوغان الاستعراضية حيال إسرائيل، أما الليبراليون فأحبوا نزاهة الانتخابات وحرية التعبير وانفتاح السوق.
على دفعات، قضى السيد أردوغان على هذه الروح المتفائلة، وأثبت مراراً أنه لا يطمح لأن يكون مثالاً يحتذى، بل وضع لنفسه نماذج أخرى راح هو يحذو حذوها.
مثل أي ديكتاتور، لا يرى أردوغان في الوطن الواسع العريض من يمكنه قيادة البلاد إلى برّ الأمان إلاّه، ولا يجد شخصًا يستطيع إحلال الأمن والاستقرار والرخاء سواه. لذلك بدأ يفصل دستورًا على قياسه. لكنه، حتى قبل الاستفتاء الأخير، كان قد احتكر – خلافًا للدستور – كل السلطات بيديه، وحول رئيس وزرائه، وهو الحاكم الفعلي وفقاً للدستور، إلى مجرد مردد لأفكاره.
بعد الاستفتاء الأخير، بات بمقدور أردوغان البقاء رئيساً للبلاد حتى 2029، وسيتمتع بصلاحيات تنفيذية واسعة للغاية تشمل تعيين وإقالة الوزراء وكبار الموظفين الحكوميين وإلغاء منصب رئيس الوزراء، إضافة إلى كونه القائد الأعلى للجيش.
وسيكون من صلاحيات الرئيس فرض حال الطوارئ من دون موافقة البرلمان ولمدة ستة اشهر بدلاً من ثلاثة، كما يسمح الدستور الجديد للرئيس أن يكون عضواً في حزب، ما سيتيح لأردوغان العودة إلى حزب العدالة والتنمية، علماً أن الرئيس ملزم حالياً بالحياد إزاء الأحزاب.
الأسوأ من ذلك أن الرجل سيتمكن من التدخل في مجريات القضاء التركي، إذ سيكون من حقه تعيين أربعة أعضاء في المجلس الأعلى للقضاة والمدعين، وهو المجلس الذي يملك سلطة التعيين والإقالة في الجسم القضائي، في مقابل سبعة أعضاء للبرلمان. وهذا تغيير كبير ينتقص من فصل السلطات ومبدأ الضوابط والتوازنات، الذي يكفله الدستور التركي الحالي، والذي (يا للمفارقة!) كان أقر بعد انقلاب كنعان إيفرين العسكري الدموي في 1980.
المشكلة أن الديكتاتور لا يفكر في كل الاحتمالات الممكنة. فإذا فرضنا أن أردوغان كأي قائد ملهم هو القادر على حماية تركيا وإسعاد أهلها، ولذلك فإن تمتّعه بحد أعلى من السلطات أمر مفهوم، فماذا الذي يمكن للأتراك أن يفعلوه إذا ما – بعد عمر طويل أو قصير – قضى الرجل مثل كل عباد الله؟ هل نعيد الدستور إلى سيرته الأولى؟ أم نبحث عن بديل يشبه القائد الملهم؟ ومن سيكون في هذه الحالة غير واحد من أبنائه أو أصهاره؟
لقد سار أردوغان في رحلة طويلة للوصول إلى ما وصل إليه اليوم، فبدأ معركة مع الإعلام والقضاء والمؤسسة العسكرية والإعلام، كسبها كلها بعد أن جزأها إلى معارك صغيرة، استفرد في كل واحدة منها بفئة من خ
الحياة
تركيا بين مأزقين/ حسين عبد العزيز
عكست دعوات المسؤولين الأتراك إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الرئيس بشار الأسد، بعد الضربات الصاروخية الأميركية على مطار الشعيرات حالة تشوّش يتسم بها الخطاب السياسي التركي. وكان قد بدا واضحا منذ أشهر أن أنقرة غير قادرة على تجاوز مسألة إسقاط النظام السوري عسكريا، على الرغم من التفاهمات مع روسيا، والتي أسفرت عن خفض سقف الخطاب السياسي حيال سورية.
التناقضات التي تعصف بالعلاقات الروسيةـ التركية، والتناقضات التي تعصف بالعلاقة التركية ـ الأميركية، جعلتا أنقرة تعيش ما يمكن تسميتها حالة توتر سياسي، انعكس مباشرة في خطابها، وجعلها تتخبط بين الواقع والمأمول. فهي لا تستطيع تجاوز الخطوط الحمراء الروسية، فمن خلال الأخيرة، استطاعت دخول الأراضي السورية، والحصول على قطعة جغرافية تساهم في حماية مصالحها القومية العليا. ومن خلال الروس، أصبحت جزءا من اتفاق وقف إطلاق النار، وبالتالي، جزءا رئيسيا من أية ترتيبات مستقبلية، فيما يتعلق بوقف العنف، غير أن المشكلة التركية تكمن في السقف العسكري المطروح روسيا، فأحد شروط التسوية الروسية ـ التركية أن لا تتحول منطقة “درع الفرات” إلى منصة عسكرية لمهاجمة النظام السوري، ما يعني عمليا تحييد فصائل المعارضة المسلحة عن قوات النظام وحلفائها. بعبارة أخرى، تحولت منطقة “درع الفرات” إلى ما يشبه وضع محافظة إدلب، مع اختلاف أن المنطقة التركية ستكون محميةً من أي هجوم، بحسب التفاهمات مع روسيا والولايات المتحدة. وبدا هذا الواقع مرفوضا من تركيا التي سرعان ما لوّحت بعد دخولها مدينة الباب بالتحرّك نحو منبج في الشمال الشرقي، ونحو تل رفعت في الشمال الغربي، إلا أن التحركات الروسية ـ الأميركية في منبج وعفرين وقفت سدا أمام التحرّك التركي.
موسكو وواشنطن متفقتان على لجم الاندفاعة التركية في سورية، لأسباب تتجاوز المسألة
“تجد تركيا نفسها محاصرة بين موسكو وواشنطن، وتكاد خياراتها للتحرّك تكون معدومة، وهي تأمل باللعب على التناقضات الأميركية ـ الروسية” الكردية، إنها متعلقة بعدم رغبة العاصمتين بمنح تركيا أراضي واسعة ووجودا عسكريا يهدّد مخططاتهما، خصوصا أن الرؤية الاستراتيجية التركية تتباعد عن الرؤيتين الأميركية والروسية، وإن بدتا متحالفتين في الظاهر، فحصول تركيا على أراض جديدة سيزيد من الحضور التركي في تفاصيل الميدان السوري، ويمنح أنقرة قدرة أكبر على التأثير، وهو ما لا تريده موسكو وواشنطن.
وقد كشفت زيارة وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إلى أنقرة حدود التباين بين الطرفين في الشمال السوري، كما كشف التوجه الروسي سابقا نحو عفرين، وتسليم مناطق سيطرة الأكراد لقوات النظام، غياب الثقة بين روسيا وتركيا، فبالنسبة لواشنطن، التحالف مع الوحدات الكردية أهم منه مع الأتراك في هذه المرحلة، بسبب التكلفة القليلة المترتبة على ذلك والمردود الكبير، فالوحدات الكردية تسير تماما وفق المخطط الأميركي المحدّد في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وقد حققت نجاحات عسكرية مهمة، أما التكلفة التي يطالب الأكراد واشنطن بدفعها، فهي متعلقة بالإدارة الذاتية، وهي مسألةٌ أصبحت محل إجماع من المجتمع الدولي، وقد بدت أوراق المبعوث الأممي، دي ميستورا، واضحة في ذلك، من حيث إن نظام الحكم المقبل في سورية يجب أن يعتمد اللامركزية.
وقد تعرّضت أنقرة، في العامين الماضيين، إلى تصدّع جيوسياسي، نتيجة انهيار ميزان القوى المحيط بها في سورية، بفعل الانكفاء الأميركي والهجوم الروسي. وترتب على ذلك ليس تراجع حضورها في الملف السوري فحسب، بل أصبح هذا الملف، بعد تضخم الحالة الكردية السورية، عبئا كبيرا يثقل الحكومة التركية، ويهدّد أراضيها. ولذلك، تجد تركيا نفسها محاصرة بين موسكو وواشنطن، وتكاد خياراتها للتحرّك تكون معدومة، وهي تأمل باللعب على التناقضات الأميركية ـ الروسية، فكلما ازدادت الهوة بين اللاعبين الكبيرين كان ذلك في مصلحتها، ومنحها هامشاً أكبر من التحرك.
المعضلة التي تواجه تركيا أنها تميل إلى الطروحات الأميركية في سورية، لكنها لا تثق بواشنطن. ومن جهةٍ ثانية، لا تميل أنقرة إلى الطروحات الروسية في سورية، لكن التفاهمات مع موسكو حققت انتصارات لها.
ستستخدم تركيا سياستي الخطوة خطوة واللعب من الخلف، لاستكمال تحقيق رؤيتها في الشمال السوري، ويمنحها اتساع الهوة الأميركية ـ الروسية قدرةً على الاختراق، مع عدم وصول العلاقة مع موسكو وواشنطن إلى نقطة الصفر.
العربي الجديد
تركيا: اليوم التالي على الاستفتاء/ بكر صدقي
تحقق، أخيراً، حلم رجب طيب أردوغان في قيادة تركيا بنظام رئاسي، وإن كان مشوباً بعض الشيء في اسمه: «نظام حكومة رئيس الجمهورية» وليس «النظام الرئاسي» بلا أي إضافة أو استدراك.
جاء هذا التلفيق في الاسم تلبية لشرط الحليف اللدود دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية. كانت رغبة أردوغان الأصلية أن يكون النظام رئاسياً بالاسم والمضمون، وأن يلقب بالكلمة العربية Reis على ما يشير الفيلم الذي عرض في شهر آذار/مارس الماضي ويحمل هذا العنوان ذي الأصل العربي، ويتناول جزءًا من سيرة الرجل القوي الذي يقود تركيا، عملياً، منذ خمسة عشر عاماً، ويعتبر، بحق، ثاني أهم سياسي عرفته الجمهورية التركية بعد مصطفى كمال أتاتورك.
من الآن وصاعداً لن يكون هناك رأسان للدولة، رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وذلك بعدما تم، مسبقاً، بتر الرأس الثالث الأهم وهو قيادة أركان الجيش التركي. كما تم بتر «الرأس الخفي» إذا جاز التعبير، وأعني به الداعية الإسلامي فتح الله غولن الذي كان يراوده حلم أن يكون خميني تركيا السني العائد من منفاه إلى قيادة الدولة في بلده، على أكتاف الجماهير، وتبدد الحلم هذا بعدما استبدل بها الدبابة العسكرية، في المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016، وفقاً للرواية الرسمية.
جاءت نتيجة الاستفتاء مخيبة للآمال، أيضاً، لأن فوز التعديلات الدستورية كان بفارق شعرة (51٪ من أصوات المقترعين) على رغم تسخير كل إمكانات الدولة والإعلام العام والخاص لمصلحة الحملة. فالنتيجة تقول بصراحة لا يمكن تجاهلها: صحيح أن نصف الشعب التركي أراد هذا التغيير، لكن النصف الآخر وقف ضده بوضوح، ولم يكن غير مكترث. هذا غير تشكيك حزب الشعب الجمهوري المعارض بنزاهة الاقتراع، بدلالة قبول اللجنة العليا للانتخابات بأوراق اقتراع لا تحمل ختمها، كما هو مفترض قانوناً، وتقديمه اعتراضاً بشأن ذلك.
من المرجح أن هذا الاعتراض لن يغير شيئاً من النتيجة المعلنة، ولا كذلك التقرير الأولي الذي قدمه وفد منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي دعتها الحكومة لمراقبة عملية الاقتراع، وانطوت على بعض الانتقادات، ورد عليها أركان الحكومة بقسوة. وقال الرئيس في رده على اعتراض «الشعب الجمهوري: «من امتطى الحصان تجاوز أُسكُدار» وهو مثل شعبي معروف يعني أن الفرصة ضاعت، ولم يبق أمام المعارضة ما يمكن عمله. بعد نحو عشرة أيام ستعلن النتائج الرسمية، وسيدعو حزب العدالة والتنمية الرئيسَ أردوغان للانضمام إلى صفوفه، على ما أعلن رئيس الحزب الحالي وآخر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية التركية بن علي يلدرم، بعد فراق ظاهري بين الحزب وقائده الكاريزمي، منذ آب/اغسطس 2014 يوم فاز أردوغان بمنصب رئاسة الجمهورية وقدم استقالته من الحزب وفقاً للأصول.
سيختبر الأتراك، عملياً، النظام السياسي الجديد، وهي الطريقة الوحيدة، بالنسبة لعامة الشعب، لمعرفة آثار هذا التغيير على حياتهم. ذلك أن كثيراً ممن شاركوا في الاستفتاء، قبولاً بالتعديلات أو رفضاً لها، لا يعرفون مضمون ما صوتوا عليه. فقد غلب على الحملة الانتخابية طابع الاستقطاب الحاد بين محبي الرئيس ومعارضيه الكارهين، وكأن الأمر يتعلق بانتخابه، لا بتعديلات دستورية شملت 18 مادة مع تفرعاتها. فركزت حملة المعارضة، وكانت واهنة جداً وعانت من التضييق، بما في ذلك اعتقال قادة حزب الشعوب الديمقراطي، على «دكتاتورية» أردوغان المفترضة التي يريد تكريسها دستورياً، فيما صورت الحكومة التعديلات بوصفها مسألة حياة أو موت بالنسبة لمستقبل تركيا وقوتها ومنعتها ومكانتها الدولية.
لفت الكاتب الإسلامي فهمي كورو، في مدونته، الأنظار إلى نقطة مهمة: كان بوسع الحكومة والرئيس أردوغان، إلى الآن، إلقاء المسؤولية على المعارضة أو قوى دولية، في تعثر أحوال البلد أو عرقلة حل مشكلاته الكثيرة. وكان فحوى الحملة السياسية السابقة على الاستفتاء يتحدث عن مزايا استثنائية للنظام الرئاسي: التخلص من مساوئ ثنائية الرأس (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة)، والتخلص من مساوئ الحكومات الائتلافية التي يمكن لأحزاب صغيرة أن تتحكم بمصيرها، والتخلص من عدم الاستقرار السياسي الملازم لحالة الحكومات الائتلافية، حيث يمكن أن تسقط الحكومة بانسحاب أحد الأحزاب منها، فتصبح الانتخابات المبكرة قدراً لا مفر منه. وكل ذلك مما يؤثر سلباً على الاقتصاد وأحوال المواطنين. والمثال الوحيد الذي كان أنصار الحكومة يسوقونه تدليلاً على كلامهم، هو اللوحة السياسية التي أفرزتها انتخابات 7 حزيران/يونيو 2015 حيث دخل البرلمان حزب رابع ـ حزب الشعوب الديمقراطي ـ فاختلت التوازنات السياسية وتعذر تشكيل حكومة ائتلافية بعدما خسر حزب العدالة والتنمية الأكثرية المطلقة التي تخوله تشكيل الحكومة بمفرده. فباستثناء هذه الحالة، لم تشهد تركيا اضطراراً لتشكيل حكومات ائتلافية، منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2002.
والانتقال إلى النظام الرئاسي لا ينفي، أتوماتيكياً، هذا الاحتمال. صحيح أن الرئيس هو الذي سيشكل الحكومة ويرأسها، لكن البرلمان سيصادق عليها. وفي حال تكرار حالة مشابهة لنتائج حزيران 2015، سيضطر الرئيس لمشاركة حزب آخر في الحكومة لكي ينال ثقة البرلمان.
«بات الرئيس يملك العصا السحرية» يقول الصحافي المخضرم فهمي كورو، سيكون مطلوباً منه حل جميع مشكلات البلاد بواسطتها، ولن يستطيع التذرع بتشتت السلطة وتوزع الصلاحيات. فهل سيكون قادراً فعلاً على اجتراح المعجزات في بلد يحتاج منها الكثير؟
يبقى أن أكثر من 86٪ ممن يحق لهم الانتخاب والاستفتاء، قد شاركوا في الاقتراع فعلاً. وهذا رقم قياسي بالمقاييس الدولية، يحسد عليه الشعب التركي. مبروك للشعب التركي هذا الاستفتاء، ولتكن نتائجه خيراً على الجميع، موالين أو معارضين.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
نحو مشروع السلطنة في أنقرة/ مصطفى كركوتي
صحيح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يحصل على نسبة الأصوات التي كان يتمناها في الاستفتاء الأخير، ولكن من الواضح أنه اعتبرها كافية للانطلاق نحو تنفيذ مشروعه الطموح في بناء تركيا التي يريد. فبعد دخوله المضمار السياسي وتثبيت قدميه كرجل تركيا القوي قبل أكثر من عقد، سيحرص أردوغان الآن على تشكيل بلاده وفق هواه أكثر مما فعله أي زعيم آخر منذ عهد باني تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك. ولا شك في أن الرئيس التركي وجد في «نعم» الاستفتاء، ولو بنسبة ضئيلة (51.41 بالمئة)، الضوء الأخضر لتأسيس حكم رئاسي صلب يتمتع بسلطات واسعة تمنحه إرادة تعيين وإقالة الوزراء واختيار سلك القضاء وكبار الضباط وحكم البلاد وفق أحكام الطوارئ إذا رغب في ذلك.
ووجد أردوغان نفسه على ثقة كافية بعد اعلان نتائج الاستفتاء كي يوجه خطاباً إلى الاتراك وصف فيه كل من وقف ضد سياسته أخيراً أعداءً لتركيا، شاملاً بذلك ألمانيا وهولندا والاتحاد الأوروبي. لكن أردوغان في الحقيقة يسعى إلى لفت الانتباه بعيداً من نتائج الاستفتاء التي كشفت هشاشة «ثورة» أردوغان في نقل تركيا من النظام البرلمـــاني الخاضع للرقابة الدستورية باستمرار إلى نظام رئاسي قوي يكون لأردوغان فيه الكلمة العليا والأخيرة. فالغالبية في إسطنبول وأنقرة وأزمير صوتوا ضد ترشيحه على رغم سيطرة حزب العدالة والتنمية على القاعدة الجماهيرية في إسطنبول وأنقرة طوال 15 عاماً متواصلة. وقد بدا بالفعل في إحدى لحظات عملية الاستفتاء أن أردوغان على وشك أن يخسر السباق ولكنه فاز في النهاية بأكثرية ضئيلة، ما يقدم للمعارضة بعض التعويض عن الخسارة في شكل عام.
الفـــوز الباهت ليس غريباً لأردوغان ولحــــزبه إذ شهد هذا الأخير تراجعاً كبيراً في عدد مقــــاعده في الجمعية الوطنية (البرلمان) في الانتخابات العامة الثلاثة المتلاحقة، وانخفضت نسبــــة مقاعده بمعدل 9 في المئة بين انتخابات 2011 و2015. على رغم تلك الخسائر المتتالية لم يغيّر أردوغان نبرة صوته التي بقيت مرتفعة ضد معارضيه مستخدماً المواجهة العسكرية مع ميليشيات حزب العمال الكردستاني في التعبئة العامة. وليس من المتوقع أن يفعل عكس ذلك في ضوء نتائج الاستفتاء، إذ بدأ يتحرك لاستقطاب الرأي العام وتعميق الانقسام في وسطه.
قبيل الاستفتاء وأثناء فترة التحضير له اتخذت الحكومة سلسلة إجراءات بدت صغيرة ولكنها تركت مجتمعةً تأثيراً كبيراً على النتائج وساهمت في إحلال السلطوية محل الديموقراطية. وجاءت الانتخابات العامة نفسها وفقاً للمراقبين الدوليين بنتائج مزورة جراء القمع الواسع في مناطق الأكراد جنوب شرق البلاد، واعتقال مئات المعارضين السياسيين، والتأكيد على قيام الاعلام التركي بتغطية نشاط وحملات الحكومة الداعمة لاردوغان وتوقيف أو ضرب الداعين لحملة التصويت بـ «لا».
حملة أردوغان وقيادات حزبه برعوا في التركيز على أن التصويت لتعديل الدستور والتأسيس لقيام نظام رئاسي تنفيذي أمران ضروريان لكسب المعركة ضد خصوم تركيا في الداخل والخارج معتبراً حملة التصويت بـ «لا» تخدم في النهاية الإرهاب. على الأغلب لن تجد تركيا في عهد اردوغان المقبل الذي قد يطول لمدة عقدٍ من الزمن على الأقل، إلا المزيد من الانشقاق المجتمعي في ظلّ رئيسٍ سيمسك بجميع خيوط السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية والقضائية. فالرئيس التركي معروف من خلال سجله السياسي ببراعته في شق الصفوف وتشجيع الخلاف لخدمة مصالحه السياسية. فخسارته في إسطنبول وأنقرة في الاستفتاء على سبيل المثال لن تدفعه نحو الرشد والاعتدال، بل ستجعله أكثر شراسة في البحث عن الخصوم المنتشرين بين صفوف الغولنيين والإرهابيين الأكراد والمتعاطفين معهم من الإعلاميين الأتراك والأجانب المؤيدين لهم والهادفين إلى تدمير تركيا على حد تعبيره.
وينتظر أن نشهد مستقبلاً حملة أخرى ضد الصحافيين والأكاديميين وكبار موظفي الدولة المشكوك بولائهم لرئيس الدولة، وقد بدأ أردوغان وصف كل من يرفض تأييد النظام الرئاسي «الذي صوّت الشعب التركي له» كعدو لتركيا و«خادم لأسياده الأجانب». وهذه وصفة واضحـــة لتعزيز الفرقة الوطنية في مجتمع مركّبٍ من اثنيات وقوميات عدة قابلٍ لانفجار سريع تحـــت أية ضغوط. في بلد تتمتع فيه المؤسسات الديموقراطية بالحرية، يكون فيه الاستقطاب متوازناً حيث يجري تشجيع مثل هذه المؤسسات على التسويات ويحول دون تفرد الحكــــومة بالسلطة. تركيا ليست هذا النوع من الدول وأردوغان ليس معروفاً بالتسامح لا عند لحظــــة الانتصار ولا عند لحظة الهزيمة، بل يتميز بميله نحو التكبّر والتعالي، وهذا من الدروس التي دفعت وزير خارجيته ورئيس وزرائه السابق أحمد داوود أوغلو إلى الخروج من خيمته.
هنا تُطرح مسألة في غاية الأهمية أمام الغرب في الدرجة الأولى، والذي يجب أن لا تتخلى مؤسساته السياسة والمالية (صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي مثلاً) عن تركيا، بل من الضروري أن يبتكر سبلاً في شأن التعامل معها في عهد اردوغان مهما بدا هذا الأخير صعب المراس وذا ميول سلطانية. فتركيا دولة مركزية مهمة يتردد صدى كل ما يجري فيها على قارات ثلاث مجاورة، وتشكل نموذجاً لديناميكية سياسية تؤثر في صوغ شكل العلاقات في العالم. فعدا تاريخها العريق كإمبراطورية، فهي الآن تحت أنظار العالم كونها دولة ذات حدود مع سورية التي تمزقها حروب الآخرين، والعراق الذي تهدده الحرب الطائفية والنزاع الإثني والقومي، وإيران التي لا حدود لمغامراتها الإقليمية. كما أن تركيا، وهذا هو الأهم، تبقى ساحة اختبار للتعايش بين الديموقراطية والإسلام السياسي وبين الليبرالية الغربية والسلطوية القومية ذات النمط الروسي. ولا شك في أن أردوغان قاد بلاده نحو تجربة ناجحة في التنمية الاقتصادية في السنوات الأولى من عهده الذي انطلق في 2003، إلا أن تركيا شهدت انحداراً خطراً في السنوات الأخيرة. أما السؤال الذي يبقى فعن مدى التراجع الذي سيقود أردوغان بلاده اليه بعد الاستفتاء الأخير.
الحياة
أردوغان: طريق العظمة طريق الكذب/ حازم صاغية
القائد القويّ هو ما يستهوي رجب طيّب أردوغان. إنّه مثاله وبطله. الاستفتاء الأخير الذي أجراه كان له غرض أوحد: أن يسبغ الشرعيّة على قوّته الفائضة. على تحوّله زعيماً لا ضوابط، داخليّة أو خارجيّة، على قوّته. أهداف هذه القوّة كانت ظهرت قبل الاستفتاء: تدجين الصحافة والقضاء والجامعة، وإسكات النقد الغربيّ لقمعه حقوق الإنسان، والتلويح باسترجاع حكم الموت. أيضاً، قبل الاستفتاء، أطيح تباعاً عبدالله غل وداوود أوغلو. في «حزب العدالة والتنمية» ودولته رقم واحد فحسب يتربّع فوق جماهير يراد تحويلها أصفاراً.
من يقدم على أفعال كهذه حاكم قويّ. السياسيّ البرلمانيّ ليس كذلك: إنّه يرعى حرّيّات الصحافة والقضاء والجامعة، ويحرص على فصل السلطات، ويرفض حكم الموت، ويهمّه توطيد العلاقة بالدول الديموقراطيّة حيث المصالح التجاريّة وحيث النموذج الأحسن للتقليد. السياسيّ البرلمانيّ يُضعف قوّته ويقيّدها بمحض إرادته. إنّه بلا «كرامة». مفهوم «الكرامة» عند الزعيم القويّ يقوم على التصادم مع تلك القيود وكسرها. مفهوم الكرامة عند السياسيّ البرلمانيّ يقوم على التوافق معها والتنازل لها.
السياسيّون البرلمانيّون في المنطقة ليسوا النماذج التي يقلّدها أردوغان. من هم هؤلاء؟ «عملاء» كنوري السعيد، و «فاسدون» كمصطفى النحّاس، و «انفصاليّون» كخالد العظم، و «انعزاليّون» ككميل شمعون… أمّا في تركيّا نفسها، فما من شيء مُغرٍ في عاديّة بولند أجاويد أو سليمان ديميريل. حتّى تورغوت أوزال يبقى سياسيّاً تقنيّ التكوين. المطلوب زعيم يطلع من القضاء والقدر.
همّ أردوغان ليس تمثيل المؤسّسات والتعبير عن الإرادة الشعبيّة. همّه تمثيل التاريخ. الشعب. الأمّة. المصير… هذه مقدّسات ينبغي أصلاً عدم تقييدها، لأنّ المقدّسات مطلقة ولا تُقيّد. الزعيم وحده يعرف كيف يُنطقها وكيف ينطق بلسانها.
أبطال أردوغان، ولو خالفهم في مسائل إيديولوجيّة أو سياسيّة، هم من عيار مصطفى كمال أتاتورك، نقيضه الشبيه، أو جمال عبد الناصر أو آية الله الخمينيّ، وفي أسوأ الأحوال من صنف فلاديمير بوتين. عظماء لا يحضرون في السياسة إلاّ كي ينحروا السياسة. يتذرّعون بالقصور المؤكّد في المؤسّسات كي يعطّلوا المؤسّسات. يستخدمون النقص الديموقراطيّ في البرلمانيّين كي يفرضوا العدم الديموقراطيّ.
تجربة طيّب أردوغان، بعد تجارب أخرى كثيرة في هذه المنطقة، تقوم على افتراض الحلّ الواحد والحاسم والناجز لمشكلات معقّدة يشهد حلّها بالضرورة تقدّماً وتراجعاً وانتكاسات وتسويات. «حكمة» الحلّ الواحد الحاسم والصائب الذي يرقى رفضه إلى خيانة، هي أمّ الاستبداد وأبوه. الزعيم التركيّ يعيد إلى تلك «الحكمة» رونقها الذي بدا في وقت سابق أنّها فقدته. تركيّا نفسها وأردوغان نفسه كانا قد وجّها طعنات نجلاء لحكم العسكر. لكنْ يبدو اليوم أنّ مقوّمات الاستبداد والحكم القويّ لا تزال قويّة وقادرة. ما كان ينقص هو أن تتعزّز الشعبويّة في العالم حتّى يتغلّب الطبع الأردوغانيّ على التطبّع، فيحصل في تركيّا ما حصل في الدول المجاورة لها. النهاية التي انتهت إليها الثورات العربيّة جاءت عنصر تعزيز آخر للوجهة هذه.
أن يصير أردوغان سلطاناً أو وليّاً فقيهاً أو قائداً ملهماً أو أباً للشعب لا يزال في حاجة إلى جهود قد لا تحتملها تركيّا، جهودٍ يقاومها اليوم مناضلون ونشطاء مدنيّون عافوا الآباء والأولياء والملهمين. والفارق كبير، بطبيعة الحال، بين الـ 99 في المئة الشهيرة للقادة الذين هم مثالات أردوغان، والـ 51 في المئة التي نالها هو. لكنّ برنامج الرئيس التركيّ، على ما يبدو، هو هذا بالضبط: أن يصير الشعب ماشية، وأن يصير الحاكم نصف إله. أن تسير تركيّا بالتدريج نحو الـ 99 في المئة أو ما يقاربها. وعلى الطريق إلى الهدف ستُكتشف «مؤامرات» كثيرة يقف وراءها شياطين وأوروبيّون وصليبيّون ونازيّون وأكراد وإرهابيّون من كلّ نوع. طريق الكذب هو الذي ستسلكه تركيّا أردوغان وصولاً إلى حتفها، أو إلى حتفه هو.
الحياة
الاستفتاء التركي بين الأمة وسلطة الرئيس/ حسن شامي
هناك ما يكفي من المؤشرات إلى أن الاستفتاء التركي الذي أجري مؤخراً لن يمر، جملة وتفصيلاً، مرور الكرام. فالجدل الذي اندلع إثر الإعلان عن النتائج بدأ يتحول إلى لغط صاحبته شكوك واتهامات علنية تطاول شفافية العملية الانتخابية ونزاهتها. الفارق الضئيل بين نسبة مؤيدي التعديلات الدستورية المفضية إلى تغيير نظام الحكم وبين معارضيها عزز فرص الاتهام بحصول مخالفات وتجاوزات وعمليات تلاعب وتزوير.
قد يكون صحيحاً أن أحزاب المعارضة تمتلك اتهامات وشكوكاً جاهزة في نزاهة أي عملية انتخابية تؤكد قوة حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان. وصحيح أيضاً أن مناورات الحزب الحاكم بقيادة أردوغان أفصحت ولا تزال تفصح عن جموح إلى الهيمنة على الحياة السياسية وإحكام القبضة على المؤسسات الإدارية والحكومية في كل القطاعات.
ما ينبغي قوله أن الاستفتاء كعملية ديموقراطية – انتخابية للانتقال من حكم برلماني إلى حكم رئاسي بصلاحيات واسعة تكاد تكون ملكية أجري أصلاً وفصلاً في مناخ يشوبه الارتياب في النوايا والمقاصد. هذا المناخ بالذات هو ما يستحق أن يكون موضوعاً للنظر والتفحص النقديين. فمن دونه لن نجد معنى حقيقياً للتصريحات الصادرة عن هيئات أوروبية بارزة في مقدمها مفوضية الاتحاد الأوروبي التي اتهمت السلطة الحاكمة بتزوير مليونين ونصف مليون من الأصوات ورفعت الصوت عالياً ضد أي محاولة لتنفيذ التعهد الأردوغاني بتطبيق عقوبة الإعدام في حال نجاحه باعتباره أكثر من خط أحمر سيقود إلى إقفال الباب نهائياً على مشروع الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي. في السياق ذاته، تأتي الطعون المرفوعة من جانب أحزاب معارضة، على رأسها حزب «الشعب الجمهوري» وحزب «الشعوب الديموقراطي» ذو الغالبية الكردية، في صدقية النتائج واتهام اللجنة العليا للانتخابات بمخالفة القانون لسماحها باستخدام بطاقات اقتراع غير مختومة ناهيك باتهامات بحصول مخالفات وعمليات تزوير صريحة ومكشوفة.
من دون مناخ الارتياب الذي نشير إليه، ستكون الطعون المرفوعة والمقدمة من أحزاب تركية ومعها الانتقادات الأوروبية والوطنية ضرباً من التحامل والنشاط الدعوي لتشويه صورة أردوغان وحزبه. والحال أن الارتياب يحتل مكانة تكاد تكون تقليداً مؤسساتياً، بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة، يضرب بجذوره في تاريخ تركيا العثمانية وسلطنتها وفي تاريخ الجمهورية العلمانية ونخبها الحديثة وفق الترسيمة التي اختطها الذئب الرمادي مصطفى كمال أتاتورك.
يكفي بهذا الصدد التذكير بتاريخ السلطنة والسلاطين العثمانيين إذ يحفل هذا التاريخ السلطاني بسلسلة طويلة من المكائد التي كانت تطبخ في القصور متبوعةً بصنوف القتل والاغتيال وتصفية الأشقاء والأقارب الطامحين والمنافسين. ويحفل التاريخ الحديث، خصوصاً في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وصعود النخب العسكرية والجمعيات الحديثة أو المحدثة، بضروب أكثر تفنناً في طبخ المكائد واعتماد التصفية الجسدية والتطهير والنفي، والإبادة في بعض الحالات، كتقنيات في إقصاء الخصوم والمعارضين والمنافسين واعتبار هذه «التقنيات» من مقتضيات الضرورة التاريخية والواجب القومي.
ينطبق هذا بقوة على تجربة مؤسس الجمهورية الحديثة، أي أتاتورك، وهو صاحب الجملة الشهيرة غداة تصفية رفاقه المعترضين: أنا تركيا.
ينبغي، في المقابل، التشديد على أن هذا النوع من الممارسات الصادمة أخلاقياً ليس حكراً على التاريخ العثماني والتركي. فهو مقيم وفق مروحة من التنويعات والتفاوتات في تاريخ كل السلطات وتوسلها أشكالاً مختلفة كماً ونوعاً من العنف لترسيخ السلطة. ونصائح مكيافيلي المعتبرة علماً في علم السياسة وفنونها والمعروضة في كتاب «الأمير» هي من أبرز الشواهد. نقول هذا للتحذير من الوقوع في نزعة «ثقافوية» شائعة تختزل الديناميكية الاجتماعية والتاريخية، أياً كان إيقاعها وقوالب تعبيراتها، في انعكاس ماهوي وسلوكي ثابت بحيث يسعها أن تنسب الممارسات المكروهة إلى هوية متأصلة ومتجذرة في تربة وطبائع مناطق وأقاليم معينة وربما ديانات وأعراق.
الفوز الباهت الذي حققه أردوغان لتعزيز صلاحياته الرئاسية وضمان بقائه في السلطة حتى 2029 وفق تقديرات شائعة قد يكون انتصاراً في المعنى السياسوي والظرفي. يخشى في المقابل أن يكون هذا الفوز الهزيل هزيمة على المدى الطويل، إذ إنه يعمّق الانقسام ويضعه ويضع تركيا على مفترق طرق غير مأمون العواقب. فنتائج الاستفتاء تشير إلى أن نصف المجتمع التركي تقريباً يتماهى مع استحواذ الرئيس أردوغان على ما هو أكثر من تعديل دستوري يطاول شكل ممارسة الحكم: مصير تركيا نفسه وشخصنة السيادة. على الضفة المقابلة، هناك رفض لا يخلو من الجذرية لهذا التعديل واعتباره خدعة أو حيلة شرعية من طراز الحيل الشرعية التي كان يستنبطها الفقهاء المسلمون للالتفاف على مسألة شائكة وحلها بطريقة لا يموت فيها الذئب ولا يفنى الغنم.
وليس مستبعداً أن يكون أردوغان استغل محاولة الانقلاب الفاشلة وغير الشرعية لتسويق فكرة أن إزاحته عن السلطة والتباس الموقف الأميركي والأوروبي من الانقلاب ليسا في ظل الظروف الساخنة والأزمات المحيطة سوى مؤامرة لإزاحة تركيا نفسها عن المكانة الإقليمية التي انتزعتها على الدوام من دون التضحية باستقلال قرارها وسيادتها.
ينبغي إذاً أن نضع اختبار الاستفتاء ونتائجه في منظار التقلبات والتوليفات التي حفلت بها تجربة الحزب الإسلامي في السلطة منذ ما قبل أردوغان وتحالفه مع الداعية فتح الله غولن وشبكات جماعته الواسعة في كل القطاعات. وإذا وضعنا المسألة في منظار أعرض يظهر أن قيادة أردوغان سعت إلى التوليف بين إرثين سلطويين، امبراطوري عثماني وقومي أتاتوركي. نقطة التقاطع بين الإرثين تتعلق بالمطابقة بين الإقليم وشخص الحاكم. والثابت في التجربتين السلطانية العثمانية والجمهورية السلطوية وشبه العسكرية هو التمسك بالسيادة والدفاع عنها حتى آخر رمق. بل حتى يمكننا أن نعثر على هذا الثبات في تجربة القوى الكردية المعارضة للسلطة التركية بقدر ما تستلهمها. وليس مصادفة أن يكون الأكراد في تركيا وفي سورية بين فصائل المعارضة الأكثر تمسكاً بأجندتهم واستقلال قرارهم من خلال الاستفادة من تناقضات وتنافسات القوى الدولية والإقليمية.
من السهل توصيف مشروع أردوغان بأنه مسودة جمهورية ملكية. وكانت نسبة المؤيدين في المناطق والأرياف حيث تسود العلاقات الأهلية وصورة الزعامة أعلى من نسبتها في المدن الكبرى. فكيف يمكن الفصل بين الأمة وأردوغان؟
الحياة
مستقبلنا في ماضينا/ مصطفى زين
فور إعلان فوزه في الاستفتاء على حصر كل السلطات في يده توجه رجب طيب أردوغان إلى أضرحة مسؤولين سابقين مهّدوا لتوليه السلطة، وكانوا يحلمون مثله بالعودة إلى أيام السلطنة. وزار أضرحة السلطانين محمد الفاتح وسليم الأول، و «الصحابي» أبو أيوب الأنصاري، ورؤساء الوزراء السابقين: عدنان مندريس، ونجم الدين أربكان، وتورغوت أوزال. السلطانان رمز لتأسيس العثمانية، والآخرون، خصوصاً أربكان، أسسوا حركة الإسلام السياسي في تركيا، ونشروا المدارس الدينية في عموم البلاد، أبلغ إليهم فوز مشروعهم وانتصاره على العلمانية وعلى الجيش الذي أنهى حكم السلاطين وأعدم مندريس وأطاح أربكان «حفاظاً على جمهورية أتاتورك».
زيارة الأضرحة، حيث استُقبل أردوغان بحفاوة، جزء من عادات الشعب التركي حتى في أيام العلمانية. لكن الرئيس يستخدمها للتأثير في المتدينين الذين يؤمنون بقوتها وقداستها، وللقول إن سياساته لا تختلف عن سياسة سليم الأول أو محمد الفاتح، وفي ذلك ما يثير الخيال الشعبي ويوهم «العوام» بأنهم أصحاب السلطة وبأن ممثلهم يحكم باسمهم.
و «العوام»، على ما يقول عبد الرحمن الكواكبي الذي عاصر الاستبداد العثماني وكان ضحيته، «هم قوَّة المستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثِل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة» (طبائع الاستبداد).
كل ذلك ليس مهماً عند «العوام»، وهم نصف الشعب التركي، على ما أظهره الاستفتاء. المهم لديهم العودة إلى ماض لم يعيشوه ولا يعرفون عنه شيئاً سوى ما توارثوه عن آبائهم من حكايات، وما تعلموه في المدارس عن أبي العثمانيين سليم الأول، وأمجاد محمد الفاتح الذي قهر القسطنطينية (إسطنبول اليوم) وغلب الروم وهجّرهم إلى أوروبا. أما الاستبداد بهم فمغفور، وهو ثمن بسيط لتلك الأمجاد التي أبعدتهم وتبعدهم عن أوروبا الكافرة.
«ننطلق في طريق جديد، بموجب قرار الشعب التركي»، قال رئيس الوزراء بن علي يلدريم. الطريق الجديد يسمح لأردوغان بإلغاء منصب رئاسة الحكومة وتعيين الوزراء وإقالتهم، وتسمية كبار القضاة، والإشراف على قوى الأمن، وفرض حال الطوارئ لمواجهة أي «انتفاضة ضد الوطن أو أعمال عنف تهدد الأمة»، وتسمح له بتجاوز البرلمان بمراسيم رئاسية، ولا تمنعه من أن يكون رئيساً لحزب، بعدما كان ملزماً الحياد.
هذه بعض صلاحيات أردوغان التي نص عليها التعديل الدستوري، بناء على الاستفتاء. وهي لا تقل عن صلاحيات الجيش عندما كان «يحمي العلمانية» بانقلابات أطاحت رؤساء حكومات وفرضت حالات طوارئ لمواجهة اليساريين الذين ما زالوا هدفاً للعهد الجديد. لكن الرئيس يختلف عن الجيش في أنه أخرج تركيا من «عزلتها» عن محيطها، إذ شارك في إشعال الحروب في سورية والعراق، وفي ضرب ليبيا، وما زال يهدد دمشق وبغداد بالمزيد من التدخل. ويهدد أوروبا بإرسال آلاف النازحين إليها بعدما حولهم إلى ورقة للمساومة والابتزاز.
مع التعديلات الدستورية يعود قمع الإعلام إلى تركيا. قمع بدأت تباشيره، قبل ذلك، باستيلاء السلطات على الجرائد وتعيين الحزب الحاكم صحافيين من أنصاره لإدارة الصحف المعارضة، وإبعاد الصحافيين وسجن بعضهم. وهكذا يعود الاستبداد إلى سابق عهوده المظلمة، ويصبح قمع الأقليات مشروعاً قانونياً، ما يجبرها على العودة إلى قبائلها للاحتماء بها، وتنتهي الحياة المدنية بانتهاء الأحزاب، وتصبح كل قبيلة أو طائفة في مواجهة الحاكم، أي تصبح الحرب الأهلية مشروعة. وبوادرها ليست بعيدة، فالأكراد يخوضون حربهم منذ الثمانينات، والتصالح معهم انتهى بسجن نوابهم، ووصمهم بالإرهاب. أما العلويون وغيرهم فليس أمامهم سوى الانزواء في الوقت الراهن، وقد لا يطول انزواؤهم. والعلمانيون أصبحوا في نظر السلطة من أتباع عبدالله غولن المتهم بالإرهاب.
واقع الأمر أن ما يحدث في تركيا لا بد من أن ينعكس على محيطها. وإذا كان أردوغان يستعيد الماضي سلماً، ففي المحيط من يستعيده بالدم.
مستقبلنا في ماضينا المجيد والاستبداد طريقنا إليه.
الحياة
إسلاميون عرب في قصر السلطان .. قصة حب من طرف واحد!/ وائل عصام
يتفق كثيرون على أن للاتراك ودولتهم العثمانية مكانة كبيرة في الوجدان العربي المسلم.. السني خصوصاً.. فهم شركاء التاريخ والهوية وحلفاء التصدي للنفوذ الشيعي قديماً.. وان قادة الحكومة التركية ذات الميول الاسلامية شعبيا، اعادت مد الجسور الثقافية مع العالم الاسلامي واحيت بالتالي روح التضامن المشترك مع قضايانا وان كانت بأضعف الايمان.. قلباً ولساناً.
ولكن لا ينكر احد أيضاً أن فعلاً جليلاً قامت به الحكومة التركية بقيادة اردوغان يتمثل باستقبال ملايين اللاجئين السوريين والعراقيين ومنحهم حق الاقامة والرعاية الطبية والتعليم المجاني وهو ما لم تفعله اي دولة عربية على الاطلاق.. وان كان هناك على الجانب الاخر من ينكر ان الفعل العسكري الوحيد الذي تم تنفيذه داخل الساحة العربية وهو التدخل العسكري شمال حلب، قد اوقع مئات المدنيين وشرد عشرات الآلاف وصب في النهاية بمصلحة الامريكيين والنظام الذي استعاد حلب خلال العملية.
وامام هذا الدور التركي المتعاطف مع قضايا المنطقة بنظر كثيرين، كان من الطبيعي ان تتنامى شعبية الحكومة التركية بين الاوساط الاسلامية العربية، بل لتصل لحالة التصاق وتماهٍ كامل عند تيارات كبيرة، تظهر بكل مناسبه تركية داخلية كالانتخابات او الاستفتاء الأخير في تركيا، وبالنظر لحالة العجز بل الشلل العربي المتواصل منذ قرون، فانه من المفهوم في حالة الوهن هذه تفشي حالة الاستنجاد بالاخرين وسط هذا البحر المتلاطم، وبحث الغارق في مخيلته عما يراه منقذاً وان تهيأ له ان القشة باتت جذعاً متيناً، دون ان يسأل نفسه ابداً لماذا لا يتعلم السباحة، لكي يسهل على الاقل مهمة من يريد انقاذه؟!
يتجاهل الاسلاميون العرب ان الحالة الاسلامية صوفية الجذور في تركيا هي ابنة التجربة التركية المحلية، المرتبطة بالدولة القومية والشعور القومي التركي، والذي يبقى الاسلام مكوناً اساسياً فيه بلا شك، وهي بالتالي مصممة للتعامل مع المشاكل والتحديات في المجتمع التركي اولاً، وكذلك الامر بخصوص التجربة الاسلامية الشيعية الايرانية، فهما تجربتان اسلاميتان بخصوصية ووعي قومي، وبلا شك ان النظر للحالة التركية كحليف هو امر مفهوم ووجيه لكنه يقتضي اولاً بناء دولة تنتمي لتجربة عربية اسلامية بوعي قومي يناسب احتياجاتها وتطلعاتها ومن ثم يمكن الحديث عن علاقة تحالف ان كانت من باب الشراكة، اما العلاقة برابط التبعية فهي القدر الذي سيلاحق كل ضائع يبحث عن شقيق قبل ان يجد ذاته اولاً.
هذا ليس بالحاضر فقط، بل ان الماضي يعج بالشواهد، فمن يتحدث عن تماهٍ عربي لحد الذوبان تحت العنوان الاسلامي، عليه ان ينظر اولاً للاخرين، هل هم مستعدون لهذا التماهي وبالحماسة نفسها؟! ام هو حب من طرف واحد؟! فكما يمجد الكثير من الاسلاميين العرب الدولة العثمانية، هل سألوا انفسهم لماذا تختفي تماماً اي اشارة تمجيد للدولة الاسلامية الاموية العربية عند الطرف الاخر؟! ولماذا لا يفتخر الاسلاميون الاتراك عموماً سوى بالدول الاسلامية التركية العثمانية والسلجوقية ولا يبدون الحماس نفسه للدولة العربية الاسلامية الاولى الاموية؟!
قد لا يكون هذا امراً سلبياً، بل هو ببساطة وعي قومي عند الاسلاميين الاتراك غير متحقق لغيرهم، وهو ما منحهم القدرة على ادامة قوة دولتهم الاسلامية لقرون طويلة، لان الامر الاخر المهم الانتباه له، ان لا دولة اسلامية قامت في التاريخ دون بنية وعصبة قومية احادية، هذا كان في الماضي الاقرب للتماهي الديني، فما بالكم اليوم ونحن في عصر الدول القومية، التي لم يتخط العرب فيها حدود الدولة الوطنية القطرية المبتكرة ليقفزوا لدولة اممية لم تكن سوى قومية البناء..
وحتى لا نسهب في الماضي، هناك في الحاضر الكثير من الامثلة التي باتت تؤشر الى طبيعة هذه العلاقة، التي تفرض واقعاً لخصوصية كل تجربة واولياتها، فمثلاً، يضطر بعض السوريين في تركيا المتقدمين لطلبات التجنس ان يغيروا اسماء ابنائهم لاسماء تركية، ورغم ان هذه الحالة ليست عامة الا انها تؤشر الى احد معاني الاندماج بالهوية التركية، كما يتلقى ابناء السوريين تعليماً مجانياً كجزء من سياسة الدولة التركية الاخوية المعطاءة تجاه اللاجئين السوريين، ولكنهم يشتكون ويتساءلون لماذا لا يتعلم اولادهم اللغة العربية في المدرسة؟! وكأن من واجب الدولة التركية تعليم اللغة العربية! ويتناسى هؤلاء ان احد اسباب النفور القومي للعرب من الدولة العثمانية اواخر عهدها هو ان اولادهم لم يكن مسموحاً لهم بتلقي اي تعليم باللغة العربية في المدارس التي يديرها العثمانيون في سوريا تلك الفترة.. وبينما ينظر البعض للسياسة التركية في سوريا بعين المترقب لدور اكبر ضد الاسد والقوى الكردية المسلحة الاعداء المشتركين، فانه من الواضح ان هذا الدور التركي خارج الحدود لا يسير بأجندة تخص المصالح العربية او الاسلامية بقدر ما هو يخص طبيعة التفاهمات التركية مع روسيا والولايات المتحدة في العراق وسوريا.
ولو افترضنا جدلاً ان دوراً تركياً كبيراً قفز للواجهة، وامكن له مد نفوذه داخل سوريا كما يأمل المتعلقون بهذا النموذج، فكيف سيمكن الاستفادة منه من باب الشراكة لا التبعية مع انعدام اي كيان ناضج المشروع ذاتي القيادة للعرب السنة في سوريا او العراق يمكنه التعاون مع الاتراك؟!
ومجرد النظر الى التجربة الوحيدة في شمال حلب تمنحنا الاجابة على شكل العلاقة، ففي مناطق درع الفرات أمكن للاتراك التدخل في جيب حدودي وبات جيشهم يسيطر هناك على القرار السياسي والاداري، ولا تملك اي قوى سورية معارضة من شركاء الاتراك من فصائل المعارضة اي صلاحيات دون الرجوع للاتراك، بل ان اذن التصوير لاي صحافي في قرى شمال حلب يملكه والي محافظة كلس التركية حصراً! ليس الامر ببعيد عن تاريخ العراق وسوريا في الحقبة العثمانية في ازهى فتراتها عندما كانت السلطات بيد الاتراك حصراً وتكاد لا تجد اي دور لقيادة عربية في ولايات العراق والشام العثمانية.
ولأن مدمني التبعية اعتادوا على ترويض خصوصياتهم الذاتية ببراعة تحت رايات توفيقية براقة، فان الاسلامي السني العربي «المعتدل كالرمادي بلا لون» الذي تآلف مع حكم احزاب ايران الشيعية في العراق من باب الاخوة «الوطنية» لن يجد حرجاً من تقبل قيادة أقوام آخرين له من باب الاخوة «الاسلامية».. ولاحظوا هنا انه هو نفسه في الحالتين، يكون وطنياً مخلصاً في بغداد ويبحث عن مخلص اسلامي في اسطنبول! ويعلن ايمانه ببرنامج ومقاربة سورية وطنية لا اسلامية في دمشق، ويهتف للاسلام الاممي في إسطنبول!
القدس العربي
لماذا نهتم بالتجربة التركية؟/ محمد أبو الغيط
ألقى الرئيس الأميركي أيزنهاور، في عام 1954، خطاباً شهيراً طرح فيه لأول مرة مفهوم “أحجار الدومينو” في العلاقات الدولية. شرح أيزنهاور تطبيقاً عملياً: “إن سقوط دولة تحت الحكم الشيوعي، أو تحت تأثيره، سيؤدي إلى أن تتبعها سريعاً دول الجوار”. لهذا، تدخلت أميركا عسكرياً لمنع فيتنام من التحول إلى الشيوعية، لم تنفق المليارات وتضحي بعشرات الآلاف من الجنود من أجل ذلك البلد الصغير جداً البعيد جداً، بل فقط لتتجنب احتمالية أن سقوطه قد يطلق موجة تشمل ما حوله، وتمتد ربما حتى تصل إلى أميركا نفسها.
تجارب عالمية أخرى عديدة يمكن تفسيرها بالطريقة نفسها. تحول دول أوروبا الشرقية إلى الديموقراطية خارج الحكم الشيوعي تباعاً، أو تحول دول أميركا الجنوبية من الدكتاتوريات العسكرية إلى الديموقراطية، أو تتابع دول الربيع العربي بمجرد نجاح الشرارة التونسية.
لطالما كنا نتمنى أن تكون تركيا “حجر الدومينو” الأول في المنطقة. بشكل خاص في العقد الأول من الألفية، كان حزب العدالة والتنمية حلماً جميلاً في هذه الدولة الإسلامية الشرق أوسطية التي تجمعها عوامل كثيرة بالعرب. كان الحزب يقدم إجاباتٍ على أسئلة معقدةٍ للغاية في منطقتنا، كعلاقة الإسلام والدولة العلمانية عصرياً، وخطوات التحول الديموقراطي في بلدٍ بتراثٍ عسكري عريق، وكفاءة الإصلاح الاقتصادي والتنموي. بل يمكن القول إن الحزب الحاكم التركي قام بتفعيل عقد اجتماعي جديد، يشمل تصعيد فئات من “الأتراك السود”، أي الأقل نفوذاً وأموالاً وتعليماً، كما يشمل رؤيةً أكثر هدوءاً وتصالحاً مع حقوق الأكراد.
كنا نشير إلى تركيا، ونقول للسلطويين الإسلاميين والعسكريين: انظروا، نريد مثل هذا! وكنا نقول لشعبنا: “هؤلاء مثلكم، مسلمون وشرق أوسطيون، وقد فعلوها”.
لذلك، حين يدخل القائمون بعمل “شرطة فيسبوك” ليعلقوا على أي منشورٍ ينتقد أردوغان بأن على كاتبه أن يصمت، ويترك الشأن التركي لمن يفهم فيه (كأنهم جميعاً خبراء)، فهم يناقضون أنفسهم قبل غيرهم، كما أنهم لا يفهمون الفرق بين المنتقدين، من يتمنى النجاح والإصلاح ومن يتمنى الفشل للتجربة كلها.
أخطر ما حدث في تركيا، أخيراً، هو خسارة هذا النموذج، هل سنطلب اليوم من السلطويين العرب أن يتعلموا من أردوغان إغلاق الصحف والقنوات، أم اعتقال الصحافيين، أم فصل الموظفين على الهوية السياسية؟ أم لعلهم يتعلمون من تعديل الدستور ليسمح باستمرار شخص (حتى لو كان الأفضل على الإطلاق) في الحكم عقوداً؟
انعكست الآية، فأصبح السلطويون العسكريون والإسلاميون يتداولون أخباراً مثل “فصل 97 ألف موظف” أو “بدء إجراءات قانونية ضد 103 آلاف شخص منهم 41 محتجزاً في السجون”. أصبح بعضهم يشير إلى هذه الأخبار، ويقول نحن نريد مثل هذا!
بالطبع نتمنى أن يأخذوا من تركيا الانتخابات النزيهة، لكنهم لن يروا نزاهة الصناديق، وسيتعلمون كيفية تزوير ما حولها. إذا زوّرت ما حول الصندوق لا تحتاج للتزوير في الصندوق. الصندوق وحده لا يصنع ديموقراطية. لكن، في المقابل بالتأكيد لا ديموقراطية بلا صندوق مطلقاً.
من المؤسف تصور أن تركيا ترتد تدريجياً إلى تاريخها الطويل مع “الصندوقراطية”، فكل انقلاب يحدث كان تتبعه موجة قمع وسحق للحياه السياسية، ثم، في النهاية، تعلن انتخابات نزيهة قد يفوز فيها قائد الانقلاب نفسه، كما فعل قائد انقلاب 1980، الجنرال كنعان إيفرين. هذه الانتخابات حتى لو كانت سليمة إجرائياً فهي مزوّرة سياسياً.
بدائل حزب العدالة والتنمية في تركيا خارقة السوء، فجماعة غولن، في النهاية، جماعة دينية صوفية بترتيب تنظيمي مرعب لاختراق مؤسسات الدولة، أما العلمانيون الأتاتوركيون فلهم تاريخ أسود من القتل والقمع والإعدامات وتأييد الانقلابات. حالة من انسداد الحلم. الملهم يحتاج من يلهمه.
مهمتنا أصبحت أصعب. واجبنا الحفاظ على خطنا الأخلاقي والسياسي بدون توافر نماذج تطابقه في المنطقة. لعل ما في يدنا الآن أن نشير إلى تجربة ناشئة مثل تونس، ونقول: انظروا، نريد مثل هذا.
العربي الجديد
تركيا: من وصاية الجيش إلى وصاية السلطان/ سلام السعدي
في منتصف العـام 2015 خسر حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم الأغلبية المطلقة في البرلمان، وهو ما اعتبر حينها بمثـابة ضـربة قـاضية لمخطـط تغيير الدستور والهادف إلى توفير صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية. لكن الفتـرة القصيرة التي تلت تلك الخسارة شهـدت تحولات سياسية كبيرة، وصولا إلى التحول إلى النظام الرئاسي بعد استفتاء الأسبوع الماضي.
نبعت تلك التحولات من الرغبة العارمة التي تتملّك رجب طيب أردوغان في الإبقاء على زعامته للبلاد وتمديدها أو تأبيدها عن طريق سلسلة من الألاعيب السياسية والعسكرية التي تحاصر المؤسسات الديمقراطية المقيّدة أساسا بدستور ذي نزعة تسلّطية.
ولتبيّن حجم التغيرات الهائلة التي جرت خلال أقل من عامين، يجب استعادة الأحداث التي قادت إلى استفتاء تحول البلاد إلى النظام الرئاسي.
الحدث الأول أعقب خسارة الانتخابات البرلمانية مباشرة وتمثل في إنهاء العملية السياسية مع حزب العمال الكردستاني والتحول إلى عملية عسكرية شرسة.
وهدف أردوغان من وراء ذلك إلى إشاعة حالة من عدم الاستقرار والخوف لدى الرأي العام التركي، بما قد يؤدي إلى تحشيد أصوات المترددين والقوميين في المعركة الانتخابية التي كان ينوي دخولها بعد عرقلة تشكيل تحالف حكومي.
بنقل النزاع مع الأكراد من مفاوضات وخلاف سياسي قومي إلى حرب عسكرية، سعى أردوغان إلى فتح الباب لإقصاء حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من الحياة السياسية، وهو ما فعله لاحقا باعتقال زعيمه صلاح الدين دمرداش وعشرة من نواب الحزب في البرلمان.
الخطوة الثانية كانت بتنحية أحمد داوود أوغلو عن رئاسة الـوزراء بعد استقالته من رئاسة حزب العدالة والتنمية، واستلام بن علي يلدرم منصب رئاسة الوزراء خلفا له.
ساعد ذلك أردوغان على تركيز السلطات بصورة أكبر بين يديه، وأعطى رسالة للـرأي العام التركي ومؤيديه خصوصا مفادها أنه يعتزم إطلاق مشروع إصلاح حكومي بصورة ما.
أما التحول الثالث فقد تمثل في تضييق الخناق على الأصـوات المعـارضة في تركيـا. إذ أطلقت مؤسسات الدولة الخاضعة لحزب العدالة والتنمية سلسلة من المحاكمات لاحقت من خلالها الإعلاميين والصحافيين المعارضين أو الناقدين للرئيس التركي.
ووصل هوس السلطان بكبت الأصـوات المخالفة إلى ملاحقة معارضيه في دول أوروبية مختلفة، بل ومطالبة تلك الدول بطردهم ومحاكمتهم.
التحول الأبرز حدث في شهر يوليو من العام الماضي، وذلك عندما فشلت وحدات عسكرية في الجيش التركي في محاولة انقلاب كانت ستغيّر وجه البلاد. ولكن وجه البلاد راح يتغيّر على أي حال حيث مكنت تلك المحاولة الفاشلة أردوغان من إبعاد الجيش بصورة تامة عن الحياة السياسية. إذ تلتها مباشرة حملة تطهير سياسي وأمني وعسكري واسعة جدا أدت إلى تمتين سلطات أردوغان وانتهاء عهد تدخل الجيش في الحكم.
فتحت تلك التطورات السياسية المتعاقبة خلال فترة قصيرة الباب للفوز باستفتاء تحويل البلاد إلى النظام الجمهوري. ولكنها لم تكن لتفعل ذلك لولا استفادة حزب العدالة والتنمية من دستور ذي نزعة تسلطية، كان شديد العداء له لدى وصوله إلى السلطة في العام 2002.
جرى إقرار الدستور التركي الحالي في العام 1982 بنية الانتقال من النظام العسكري إلى نظام سياسي ديمقراطي. ويمكن وصفه بأنه دستور شبه ديمقراطي إذ يتضمن وصاية وقيودا كثيرة على السلطتين التنفيذية والقضائية. يشمل ذلك الدور الكبير لمجلس الأمن القومي التركي الذي يحظى فيه الجيش بحضور بارز، ومجلس التعليم العالي، الذي يضم في عضويته عسكريين، ويقوم بتعيين الأكاديميين في المؤسسات التعليمية والجامعية. كما تخضع تعيينات السلطة القضائية للسلطة التنفيذية بدرجة كبيرة.
وكان حزب العدالة والتنمية قد بنى برنامجه للإصلاح السياسي على العداء لهذا الدستور. فخلال السنوات الثماني الأولى من حكمه عمل الحزب بجدية على إطلاق إصلاحات سياسية عززت النظام الدستوري والقضائي، وقلصت من سلطة الجيش، وأطلقت المزيد من الحريات.
ولكن السنوات الأربع الماضية، ومع تمكن حزب العدالة والتنمية من تكريس قوته وضمان سيطرته على الحياة السياسية، عمل على الاستفادة من ذلك الخلل الدستوري الذي يمنع تطبيق فصل السلطات، وهو العمود الفقري لأي ديمقـراطية.
وبدلا من إصـلاحه، عمـل الرئيس رجب طيب أردوغان على الاستفادة من ذلك التشوّه الدستوري ليخدم تمتين صلاحياته كما هو الحال اليوم. وقد ظهر ذلك من خلال التعيينات التي أجرتها السلطة التنفيذية في مناصب عليا في مؤسسة القضاء، بحيث أدت إلى إضعاف تلك المؤسسة وجعلها خاضعة ومتأثرة، بصورة كبيرة، بالسلطة التنفيذية.
وقد سمح ذلك بإطلاق سلسلة من المحـاكمات السيـاسية للصحافيين والمعارضين السياسيين. مثلما سمحت السيطرة على مجلس التعليم العالي بإجراء حملة تطهير في الجامعات والمؤسسات التعليمية بعد الانقلاب العسكري.
التعديل الدستوري الأخير كان يمكن أن يكون خطوة مهمة على طريق تمتين الديمقراطية، لو لم يكن هدفه تمتين سلطات أردوغان. كما كان يجـب أن يتضمن تعـزيز فصل السلطـات وهـو ما لم يحدث. إذ اقتصر على إتاحة الإمكانية لرجب طيب أردوغان للفـوز بالانتخـابات الرئـاسية بأغلبية ضئيلـة للغـاية، في ظل التنـافس مع مـرشحين آخـرين.
كاتب فلسطيني سوري
العرب
فوز لتركيا..وسوريا/ ساطع نور الدين
لا قيمة لأي رأي، ولا وزن لأي رد فعل عربي ( بما فيها الرد الآتي) على الاستفتاء الشعبي لتعديل الدستور التركي وإقامة الجمهورية التركية الثانية. كل ما صدر ويصدر عن اي عربي في هذا الشأن، يخلو من الحياد ويفتقر الى المعرفة البسيطة بما يجري في ذلك البلد المجاور المهم، والمشارك في الكثير في الهموم العربية والمساهم في الكثير من الانقسامات والانحيازات العربية.
فالخطوة التركية هي في المبدأ إفتراق إضافي جديد عن العالم العربي، الذي لا يمكن لأي دولة من دوله ان تجروء، طوال هذا القرن على الاقل، على دعوة ناخبيها الى الاستفتاء على تعديل دستورها وأنماط حكمها وإنتظام مؤسساتها، وأن تخرج من مثل هذه التجربة من دون حرب أهلية أو تقسيم او فوضى أو فراغ.
وما يبدو لبعض العرب أنه تطوير وتحديث لنموذج تركي ناجح لن يكون سوى توسيع للهوة العربية مع تلك الجمهورية التركية الحديثة ، التي ازدادت بالامس منعة وحصانة وديموقراطية، وإقتربت أكثر فاكثر من النماذج والانماط الغربية المتقدمة، لاسيما منها النموذج الاميركي الذي نسخه الاتراك بشكل شبه حرفي وإختاروه مرشداً لدولتهم شبه الفيدرالية، مع الاستعانة ببعض التجارب الاوروبية الغربية الناجحة أيضا.
وما يبدو لبعض العرب أنه إرتقاء في المثال الاسلامي المعتدل والمنفتح، لن يكون سوى تتمة وتتويج لمسيرة حزب يعبر عن العصبية الوطنية التركية أكثر بكثير مما يعتمد على النص الاسلامي في الحكم، او يستند الى مؤسسة دينية او رجال دين يبشرون بالعقيدة ويستخدمونها سلاحا في مواجهة الآخر. ليس هذا هو حزب العدالة والتنمية، الذي بدا في بعض الحالات التركية الداخلية متعارضاً مع الفكرة الاسلامية نفسها. والاستفتاء بحد ذاته خير دليل. والتعديلات الدستورية المتقدمة لا تقود إلا الى هذه الفكرة.
وما يبدو لبعض العرب أنه تعديل دستوري مبتسر يفتقر الى الشرعية الشعبية، لن يكون سوى إستكمال لاستفتاءات وإنتخابات أوروبية غربية، غيرت وجهة دول مهمة وحددت مسارها الاستراتيجي بأغلبيات لم تزد على واحد أو أثنين في المئة كحد أقصى. والاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الاوروبي لم يكن المثال الوحيد. ولعل ذلك الاتحاد سيبقى ويتمدد بغالبيات شعبية أوروبية لا تزيد على النصف في المئة.
وما يبدو لبعض العرب أنه تقدم لتيار إسلامي عربي، او بالتحديد لجماعات الاعتدال الاسلامي مثل الاخوان المسلمين العرب وغيرهم، لن يكون سوى تجديد عابر لإلتزام أخلاقي ونداء سياسي تركي بان تعترف الدول العربية بوجود مثل هذه التيارات في مجتمعاتها وان تشاركها في السلطة وان تستفيد منها في مواجهة التطرف والغلو والارهاب، وفي إخضاعها لمؤسسات الدولة المدنية، بل العلمانية، إذا كان ذلك يساهم في الاستقرار والازدهار.
وبهذا المعنى لا تبدو تركيا محايدة. ولعلها لم تكن كذلك يوماً. لا عندما كانت في ذروة عصبيتها القومية، ولا عندما صارت في ذروة تجربتها الديموقراطية. وكذا الامر بالنسبة الى العرب: لم يكن هناك عربي واحد محايد تجاه تركيا، لا في مستهل الربيع العربي الذي تحمس له الاتراك أكثر من سواهم، ولا في خلاصته الحزينة الراهنة التي كلفت وتكلف الاتراك الكثير من الاعباء والمسؤوليات غير المرغوبة من أي تركي مهما كانت عواطفه وروابطه مع العالم العربي.
لا بد من الاقرار بأنه ليس هناك موقف عربي محايد او موضوعي، او حتى معرفي، من تركيا وجمهوريتها الثانية العتيدة، بسبب دورها في سوريا خاصة. هي طرف مباشر ومن دونها لا يمكن لأحد ان يزعم ان الثورة السورية يمكن ان تصمد لأسابيع او لأشهر أمام الإجتياح الروسي الإيراني الواسع . هذا هو معيار الحكم الأهم على نتائج الإستفتاء التركي، وهذا هو مصدر التهاني او التعازي العربية بذلك النصر الواضح الذي حققه رجب طيب أردوغان.
لم تعد تركيا نموذجاً. لم تكن كذلك في أي يوم. هي تبتعد في الجوهر عن المجال العربي، لكنها تقترب من الإسهام الجدي في تغيير النظام في سوريا. وهذا يكفي.
المدن
أردوغان انتصر… لكنّ الأصعب أمامه/ مراد يتكن
حقق الرئيس رجب طيب أردوغان حلماً كان يسعى إليه منذ عشر سنوات بتحويل تركيا إلى نظام رئاسي، واليوم لا حاجة له الى دعم القوميين أو غيرهم، وهو الرئيس القوي. وأعلن أردوغان عن فوز فريقه واتصل مهنئاً بشركائه السياسيين لحصولهم على نسبة 51.4 في المئة من أصوات نحو 55 مليون ناخب. لكن هذا الاستفتاء لفّته ظلال شك كثيرة بسبب اللجنة العليا للانتخابات. فرئيس اللجنة هذه، سعدي غوفان، كان آخر المتكلمين عن النتيجة على غير عادته، والتفسيرات التي ساقها حول موقف اللجنة من الأصوات والظروف غير الممهورة لم تقنع أصحاب الضمير الحي في حزب «العدالة والتنمية» المستفيد من هذه الواقعة. فغوفان غيّر، قبيل فرز الأصوات، القوانين، وأعلن قبول واعتماد الظروف غير الممهورة، وكأنه حكم في مباراة كرة القدم يغير قوانينها في الشوط الثاني لمصلحة فريق على حساب الآخر.
وقال زعيم المعارضة، كمال كيليجدار أوغلو، أنه طالما أن واحداً من كل اثنين أعلن رفضه للنظام الرئاسي، لا تقوم قائمة لكلام عن تغيير دستوري يعبر عن رأي غالبية الشعب. وفي النتائج نقرأ عدداً من الملاحظات المهمة، أولها خسارة الحزب الحاكم وحلفائه كبرى المدن التركية، وعلى رأسها أنقرة وإسطنبول. وصوت كل من هاتين المدينتين ضد النظام الرئاسي، علماً أنهما في السابق لم تخذلا أردوغان منذ دخوله الانتخابات في 1994. كما أن أزمير التي ركز عليها رئيس الوزراء في حملته الانتخابية بلغت فيها نسبة الرفض نحو 70 في المئة، وهذه رسالة قوية. وثمة محافظات كانت حكراً على نفوذ حزب «العدالة والتنمية» الحاكم والقوميين، مثل أنطاليا وأضنة ومرسين، قالت كلها لا للنظام الرئاسي.
ويمكن القول إن المناطق الأكثر تقدماً في الصناعة والتجارة والتعليم والثقافة قالت لا للنظام الرئاسي. لكن طبعاً هذه هي الديموقراطية: لا فرق بين صوت التاجر والمزارع، ولا بين المدني والفلاح. لكن من الواضح أن ثمة انقساماً مجتمعياً بين القرية والمدينة لا يمكن اغفاله بعد هذه التجربة. وواجه من قاد حملة رفض النظام الرئاسي ضغوطاً كبيرة وظروفاً وشروطاً غير عادلة، بل انهم حتى تحمّلوا تهمة أنهم إرهابيون وانقلابيون، ومع ذلك نجحوا من طريق وسائل بسيطة جداً في حمل واحد من كل اثنين من الأتراك على قول لا لهذا النظام الرئاسي. نسبة الواحد وخمسين في المئة بعيدة عما كان يريده الرئيس أردوغان الذي أعلن أنه يرغب في نحو 60 في المئة من التأييد. وهي بعيدة كذلك من توقع الحزب الحاكم ألا يقل التأييد عن 56 في المئة. وعلى المستوى القانوني، لا فرق، طبعاً، بين مرور المشروع الرئاسي بنسبة دعم 60 في المئة أو 51 في المئة.
ولكن ثمة فارقاً مهماً إذا نظرنا الى الناحية السياسية للموضوع. وقاد زعيم المعارضة، كيليجدار أوغلو، حملة الرفض منفرداً، بسبب سجن القيادات الكردية الرافضة للمشروع الرئاسي. وهو كان الزعيم الوحيد في الساحة السياسية الذي يقود هذه الحملة، مقابل حملة الرئيس ورئيس الوزراء وزعيم الحركة القومية. وعلى رغم أن مجموع أصوات حزب «الشعب الجمهوري» المعارض وحزب «الشعوب الديموقراطية» المحسوب على الأكراد في الانتخابات الأخيرة لم يتجاوز 45 في المئة، نجح كيليجدار أوغلو في رفع هذه النسبة إلى 49 في المئة، علماً أن ثلث أصوات الأكراد تحولت هذه المرة لمصلحة معسكر الحكومة. وهذا يعني أن كيليجدار أوغلو أحرز اختراقاً مهماً في جبهة اليمين والمصوتين للحزب الحاكم، وهذا أمر غير مسبوق.
وعليه، لن تتصرف كوادر حزب «الشعب الجمهوري» على أنها خسرت هذا الرهان. فهي نجحت في استمالة كتلة شعبية أكبر. كما أن الرافضين للمشروع الرئاسي كانوا يؤكدون ضرورة البقاء على تواصل مع الاتحاد الأوروبي والغرب، وتنمية الثقافة، وحماية العلمانية، والحريات وحقوق الإنسان.
ولكن أردوغان سارع خلال إعلان فوز معسكره وفي خطبة أمام جماهيره، الى الحديث مجدداً عن عقوبة الإعدام التي ألغاها حزبه قبل أكثر من عشر سنوات بحجة أنها تنافي حقوق الانسان. وعودة هذه العقوبة لن تهوي فقط بتركيا إلى مصاف الدول النامية والمتخلفة ديموقراطياً، وإنما ستضرب علاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي وقد تنهي مسيرة المفاوضات معه على العضوية فيه. والصورة واضحة اليوم، ويكفي أن نتأمل في صورة أردوغان وهو يلقي كلمة النصر في قصره: لم ترتسم فرحة النصر على وجهه، بل كان مكفهراً وكأنه لا يعلم ماذا يفعل بهذه النتيجة الهزيلة. نعم أردوغان قانونياً وعددياً انتصر، لكن مهمته زادت صعوبة سياسياً.
* كاتب، عن «حرييات» التركية، 17/4/2017، إعداد يوسف الشريف
الحياة
خطر القطيعة بين تركيا وأوروبا/ دوروتيه شميدت
اشتد توتر العلاقات الأوروبية – التركية في الشهر الأخير. وإثر حظر تجمعات السياسيين الأتراك في ألمانيا، أعلنت هولندا أنها لا ترغب في استقبال الوزراء الأتراك. وأزمة الثقة بين الطرفين تعاظمت، وساهمت في استئناف الطعن في مسار عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي- وهذه بدأت في 2005 ولم تتقدم مذ ذاك.
ويصف رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، الاتحاد الأوروبي بـ «النادي المسيحي»، وهو يرمي من تنظيم استفتاء (على تحول النظام التركي من برلماني إلى رئاسي) إلى وقف مشروع انضمام تركيا إلى «النادي» هذا.
وتنظر مؤسسات بروكسيل وعدد من العواصم الأوروبية نظرة سلبية إلى أنقرة منذ أن بدأت تصف برلين وأمستردام وفيينا بالنازية والفاشية، وتتهمها بالعنصرية والخوف من المسلمين والارتياب منهم. وهذه الحملة الخطابية التحريضية هي كوميديا انتخابية.
والحمى القومية التي أصابت حزب «العدالة والتنمية»، وهو في السلطة منذ 2002، مردها إلى الحاجة إلى رص الصفوف واستمالة ناخبين من أقصى اليمين، وهذا نفوذه يتعاظم مثلما هي الحال في أوروبا.
وعدوى توتر المجتمع التركي انتقلت إلى أوروبا: فالجماعات المتحدرة من تركيا- وهي منقسمة بين اليسار واليمين، والعلمانيين والإسلاميين، والترك والأكراد- تتصادم بين مؤيد لأردوغان ومؤيد لفتح الله غولن المتهم بالوقوف وراء محاولة انقلاب تموز (يوليو) 2016. وتواجه ناخبون كرد مع قوميين أتراك بالسكاكين أمام القنصلية التركية في بروكسيل وهم ينتظرون دورهم لإدلاء صوتهم، ويتقدم ديبلوماسيون وعسكريون أتراك يومياً بطلبات لجوء إلى دول أوروبية يعملون فيها. ويرفع متظاهرو «حزب العمال الكردستاني»، وهو مدرج على لائحة المنظمات الإرهابية، صور عبدالله أوجلان، ويدعون إلى قتل الرئيس التركي.
والانزلاق نحو العنف وثيق الصلة بتحولات النظام السياسي في تركيا. وأنقرة، منذ العام المنصرم، تدور في دوامة. فالسلطة التنفيذية تدور على وقع القمع والفوضى: أدى الانقلاب العسكري الفاشل إلى سقوط 300 قتيل، فسُرِّح عشرات آلاف الموظفين من مناصبهم، واتُهم أتراك كثر بالتعاطف مع حركة غولن أو «الكردستاني» أو داعش. ورمي أكثر من 100 صحافي في السجن جزاء جرائم رأي. فتركيا اليوم منقسمة ومضطربة. وهي كذلك في حرب: في سورية تقود منذ آب (أغسطس) المنصرم، حملة عسكرية انتهت إلى انتزاع مدينة الباب من يد داعش. وتحتل القوات التركية منطقة فاصلة تحول دون توحيد الأقاليم الكردية على حدودها.
وإلى الحرب في سورية، تواجه قوات الأمن التركي منذ 2015، «الكردستاني» في نزاع خلف مئات الضحايا من الجانبين ودماراً كبيراً، وترتب عليه نزوح عشرات الآلاف في جنوب شرقي البلاد. وهذا البلد تعس فيه النيران وهو شريك بارز للغرب. فتركيا هي قوة نامية واعدة في المجال الاقتصادي، وهي منطقة تقاطع جغرافي – استراتيجي تتلقى التمويل الأوروبي. وهي ركن حلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط، وشريك لا غنى عنه في إدارة أزمة اللاجئين. وإثر خيبة أنقرة من واشنطن، مالت إلى التقرب من روسيا البوتينية. ولكن لا مناص أمام تركيا من التفاهم مع الاتحاد الأوروبي.
وحين طي الحملات الانتخابية في تركيا وأوروبا، تكبر الحاجة إلى احتواء تغير الوجهة السياسية والاستراتيجية في أنقرة. فإبرام شراكة أوروبية أكثر وضوحاً وأكثر تطلباً يطمئن الأتراك.
* محللة، مديرة برنامج «تركيا المعاصرة» في مركز «إيفري»، عن «ليكسبريس» الفرنسية، 12/4/2017،
إعداد منال نحاس
الحياة
فوز أردوغان بالاستفتاء نكسة لمشروعه ونكبة على شعوبنا/ جلبير الأشقر
يُعتبر الفوز بانتخابات رئاسية أو برلمانية عادية بنسبة 51.5 بالمئة فوزاً معقولاً، إذا كانت الانتخابات المذكورة نزيهة يعترف الخاسرون المعلَنون بشرعيتها. وهذا ما جرى لمّا فاز حزب العدالة والتنمية التركي بانتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 بحصوله على 49.5 بالمئة من الأصوات، بصرف النظر عن أن هذه النتيجة جاءت بعد حملة مسعورة خاضها زعيم الحزب، رجب طيب أردوغان، بلعبه على وتر التعصب القومي التركي وتحالفه مع أقصى اليمين القومي. كان ذلك من أجل التعويض عن خسارته للأكثرية البرلمانية في الانتخابات التي سبقت وجرت في حزيران/ يونيو من العام ذاته وحصل فيها الحزب الحاكم على أقل من 41 بالمئة من الأصوات، وقد أعيد إجراء الانتخابات بنتيجة العجز عن تشكيل حكومة ائتلافية.
لكنّ الأمر يختلف جذرياً هذه المرّة إذ يتعلّق بمشروع لتغيير مؤسسات البلاد بما يؤدي إلى منح الرئيس سلطات تتعدّى السلطات الدستورية لأمثال فلاديمير بوتين وعبد الفتّاح السيسي وتجعل من تركيا جمهورية سلطوية، بعد أن كان يُضرب المثل بها للتدليل على «إمكانية التوافق بين الإسلام والديمقراطية». بالتأكيد فإن هذه الطريقة الأخيرة في طرح الموضوع طريقة فاسدة «استشراقية»، إذ أن المسألة لا تكمن في ديانة الناس بل في الشروط السياسية والاجتماعية التي لا بدّ من توفّرها لإرساء الديمقراطية. إلّا أن انزلاق رجب طيب أردوغان المتزايد نحو الحكم الفردي السلطوي، الذي حاول حتى بعض أركان حزبه التصدّي له (ومنهم الرئيس السابق عبد الله غُل ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو)، هذا الانزلاق إذن سوف ينضاف حتماً إلى مآسينا العربية التي باتت لا تُحصى، ولا سيما انتكاسة «الربيع العربي» وما حمله من آمال في التغيير الديمقراطي، بحيث يُعزّز التصوير النمطي الاستشراقي للإسلام الذي يزعم تناقضه مع الديمقراطية وانسجامه مع الاستبداد، ذاك الذي كان يُسمّى في الغرب الأوروبي «الاستبداد الشرقي».
بيد أن حقيقة الأمر هي أن مشروع أردوغان السلطوي قد مُني بهزيمة في استفتاء يوم الأحد الماضي، إذ رفض قسم عظيم من الشعب التركي (إن لم يكن غالبيته) التخلّي عن النظام الديمقراطي الذي نعموا به منذ بداية القرن الواحد والعشرين. فإن مشروعاً يرمي إلى تركيز السلطات بين يدي رجل واحد، هو أردوغان (يسمح له التغيير الدستوري بالبقاء في الحكم حتى عام 2029)، يقتضي موافقة شعبية ضخمة على منح السلطة للزعيم المذكور كي يكون مقبولاً بوصفه شرعياً.
وهذا المقياس هو الذي يجعل بوتين رئيساً سلطوياً شرعياً من حيث أن أحداً لا يشكّ في أنه يحوز على شعبية ساحقة، حتى وإن كانت بعض الدلائل، ولا سيما تظاهرات المعارضة الأخيرة، تشير إلى بداية انفراط عقد تلك الشعبية.
أما الأغلبية التي حصل عليها أردوغان دعماً لمشروعه السلطوي فلا تفوق النصف سوى بقليل، بالرغم من خوضه حملة بشروط أبعد ما تكون عن العدالة الديمقراطية، مسخّراً إمكانيات الدولة لحملته بعد أن زجّ في السجون عدداً قياسياً عالمياً من الصحافيين.
وتعترض المعارضة على العملية الانتخابية مشيرةً إلى انتهاكات عديدة لنزاهتها بما يجعلها لا تعترف بشرعية التغيير الدستوري. يُضاف إلى ذلك ويفاقمه أن المليون ومئة و24 ألفاً من الأصوات التي تفوّق بها مشروع أردوغان على معارضيه أتاه ما يناهز ربعها من المهاجرين، لا سيما في أوروبا الغربية حيث حصل المشروع الدستوري على تأييد نسب من الناخبين الأتراك تراوحت بين 63 في المئة في ألمانيا و75 في المئة في بلجيكا. وهذا ما يفسّر الغاية من حملة التعصّب القومي الأرعن التي شنّها أردوغان على الحكومات الأوروبية مشبّهاً إياها بالفاشية والنازية دون أن يلتفت إلى أن سلوكه الشعبوي السلطوي أقرب بكثير إلى تقاليد الفاشية التاريخية من سلوك الحكومتين الألمانية والهولندية.
وحصيلة الأمر أن أردوغان سوف يستند في تغيير حكم بلاده إلى أغلبية 51.5 في المئة، وهي (لو افترضنا أنها حقيقية) نسبة محدودة جداً بالمقارنة مع الاستفتاءات الدستورية الأقل خطورة التي نظّمها سابقاً: 69 في المئة في استفتاء عام 2007 و58 في المئة في استفتاء عام 2010. هذا بينما رفض المشروع الدستوري عددٌ عظيم من الناخبين القاطنين في تركيا، يناهز 24 مليوناً، بمن فيهم حسب الأرقام الرسمية ذاتها أغلبية سكان المدن التركية الثلاث الكبرى، وهي إسطنبول وأنقرة وإزمير. ينضاف إلى ذلك ميل الاقتصاد التركي إلى الانحدار منذ ستّ سنوات الذي ينعكس في هبوط سعر صرف الليرة التركية (من 1.50 ليرة تركية للدولار الواحد في سنة 2011 إلى 3.70 ليرة في الأيام الأخيرة) على خلفية ارتهان وثيق للاقتصاد التركي بالسوق الأوروبية وبالاستثمارات الأوروبية يزيد من خطورة حملات أردوغان ضد الأوروبيين.
تُشير كل هذه الوقائع إلى أن تركيا تسير نحو الهاوية، يقودها إليها بخطى سريعة رجب طيب أردوغان. ولمّا كانت تركيا قد باتت إحدى الدول الرئيسية الفاعلة في ساحتنا العربية، ولا سيما في العراق وسوريا، فإن هذا الأفق يُنذر أيضاً بعواقب وخيمة علينا. وقد رأينا كيف تخلّى أردوغان عن المعارضة السورية في شرقي حلب لقاء ضوء أخضر من بوتين لتدخّل القوات التركية في شمال سوريا بغية قطع الطريق أمام القوات الكردية. وبإضعاف نفسه من خلال التشبّث بمشروع فرعوني مرفوض من قسم عظيم من شعبه، يمهّد أردوغان الطريق أمام مغامرات ومساومات أخرى على حساب شعوب تركيا وسائر المنطقة.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي
هل تسير تركيا إلى “دكتاتورية منتخبة”؟/ علي أنوزلا
أدى الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا إلى إحداث حالةٍ من الاستقطاب الحاد داخل المجتمع التركي بين مؤيديه ومعارضي نتائجه، واتسعت دائرة الخلاف، لتتجاوز التعديلات الدستورية إلى الخلاف حول شخص رجب طيب أردوغان، باعتباره من كان وراءها، والمستفيد الأول منها.
وبالنسبة لمعارضي هذه التعديلات، فإنهم يخشون أن تؤدي إلى ترسيخ حكم الفرد الواحد، وتؤسّس منظومة ديكتاتورية فعلية في بلادٍ لم تتعاف بعد من حكم العسكر، ولم تتخلص بعد من خطر الانقلابات العسكرية. أما مؤيدو هذه التعديلات فينظرون إليها على أنها خطوةٌ إلى الأمام لإحداث تغييراتٍ جذرية في السياسة التركية، من خلال وجود حكم تنفيذي قوي في يد شخص واحد تسلم له مقاليد قيادة البلاد نحو التقدم المنشود.
حالة الاستقطاب الداخلي التي أحدثتها هذه التعديلات، وقسمت المجتمع التركي إلى مؤيد ومعارض لأردوغان، تجاوزت الحدود التركية إلى العالمين العربي والإسلامي، واخترقت حتى صفوف الإسلاميين في كل مكان، ممن كانوا ينظرون إلى تجربة أردوغان في الحكم نموذجاً لنجاح الإسلام السياسي في القيادة والحكم والتسيير.
ولا شك في أن أردوغان نجح في قيادة بلاده خلال الخمس عشرة سنة الماضية، ووضعها في مصاف الدول المتقدمة ومن بين الأنظمة الاقتصادية القوية في العالم. وقد بدأ عهده بسياسة “صفر نزاعات”، أي تجاوز كل ميراث النزاعات القديمة التي كانت بين الإمبراطورية العثمانية والدولة التركية التي خَلَفتها ومحيطها الجغرافي الإقليمي. وساهمت تلك السياسة الذكية في النهوض بتركيا قوة إقليمية صاعدة، إلى أن أصبحت اليوم من أقوى الدول المؤثرة في محيطها وفي العالم. وقد تمكّنت تركيا من تحقيق نجاحها الاقتصادي بفضل نظامها الديمقراطي الذي أتاح، لأول مرة، لحزب إسلامي قيادة البلاد، وأدى هذا النجاح إلى إيجاد نموذجٍ لما سمي نظام الحكم الإسلامي الديمقراطي.
اليوم، ومع التعديلات الدستورية التي ستنتقل بتركيا من نظامٍ برلماني تعدّدي إلى نظام رئاسي،
“حققت تركيا أهم نجاحاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل النظام الذي جاءت التعديلات لتغييره” كل السلطات ستصبح فيه مركزة في يد شخص واحد، يخشى مؤيدو أردوغان، قبل معارضيه، من أن يؤدي ذلك إلى انهيار النموذج السياسي والاقتصادي الذي باتت تمثله تركيا في عالم اليوم، وأن تتحول قصة النجاح التركي إلى كابوس مروّع.
وهناك اليوم من يتساءل إن كانت تركيا بالفعل في حاجةٍ إلى مثل هذه التعديلات؟ فتركيا حققت أهم نجاحاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل النظام الحالي الذي جاءت التعديلات لتغييره. وحتى أردوغان الذي يُعتقد أن إغراء السلطة دفعه إلى طرح هذه التعديلات كان يتصرف كرئيس له كامل الصلاحيات.
يعتقد من صوتوا أو أيدوا هذه التعديلات أن أردوغان في حاجةٍ إلى صلاحيات واسعة أكثر من الممنوحة حاليا لرئيس الجمهورية لتحقيق النهضة التركية التي وعد بها. أما المعارضون فلا يرون فيها سوى انتقالٍ من نظام برلماني تعدّدي إلى نظام رئاسي فردي سيجعل أردوغان يستمر في الحكم حتى 2029، مسجلا بذلك رقما قياسيا ستضاهي به تركيا أسوأ الدكتاتوريات في تاريخ العالم، عندما يستمر حكم أردوغان 28 عاما بالتمام والكمال.
أول متضرّر اليوم من هذه التعديلات الدستورية هو أردوغان نفسه الذي يُعتقد أنه المستفيد الأول منها أيضا، فالنموذج “الأردوغاني” المبني على الحكم الفردي، والذي طالما جذب معجبين كثيرين به هو اليوم في طريقه إلى التأسيس لدكتاتورية جديدة، “دكتاتورية منتخبة”. ومن يعود إلى قراءة التاريخ يكتشف أن أسوأ الدكتاتوريات في العالم وأكثرها ضررا للبشرية كانت هي “المنتخبة”.
عاش أردوغان، أخيرا، تجربتين عصيبتين، المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصيف الماضي، والاستفتاء على التعديلات الدستورية لتوسيع صلاحياته رئيساً، وفي الحالتين خرج أردوغان منتصرا، لكنه انتصارٌ بطعم الخسارة، حتى لا أقول “بطعم الهزيمة” كما وصفت ذلك “بي بي سي”، والخاسر الأكبر في الحالتين هو النموذج الديمقراطي التركي الذي كان أردوغان مؤسسه وعنوانه.
وبهذه التعديلات الدستورية، وضع أردوغان بلاده وشعبه أمام مفترق طرق كبير وحاسم، إما
“خرج أردوغان منتصرا،
لكنه انتصارٌ بطعم
الخسارة” أن يختار أن يكون موحّدا ليعيد ترميم التجربة الديمقراطية التي بدأت تتآكل، حتى قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة، أو أن تؤدي نتائج الاستفتاء إلى تعميق حالة الاستقطاب الحاد داخل المجتمع التركي، المنقسم على نفسه، ما قد يمهد لحكم استبدادي طويل، أو قد يُسرع بمحاولة انقلابية جديدة، تعود بالبلاد إلى حكم العسكر الذي لم يودّعه الشعب التركي إلا قبل سنوات قريبة.
فتركيا الحديثة، وعلى الرغم من تجربة حزب العدالة والتنمية التي حاولت أن تصالح بين العلمانية والديمقراطية، ما زالت لم تفطم بعد، وتاريخها الاستبدادي الذي رعته، ونظرت له “أصولية علمانية”، في سياق تاريخي وثقافي معقد، تحول فيه الجيش فيه إلى حارس للعلمانية ومناهض للديمقراطية. وخلال فترة حكم “العدالة والتنمية” (حزب أردوغان) بدا وكأن تركيا أصبحت قادرةً على المصالحة بين “الإسلام السياسي” و”العلمانية” و”الديمقراطية”. لكن، اليوم هناك مخاوف مشروعة من أن المحاولة الانقلابية الفاشلة وخطر تكرارها الذي مازال قائما، والاستفتاء على التعديلات الدستورية التي زادت من تقسيم المجتمع التركي، سيعيدان أكبر بلد سني في الشرق الأوسط إلى المربع الأول، ويضعانه أمام خيارين صعبين: العودة إلى “الأصولية العلمانية” أو الخضوع لأصولية جديدة هي “الأصولية الدينية الديمقراطية” التي يخيف شبحها كثيرين في العالم، في منطقة تشهد مخاضا تاريخيا، يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في أغلب بلدانه. وما بين الخيارين، يوجد خيار ثالث هو خيار الديمقراطية التي تتطلب تنازلاتٍ، وتُبنى على توافقات يفتقدها المجتمع السياسي التركي اليوم.
من المؤسف أن يتحوّل أردوغان الذي كان يُعتبر، بدون منازع، أول قائد للتجربة الديمقراطية التركية الفتية، ونموذجا للإسلام السياسي الديمقراطي، إلى أكبر خطرٍ يهدّد نموذجه وتجربته، وأكبر خطرٍ على الديمقراطية نفسها المهدّدة اليوم في تركيا!
العربي الجديد
عن رفض حزب الشعوب في تركيا تعديل الدستور/ داريوس الدرويش
حين طرح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزبه (العدالة والتنمية)، في فبراير/ شباط الماضي، التعديلات المقترحة على دستور بلاده، ظهرت “أسطورة” تقول، إن على الكرد التصويت بـ “لا” في الاستفتاء بشأن هذه التعديلات، من دون مراجعة جديّة لأسباب اتّخاذ قرار كهذا أساساً، والاكتفاء بكلام عام أن الديمقراطيّة التركيّة لا تأخذ بالاعتبار المطالب والحالة والظروف الكرديّة. لم تكن هذه الأسطورة قابلة للنقد قبل ظهور نتائج الاستفتاء، ولكن بعد ظهورها أصبح المنتقدون في حلٍّ من الاتهامات ضدهم بـ “تسويق مشروع أردوغان” ومحاولة إنجاح استفتائه، وباتوا يمتلكون حريّة أكبر في إجراء بحث أوضح عن دوافع حزب الشعوب في معارضة هذه التعديلات الدستوريّة.
الحجج التي سيقت لتبرير هذا الموقف دارت بمجملها حول مسألة الحكم في تركيا والنقاش حول طبيعة نظامها الديمقراطي، وهو موضوع سيطر على النقاش العام في معظم أنحاء البلاد، ولكن من وجهات نظر تمثّل مصالح كلّ الأحزاب السياسيّة في تركيا، باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي؛ فمن شأن التحوّل إلى النظام الرئاسي أن يحيّد السلطة التنفيذيّة عن السيطرة البرلمانيّة، وهو ما يناسب حزب العدالة والتنمية الذي يحكم سيطرته على البرلمان، ويسعى إلى سيطرة مطلقة على السلطة التنفيذيّة أيضاً، ولا يناسب حزب الشعب الجمهوري الذي يعارض تلك التعديلات، خشية فقدانه التأثير على السلطة التنفيذيّة، إذا ما حصل، في وقتٍ ما، على غالبيّة برلمانيّة وحده أو ضمن ائتلاف برلماني.
ولكن، ما هو تأثير النظام الرئاسي على حزب الشعوب؟ كيف يمكن لحزبٍ لم يحصل في
“لم يشهد الوضع الكردي أيّ تحسّن معتبر عبر تاريخ تركيا بين الأنظمة المختلفة” تاريخه على أكثر من 15% من مقاعد البرلمان، ولا يُتوقّع حصوله على أيّ نسبة تقارب الغالبيّة البرلمانيّة، ولا يُحتمَل تشكيله تحالفاً مع الأحزاب الرئيسيّة في المعارضة، أن يعتبر أنّ النظام الرئاسي أو البرلماني سيشكّل أيّ فارقٍ سلبي، بالنسبة لمصلحته الحزبيّة على الأقل؟
من جهة أخرى، لا تحمل هذه التعديلات أيّ سلبيّات إضافيّة، ليس للحزب فقط، بل حتّى بالنسبة للقضيّة الكرديّة في تركيا عموماً، فصحيح أنّه ثمّة مصلحة ما للكرد في الديمقراطيّة، لكنّها ليست مشكلتهم الوحيدة في تركيا، إذ لم تمنعهم الديمقراطيّة التي أوصلت مندوبي حزب الشعب الجمهوري إلى البرلمان التركي من التصويت لصالح قانون رفع الحصانة عن البرلمانيّين الكرد، بهدف إزالة كل العقبات من أمام أردوغان لينهي “الإرهاب” تحت قبة البرلمان، كما صرّح حينها رئيس الحزب، كمال كليجدار أوغلو. أضف إلى ذلك أنّ قضايا كرديّة عديدة نوقشت في البرلمان التركي لاقت رفضاً مسبقاً من أحزاب المعارضة التركيّة، قبل حزب العدالة والتنمية (الحاكم). كما أنّ الحياة السياسيّة التركيّة لم تنتج، حتّى الآن، إلا من يمكن وصفهم بأنهم سياسيّون عنصريّون تجاه الشعب الكردي، استطاعوا، في حالات معيّنة، جمع الفاشيّة واليسار في شخص واحد، مثل بولند أجاويت. وفي المجمل، لم يشهد الوضع الكردي أيّ تحسّن معتبر عبر تاريخ تركيا بين الأنظمة المختلفة، ديمقراطيّةً كانت أم عسكريّة، رئاسيّة أم برلمانيّة، يساريّة أم يمينيّة. بل كان من الممكن، وبمنطق كليجدار أوغلو نفسه، الاستفادة كرديّاً من النظام الرئاسي لـ”إزالة كلّ العقبات” من أمام إردوغان، لينهي الأحزاب العنصريّة تحت قبّة البرلمان.
يبدو ممّا سبق أنّ القرار الذي اتّخذه حزب الشعوب الديمقراطي لم يُبن على أساس مصالح
الفئات التي يمثّلها، مثل معظم الأحزاب في العالم، ولا على أساس مصالحه الحزبيّة الخاصّة. ولكن، في الوقت نفسه، لا يمكن القول، إنّ موقفه مستندٌ إلى قيم ديمقراطيّة كونيّة، بل يبدو أنّه اتّخذها انطلاقاً من محاكماته الأيديولوجيّة كأيّ ناشطٍ “ثوري”؛ فمن جهةٍ، لا تسمح طبيعة تلك التعديلات التي لا تمثّل أساساً إلا تغييراً سطحياً لا يطاول البنى الرئيسيّة للنظام القائم، ويماثلها مع ما هو حاكمٌ في دول ديمقراطيّة عديدة الجزم بأنّ معارضيها “ديمقراطيّون”. ومن جهة أخرى، فإنّ النموذج الذي تقدّمه الأيديولوجيا شبه الرسميّة للحزب، ويطبّقها حليفهم في شمالي سورية لا يشجّع على القول بوجود دافع ديمقراطي لدى حزب الشعوب، إذ إنّه يختلف مع تلك التعديلات من جهة أنّ كلّ الصلاحيّات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة لا تملكها أيّ سلطة قانونيّة ودستوريّة (لا رئاسيّة ولا غيرها) في شمالي سورية، بل تعود فعليّاً إلى قيادات حزبيّة لديها القرار الفصل فيها.
يحتاج حزب الشعوب، في هذه المرحلة، التحرّر من الأيديولوجيا التي تقيّد نضاله في سبيل حقوق الشعب الكردي في تركيا، وإذا لم يتوفّر على مرونة سياسيّة كبيرة فقد يضع الكرد في مواجهاتٍ، هم في غنى عن إضافتها إلى أحمالهم الثقيلة أصلاً، وقد يضيّع عليهم فرصاً تؤخّر حريّتهم التي طالما حلموا بها.
العربي الجديد
الاستفتاء الدستوري.. هل هو بداية جمهورية جديدة في تركيا؟
ترجمة وتحرير شادي خليفة – الخليج الجديد
في 20 يناير/كانون الثاني من عام 1921، القانون الأساسي بتركيا. ولم تمضِ أكثر من ثلاث أعوام حتى قام مصطفى كمال، المعروف بأتاتورك، بإعلان جمهورية تركيا، لكنّ التشريع كان سمة حاسمة للنظام الجديد الذي يتشكل في الأناضول.
وتم تنظيم البلد الجديد الذي يدعى تركيا، على عكس الإمبراطورية العثمانية، على أسسٍ حديثة. وقرر أن تديره فروع تنفيذية وتشريعية، فضلًا عن مجلس وزراء يتألف من ممثلين منتخبين للبرلمان. وما كان في السابق سلطة السلطان، الذي يحكم وحده مع شرعية سياسية ودينية، وضعت في أيدي المشرعين.
وسواءً فهموا ذلك أم لا، عندما صوت الأتراك بـ «نعم»، كانوا حينها يسجلون معارضتهم للقانون الأساسي ونسخة الحداثة التي كان يتصورها أتاتورك ويمثلها. وعلى الرغم من أنّ المعارضة لا تزال رافضة لنتائج التصويت النهائية، يبدو أنّ الشعب التركي قد أعطى أردوغان وحزب العدالة والتنمية رخصة لإعادة تنظيم الدولة التركية، وهدم القيم التي بنيت عليها. وحتى وإن كانت معنوياتهم ضعيفة بعد هزيمتهم، إلا أنّ مشروع «أردوغان» سيلقى الكثير من المقاومة بين مختلف الرفض.
وقد أعاد الإسلاميون في تركيا الافتخار بالفترة العثمانية. وبقيامهم بذلك، قد أعربوا ضمنًا عن ازدراءٍ مبطن للجمهورية التركية. وبالنسبة إلى «نجم الدين أربكان»، الذي قاد الحركة الإسلامية من أواخر الستينيات إلى وقت ظهور حزب العدالة والتنمية في أغسطس/آب عام 2001، كانت الجمهورية تمثل التخلّي عن الهوية الثقافية لصالح العلمانية القمعية، وخدمة معتقدات وأفكار أتاتورك الخاطئة في السعي لتغريب البلاد لتكون أكثر قبولًا لدى الغرب. وبدلًا من ذلك، رأى أنّ المكان الطبيعي لتركيا ليس في مقر الناتو في بروكسل بل كزعيم للعالم الإسلامي الذي يجب أن يكون حلفاؤه باكستان وماليزيا ومصر وإيران وإندونيسيا.
عندما انفصل عنه تلاميذه ومن بينهم «أردوغان» والرئيس السابق «عبد الله غول»، وأنشئوا حزب العدالة والتنمية، تخلوْا عن خطاب الحرس القديم المناهض للغرب، والتزموا بإنجاز ترشح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، وقدموا أنفسهم بوعي في صورة النظير الإسلامي للديمقراطيات المسيحية في أوروبا. ومع ذلك، فقد احتفظوا بالأفكار الإسلامية التقليدية حول دور تركيا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع.
وقد أثار المفكرون في حزب العدالة والتنمية، ولاسيما رئيس الوزراء السابق «أحمد داود أوغلو»، تحفظاتٍ حول مدى توافق المؤسسات السياسية والاجتماعية الغربية مع مجتمعهم الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي. لكنّ قيادة حزب العدالة والتنمية لم تتصرف أبدًا بناءً على هذه الفكرة، بل اختارت بدلًا من ذلك تقويض جوانب إرث أتاتورك في إطار الجمهورية. لكن لم يعد هذا هو الحال.
ويرى حزب العدالة والتنمية ومؤيدو التصويت بـ «نعم» أنّ الانتقادات الموجهة للتعديلات الدستورية غير عادلة. ويؤكدون على أنّ التغييرات لا تقوض البرلمان المنتخب شعبيًا والرئيس، فضلًا عن القضاء المستقل. وهذا صحيح تمامًا، لكنّه يعد أيضًا وصفًا ضيقًا للغاية للنظام السياسي الذي يتصوره «أردوغان». بل إنّ السلطات التي ستُمنَح للرئاسة التنفيذية واسعة، بما في ذلك القدرة على تعيين قضاة دون تدخل من البرلمان، وإصدار مراسيم لها قوة القانون، وحل البرلمان. وسيكون للرئيس أيضًا الحق الوحيد في جميع التعيينات العليا في الحكومة وممارسة السيطرة الحصرية على القوات المسلحة. وتلغي التعديلات الحاجة إلى منصب رئيس الوزراء، الذي سيُلغَى. ويحتفظ البرلمان ببعض الصلاحيات الرقابية والتشريعية، ولكن إذا كان الرئيس والأغلبية من نفس الحزب السياسي، فإنّ سلطة الرئاسة ستكون غير مقيدة. وتبين اليوم أنّ «أردوغان»، الذي سيمارس سلطة لم تخول للقادة الأتراك منذ عهد السلاطين، هو في الواقع عثمانيٌ جديد.
رؤية أردوغان
وساعد طموح «أردوغان» على دفع تركيا إلى هذه النقطة. ولكن على عكس صورة الرجل الذي يسعى إلى السلطة من أجل السلطة، فإنّ للرئيس التركي في الواقع رؤية لتحويل تركيا إلى نظامٍ تكون فيه البلاد أكثر ازدهارًا وأكثر قوة، وأكثر إسلامية، الأمر الذي يعني أنّ القيم المحافظة والدينية ستشكل سلوك وتطلعات الأتراك في طريقتهم في الحياة.
والمشكلة هنا هي أنّ «أردوغان» مقتنعٌ بأنّه هو الوحيد الذي يتمتع بالمهارات السياسية والأخلاقية والمكانة اللازمة للقيام بذلك. وبالتالي، فإنه يحتاج إلى قيادة الدولة والساحة السياسية بطرق لم تتح أبدً للرؤساء الأتراك، الذين من المفترض تقليديًا أنّهم كانوا رمزًا للبلاد خارج ساحة المعركة السياسية.
وبالنسبة لجميع النجاحات السياسية التي حققها «أردوغان»، كانت محاولات التحول إلى «النظام الرئاسي» الذي يسعى إليه مليئةً بالإحباطات حتى الآن. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، أعلن أنّ تركيا سيكون لها دستورٌ جديدٌ في غضون عام. وبحلول عام 2013، كانت اللجنة البرلمانية المشتركة بين الأحزاب، والمكلفة بكتابة الوثيقة الجديدة، في طريقٍ مسدود، لذلك وضع «أردوغان» نصب عينيه على دستور جديد والذي كتبه حزب العدالة والتنمية. بيد أنّه من أجل الحصول عليه، كان بحاجة إلى تعزيز أغلبية البرلمان. وعندما لم يحصل في الانتخابات العامة عام 2015 على 367 مقعدًا (من أصل 550) والذي يحتاج إليهم لكتابة الدستور والتصديق عليه دون تدخل الجمهور، أُجبِر الرئيس التركي على إخضاع التعديلات الدستورية لاستفتاء يوم الأحد.
وبغية تعزيز الدعم للنظام الرئاسي، أثار «أردوغان» شبح عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في التسعينات وأوائل الألفية الثانية، عندما أثبتت سلسلة من الحكومات الائتلافية أنّها فاسدة وغير كفؤة لإدارة تحديات تركيا. ويعتبر العديد من الأتراك تلك الحقبة، حقيقةً، كانت أعوامًا من الفرص الضائعة ويفضلون عدم تكرارها. وأضافت موجة الهجمات الإرهابية من قبل المتمردين الأكراد، والذين قتلوا العشرات بين صيف عام 2015 وأواخر عام 2016، أسبابًا تعزز رسالة «أردوغان» حول الحكمة من وجود نظامٍ رئاسيٍ بحت.
أجندة تحولية
ولا ينبغي أن يكون مفاجئًا أنّ «أردوغان» قد سعى حثيثًا وراء تلك التعديلات الدستورية. فهو بالفعل يمارس بعضًا من السلطات التي تخولها التعديلات من قبل الاستفتاء. وكان يسعى لإضفاء الشرعية على تلك الممارسات. ولكن لماذا؟
إلى جانب حقيقة أنّ السلطويين يرغبون في وضع ممارساتهم غير الديمقراطية في إطارٍ من النظم القانونية، يحتاج «أردوغان» إلى الغطاء القانوني لمتابعة أجندته التحولية الأوسع نطاقًا. ويبدو أنّ الطريقة الوحيدة التي يمكنه تحقيق ذلك بها هو أن يتحول بنفسه إلى ما يقارب السلطان.
يستوحي «أردوغان» سلطته من التاريخ العثماني، وهناك جوانب من حكمه تعد صدىً لتلك الحقبة. وبما أنّ الرئيس التركي قد حان له الاعتماد على مجموعة أصغر وأصغر من المستشارين، بمن فيهم أفراد أسرته، فإنّ القصر الرئاسي في أنقرة، الذي بني على أرضٍ مملوكة لأتاتورك، أصبح يشبه قصور السلاطين العثمانيين، ولا نعني هنا مجرد العظمة. ومع ذلك، فإنّ جهوده لتأمين النظام الرئاسي تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. يريد «أردوغان» هدم الجمهورية، لأنّه قد عاني هو وكل الشعب الذي يمثله على أيدي أولئك الذين قادوا إليها ودافعوا عنها. وسيكون من غير العملي بل والمستحيل إعادة إنشاء الهياكل الحاكمة للدولة العثمانية، لكن في الخيال التركي الإسلامي، لم يكن عصر العثمانيين لم يكن يمثل فقط ثقافة أبوية تركية سلطوية، بل كان عصرًا للتسامح والتقدم. وبالنسبة لدائرة «أردوغان» الأساسية، كان عصر حزب العدالة والتنمية، على وجه الخصوص، حقبةً ذهبية، ويعد اليوم هو المثال الحديث لذلك الماضي المجيد.
ويتمتع الأتراك المتدينون والطبقة الوسطى الآن من الحريات الشخصية والسياسية التي حرموا منها في السابق. كما أصبحوا يتمتعون أيضًا بحركة اقتصادية واجتماعية صاعدة. ومن خلال منح «أردوغان» النظام الرئاسي الذي كان يطمع فيه ويطمح إليه، فإنّهم يتطلعون إلى تحقيق إنجازاتٍ أكبر. وبالطبع هناك الملايين من الأتراك الذين صوتوا بـ «لا»، وهم هؤلاء الذين يخشون من توطيد الاستبداد، وأولئك الذين يعتبرون الجمهورية والأفكار الكمالية التي تمثلها مقدسة.
إنّ للجمهورية التركية تاريخٌ معقد لا يمكن إنكاره. لقد حققت إنجازًا هائلًا. ففي غضون قرنٍ من الزمان تقريبًا، تحولت من مجتمعٍ زراعيٍ إلى حدٍ كبير دمرته الحرب إلى قوةٍ مزدهرةٍ تمارس نفوذًا في منطقتها وخارجها. وفي الوقت نفسه، كان تاريخ تركيا الحديث أيضًا عامرًا بالأحداث غير الديمقراطية وأحيانًا العنيفة. ومن ثم فإنّه يمثّل سعي «أردوغان» إلى تحول تركيا عن طريق تمكين النظام الرئاسي، وبالتالي إغلاق الباب مرة واحدة وإلى الأبد أمام إمكانية أن يكون الناس مثله ضحايا للجمهورية.
ربما كانت الجمهورية التركية دائمًا معيبة وبها خلل، لكنّها كانت تتطلع دائمًا، على خلفية المبادئ التي دعت إليها الدساتير المتعاقبة، أن تصبح ديمقراطية، ولكن تركيا الجديدة التي يسعى إليها «أردوغان» تسير في اتجاه مختلف تماما عن تركيا أتاتورك وهي أقرب إلى النمط السلطاني العثماني منها إلى الجمهوريات العلمانية الحديثة.
المصدر | ستيفن كوك – فورين بوليسي
إدخال العامل الديني في الاستفتاء كان خطأ أوروبياً: الشعب التركي يقرر مصيره السياسي الداخلي ويختار الدستور بإرادته/ محمد زاهد جول
جاءت التعديلات الدستورية يوم 16 نيسان/أبريل بعد سنوات وربما عقود من الزمن والرؤساء والمسؤولون الأتراك يحاولون ذلك، ولكنهم لم يتمكنوا من تعديل الدستور وبالأخص في مادته الأساسية التي تجعل النظام السياسي في تركيا رئاسيا، بدل النظام الحالي البرلماني، وكلاهما البرلماني والرئاسي في نظام جمهوري علماني، ونقصد بالنظام العلماني، المؤسساتي الذي يساوي بين كل أبناء الشعب التركي بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الطائفي أو القومي أو العرقي أو الاثني أو غيرها. فالدولة التركية كانت تدار من خلال البرلمان والحكومة التي يصوت على الثقة لها نواب البرلمان، والبرلمان الحالي هو الذي أسس للتعديلات الدستورية وللاستفتاء الأخير. فقد صوت على المواد الثماني عشرة في مرحلتين في النصف الأول من شهر شباط/فبراير الماضي، فالاستفتاء هو مشروع الشعب، وليس مشروع الأحزاب فقط، ولكن تأسيس الحياة السياسية التركية منذ عام 1946 على التعددية السياسية وحرية العمل الحزبي الذي يشكل السلطة السياسية عن طريق الانتخاب الديمقراطي كان أكثر ظهوراً، فقد تمركزت المشاريع السياسية في تركيا بما تقدمه الأحزاب السياسية من مشاريع تطوير سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غيرها.
إن الاستفتاء في حد ذاته هو عمل استثنائي، فليس هناك استفتاءات دورية مثل الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو البلدية، وإنما هي عملية استثنائية تلجأ لها الحكومة وفق الدستور لتمرير مشروع قد لا تستطيع تمريره في البرلمان، بسبب نسب تواجد نواب الأحزاب السياسية، وبالتالي فالاستفتاء هو عودة للشعب الذي ينتخب النواب والبرلمان أصلاً، ولذلك كان عملاً قانونياً وديمقراطياً، لمعرفة توجهات الشعب وخياراته المصيرية، ولذلك لا يوجه الاستفتاء إلى أتباع دين معين ولا لأبناء قومية معينة وإنما إلى الشعب التركي كله، وبغض النظر عن النتيجة فإن الشعب هو الذي يتخذ قراره ولو بأغلبية قليلة أو كثيرة، ولو لم يوافق الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية لكان ذلك قرار الشعب التركي أيضاً، وليس قرار المعارضة، بدليل أن حزب الحركة القومية وهو من أكبر أحزاب المعارضة كان من المؤيدين للاستفتاء، حتى لو كان تأييده بنسبة 2٪ وكذلك كان أبناء القومية الكردية من أكثر المؤيدين لإنجاح الاستفتاء والتصويت بنعم، فحق التصويت هو حق لكل مواطن تركي، وهذا مكفول في المادة 76 من الدستور.
الاستفتاء والمستقبل التركي
لذلك ينبغي الحديث عن أثر الاستفتاء على المستقبل التركي وليس على الماضي، فحزب العدالة والتنمية الحاكم سعى منذ وصوله إلى السلطة عام 2002 لتطوير العملية الديمقراطية، وأطلق عليها الديمقراطية المحافظة، وكذلك دعا إلى الانفتاح الاجتماعي والمصالحة الداخلية بين كل أبناء الشعب التركي على اختلاف قومياتهم، وقدم من أجل ذلك أكثر من عشر حزم ديمقراطية تم تمريرها من خلال البرلمان في السنوات الماضية، وقد أجريت من قبل سبعة استفتاءات، والأخير هو الثامن في التاريخ التركي الحديث. فالاستفتاء في كل الأحوال خاص على مسألة معينة وقد تمت، فجاء تصويت الموافقين بـ«نعم» 51.4٪، وبـ «لا» بنسبة 48.6٪ ولذلك فإن قرار التصويت بـ«نعم» أو «لا» لن يغير من موقف المواطن التركي في انتمائه لوطنه أولاً، ولا لحزبه أو غيره.
من الملاحظات الأساسية في هذا الاستفتاء إن الكتلة الكردية أيدت بنسبة عالية، وتضاعفت أصوات الأكراد الذي أيدوا الاستفتاء عشرات المرات عن الذين كانوا يصوتون للانتخابات البرلمانية السابقة، ودليل ذلك نسب التصويت العالية في المدن التي يكثر فيها الأكراد في جنوب شرق البلاد، وهذه الزيادة في الصوت الكردي فيها دلالة مهمة، وهي أن المصوتين لم يعدوا يرون خلاصهم على يد الأحزاب التي تخرب المدن، وإنما في مشاريع الحكومة والدولة التي تخدم الشعب كله، وهذا يثبت أن تأييد حزب العمال الكردستاني قد تراجع كثيرا، فالمواطن التركي من أصل كردي يرى الآن أن مشروعه مع المواطنة والشراكة السياسية في بناء الدولة الديمقراطية وصناعة دستورها الجديد، فالتصويت للدستور الجديد هو قمة المواطنة بغض النظر عن نوع التصويت إن كان نعم أو لا.
وأما مواقف المعارضة في الطعن بالاستفتاء بحجة وجود مخالفات دستورية فهذا يتم الرد عليه من خلال اللجنة العليا للانتخابات، فهي الجهة القانونية الوحيدة التي يحق لها تقرير ذلك، وهذه اللجنة ليست حكومية، ولا من حزب العدالة والتنمية فقط، وإنما يمثل فيها أعضاء من كل الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان بالتساوي، بغض النظر عن نسبة وجود الحزب في البرلمان، فكما لحزب العدالة والتنمية عضو في اللجنة فإن لحزب الحركة القومية عضو، ولحزب الشعب الجمهوري عضو أيضا، وكذلك لحزب الشعوب الديمقراطي، والطعن الذي حصل بعد صدور نتائج التصويت كان على أمر قد تم التصويت عليه بالإجماع من قبل لجنة الانتخابات العليا، بموافقة ممثلي كل الأحزاب التركية، وذلك بقبول بعض أوراق التصويت غير مختومة من اللجان المختصة مسبقا لأسباب شكلية، فلجنة الانتخابات العليا هي المسؤولة عن اتخاذ قرارات متعلقة بعملية التصويت في يوم التصويت، فهي المخولة وحدها بمعالجة كل الاشكاليات التي تواجهها، والغريب أن الأحزاب التي طعنت بصحة الاستفتاء على أساس هذه الاشكالية ليس لديها رقم محدد لعدد البطاقات غير المختومة، فهي في الغالب استقت هذه المعلومة من مندوبها في اللجنة العليا في الانتخابات، وبينما وافق مندوبها على اعتماد تلك البطاقات جاءت قيادة حزب الشعب الجمهوري لتطعن بقرار ممثلها في اللجنة العليا. وعلى فرض وجود خطأ في بعض البطاقات فإن من يتحمل مسؤولية ذلك هي اللجنة العليا وليس الحكومة، ومن باب أولى ان لا يتحمل ذلك المواطن الذي قام بواجبه وحقه، وفي النهاية فإن اللجنة العليا للانتخابات هي الجهة التي تقرر صحة الاستفتاء أو عدمه، وقد أقرت نتائج الاستفتاء أولاً، ورفضت إلغائه ثانياً، وبحكم الدستور التركي فإن قرار اللجنة العليا للانتخابات مصدق وله حصانة كاملة، ولا يمكن الطعن بقراراتها أمام المحاكم التركية.
اللجان الأوروبية المراقبة مطعون في شهادتها
وأما لجان المراقبة الأوروبية فلم تستطع تسجيل عملية تزوير واحدة، ولكنها سجلت ملاحظات أحزاب المعارضة التركية على الاستفتاء، ولذلك تبقى ملاحظات اللجان الأوروبية مجرد وجهات نظر مسموعة، ولكن ما خدش بملاحظاتهم وجود مؤيدين لحزب العمال الكردستاني داخلها، فبدت اللجان الأوروبية المراقبة لعملية الاستفتاء مطعون في تقريرها وشهادتها، ومرفوضة من الحكومة التركية على إثر ذلك، وبالتالي فإن الشعب التركي يدخل شهادتها في حملة المعاداة للاستفتاء التي شنتها بعض الدول الأوروبية منذ أشهر وسنوات، بل إن المواقف الأوروبية المعادية للاستفتاء على الأراضي الأوروبية كانت ذات ردود أفعال سلبية بالنسبة لأوروبا وإيجابية بالنسبة لتركيا، فالشعب التركي لا يثق في الأوروبيين ولا في الغرب عموماً، فالأوروبيون لم يعودوا يخفون مواقفهم العدائية ضد تركيا، بل ويظهرون دعمهم للانقلابيين الذين قتلوا أبناء الشعب بالمئات في تموز/يوليو الماضي.
على أساس هذه المواقف والمشاهد فإن دور الدين قد أدخلته الحملات الأوروبية ضد الاستفتاء وليس الأحزاب التركية، لا المؤيدة مثل حزب العدالة والتنمية والحركة القومية وحزب الاتحاد الكبير وحزب الهدى «الكردي» ولا الأحزاب المعارضة للاستفتاء مثل حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي وحزب السعادة (الإسلامي) فإدخال العامل الديني في الاستفتاء كان خطأ أوروبياً خالصاً، فهم واتباعهم الذين أخذوا يتحدثون عن السلطان العثماني وأشباهها من الإساءات للرئيس، هي ذات انعكاسات دينية معروفة.
وأما موقف الجيش التركي، فقد كان حياديا وإيجابيا نحو الشعب كله، فلم يكن طرفا مع أحد، ففي استفتاء 2010 وبعض الحزم الديمقراطية السابقة جرى تعديل وظيفة الجيش التركي، ليصبح مثل باقي جيوش العالم المتقدمة ويعمل على حماية الحدود الخارجية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية السياسية أو الاقتصادية أو غيرها، والجيش التركي حريص على استقرار الدولة، ولا يتدخل في تطوير الحياة السياسية المدنية، بل إن في الدستور المعدل بعض المواد التي تنص على نهاية عهد المحاكم العسكرية، وقد كان لانتصار الشعب في تموز/يوليو الماضي على الانقلابيين أثر كبير على الجيش، لأنه وجد الشعب يحمي الحكومة والجيش والدولة، فاحترام الشعب للجيش أصبح من القضايا التي يتباهى بها الجيش بعد الانقلاب الأخير، وبالتالي فإنه يحفظ للشعب حقه في تقرير مصيره السياسي الداخلي ووضع الدستور الذي يختاره بإرادته الحرة، فاللحمة والثقة بين الجيش والشعب التركي في أقوى مراحلها وصورها.
القدس العربي
نتائج الاستفتاء: إطلاق يد الرئيس أمْ تهيئة الأجواء لمفاوضات تركية كردية؟/ رائد الحامد
عشية الاستفتاء الذي نظمته الحكومة التركية في 16 نيسان/أبريل الماضي لإقرار مشروع اقتراح عمل عليه حزب العدالة والتنمية منذ عام 2005 بقصد إجراء تعديلات على الدستور للانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، تباينت وجهات نظر الشارع التركي بين معارض للتعديلات الدستورية التي تمهد لنظام استبدادي يقلل من فرص المعارضة في ممارسة الحياة السياسية والتغيير، ومؤيد للانتقال إلى نظام رئاسي ضامن لاستقرار الحكومة وإبعادها عن تجاذبات عدم الاستقرار السياسي في إطار التنافس بين الأحزاب.
وجاءت نتائج الاستفتاء مقاربة إلى حد بعيد لمعظم استطلاعات الرأي العام التي تراوحت في تقديراتها بين 52٪ و56٪، من خلال متابعة «القدس العربي» لثلاثة مراكز أبحاث تركية، وبلغ عدد المصوتين بـ «نعم» 24.32 مليون بنسبة 51.2٪ في مقابل 23.2 مليون بنسبة 48.8٪ صوتوا بـ «لا» من أصل 58.36 مليون ناخب مُسجل حضر منهم إلى مراكز الاقتراع 49.62 مليون بمعدل مشاركة يصل إلى 86٪ من مجموع 55.3 مليون ناخب يحق لهم التصويت، حسب اللجنة العليا للانتخابات.
وفي أول ردود الأفعال بُعيد إعلان النتائج، رفض حزب الشعب الجمهوري المعارض نتائج الاستفتاء إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي واتهما الحكومة بالتلاعب بنتائجه.
شملت التعديلات الدستورية 18 مادة تُحدد ملامح مرحلة جديدة من نظام الحكم الذي ألغى النظام البرلماني القائم ومنصب رئيس الوزراء وانتقل إلى النظام الرئاسي الذي يمنح الرئيس المزيد من الصلاحيات في السلطة التنفيذية مع تعديلات أخرى لزيادة عدد المقاعد في البرلمان من 500 إلى 600 مقعد، وتغييرات في السلطة القضائية أيضا.
تُعد الأحزاب والمنظمات والحركات الكردية وجماهيرها القريبة من حزب العمال الكردستاني من أكثر الأحزاب التي عارضت الاستفتاء وشاركت بكثافة لعدم تمريره، مثل حزب الشعوب الديمقراطي، أكبر الأحزاب الكردية، وحزب المناطق الحرة وحركة المرأة الحرة ومجلس المجتمع الديمقراطي، وتلتقي هذه الأحزاب والحركات والمنظمات على الخشية من التصعيد العسكري مستقبلاً ضد حزب العمال الكردستاني المصنّف على قائمة الإرهاب في تركيا، أو التضييق السياسي على الأحزاب والحركات الكردية الأخرى.
لكن ثمّة أحزابا وحركات كردية أيدت الاستفتاء ونتائجه، وهي في معظمها تنتمي إلى التيار الإسلامي التقليدي، مثل حزب «هدى بار» المتحالف مع الحكومة في قتال حزب العمال الكردستاني.
تحقيق المطالب الكردية
يرى حزب «هدى بار» أنّ الاستفتاء سيعطي الرئيس التركي قدرةً أكبر على تحقيق المطالب الكردية وفق رؤية إسلامية مشتركة للحزب مع حزب العدالة والتنمية الحاكم ذو التوجه الإسلامي، غير أن الأحزاب الكردية المعارضة ترى إن المواد الدستورية التي طُرحت في الاستفتاء لا تتناول بشكل مباشر ما يتعلق بالحل السياسي للقضية الكردية، أو الحقوق الثقافية للأكراد الذين يبلغ عددهم أكثر من 14 مليون نسمة يشكلون حوالي 20٪ من مجموع سكان تركيا البالغ نحو 80 مليون نسمة.
ويضم حزب العدالة والتنمية، الذي من المتوقع أن يعود الرئيس أردوغان ثانيةً إلى قيادته، نسبة من الأكراد أيدوا التعديلات الدستورية في مقابل غالبية كردية تتبنى موقف حزب الشعوب الديمقراطي الرافض لها. ويتخوف الأكراد من مواجهة أوسع نطاقاً ستخوضها القوات التركية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في المرحلة المقبلة مع تأكيد مستمر من الرئيس التركي على عزمه محاربة مقاتلي الحزب، والتضييق أكثر على حزب الشعوب الديمقراطية الذي يُنظر إليه كجناح سياسي لحزب العمال الكردستاني المحظور.
وأصدرت الرئاسة المشتركة لمنظومة المجتمع الكردستاني (تجمع يقوده حزب العمال الكردستاني ويضم ممثلين عن أحزاب كردية من العراق وسوريا وإيران وتركيا) بياناً طعنت فيه بشرعية الاستفتاء والتعديلات الدستورية التي جاءت بعد «حملة شنتها السلطات التركية ضد حزب الشعوب الديمقراطي وسجن قادته و12 نائباً واعتقال الآلاف من أنصاره، ما أفقد الحزب الكثير من قدرته على تنظيم حملات إعلامية ضد الاستفتاء».
وتراجعت نسبة الرافضين لسياسات حزب العدالة والتنمية في مدن الكثافة الكردية في الاستفتاء على التعديلات الدستورية قياساً بنتائج انتخابات 2015. ففي مدنٍ مثل ديار بكر بلغت نسبة المصوتين لصالح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات 22٪ في حين صوت 32٪ لصالح التعديلات الدستورية التي هي مشروع خاص بالعدالة والتنمية. كما أن مدنا كردية أخرى سارت في ذات الاتجاه ما يعطي دلالة واضحة على تغيير جزئي في الاتجاه العام للأكراد إلى اتجاه آخر لا يتبنى بالمطلق الموقف المضاد لحزب العدالة والتنمية، وهي أيضاً إشارة على زيادة في نسبة الأكراد المؤيدين لحزب العدالة والتنمية في مقابل اتساع الهوة بين القطاعات الشعبية والقيادات الحزبية الكردية.
تزايد مخاوف الأكراد
تخوض الحركة الكردية التي يقودها عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني منذ عام 1984 حرباً مستمرة مع القوات التركية في إطار الكفاح لإقامة حكم ذاتي مرتبط بالحكومة المركزية في جنوب شرقي تركيا، أو إقامة نظام حكم كونفدرالي اتحادي مع الدولة التركية دون الانفصال عنها في الحالتين.
لكنّ القتال الذي راح ضحيته عشرات الآلاف من الطرفين المتحاربين لم يؤدِ إلى تحقيق الأهداف الكردية بالقدر الذي أشاع حالةً من عدم الاستقرار وهدر في الإنفاق الحكومي لتغطية متطلبات الحرب وأثرها على الحياة اليومية في عدم الاستقرار الأمني والإضرار بوحدة المجتمع التركي وتهديد وحدة أراضي الدولة التركية القائمة.
تزايدت مخاوف الأكراد في تركيا مجدداً بعد تفسيرات لتصريحات رسمية أوحت باحتمالات انطلاق عملية برية للقوات التركية على الأراضي العراقية في مناطق محاذية للحدود التركية تشكل معاقل لحزب العمال الكردستاني على غرار العملية التركية في سوريا المعروفة باسم درع الفرات ضد تنظيم الدولة التي أعلنت تركيا مؤخراً نهايتها مع التحضير والاستعداد لبدء عملية جديدة في سوريا أو في العراق تستهدف هذه المرة حزب العمال الكردستاني في العراق ووحدات الحماية الشعبية الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا الذي يُعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.
لكنّ نتائج الاستفتاء التي تقترب من بعضها مناصفةً تؤيد إلى حد ما رؤية مغايرة لما تراه الأحزاب الكردية من احتمالات زيادة حدة العمليات التي تشنها قوات الأمن والطيران التركي ضد المقاتلين الأكراد في جنوب شرقي البلاد أو ضد مواقعهم ومقراتهم في معقلهم الرئيس بجبال قنديل شمال العراق.
ولا تبدو نسبة الفوز مريحة إلى الحد الذي تدعو الرئيس ضمن صلاحياته الدستورية الجديدة لاتخاذ قرارات لتصعيد المواجهات ضد حزب العمال الكردستاني.
ومن غير المستبعد أن يتبنى الرئيس التركي بصلاحياته الجديدة سياسة أكثر مرونة في العودة إلى طاولة الحوار عبر وسطاء مقبولين إلى حد ما من الطرفين، مثل إيران التي تربطها علاقات تجارية ومصالح مشتركة مع تركيا، كما تربطها علاقات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني وتنسيق ميداني مع الحشد الشعبي في محافظة نينوى الحليف المشترك لكل من إيران والحزب.
القدس العربي
هل يطوي «الاستفتاء» الصفحة الأخيرة في ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؟
أردوغان يلوح باستفتائين جديدين على ملفي العضوية والإعدام وأوروبا تهدد
إسطنبول ـ «القدس العربي»: منذ أن قدمت تركيا طلباً رسمياً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قبيل 30 عاماً، لم تصل العلاقات المتعثرة بين الجانبين طوال السنوات الماضية إلى هذا الحد من التوتر الذي بات ينذر بشكل جدي وأكثر من أي وقت مضى باحتمال قرب إغلاق ملف الانضمام والإعلان عن فشل هذه المحاولة.
وبجانب ملفات الخلاف التاريخية بين أنقرة وبروكسل، برزت خلال السنوات الأخيرة ملفات الهجرة والحريات ومحاولة الانقلاب في تركيا وتلويح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة العمل بعقوبة الإعدام في خطوة اعتبرتها أوروبا بمثابة النهاية لـ«الحلم التركي» بالانضمام للاتحاد الذي يهدد الرئيس التركي بإجراء استفتاء شعبي حول سحب ملف الانضمام إليه.
وفي خضم جميع هذه الأزمات، جاء الاستفتاء الذي جرى الأحد الماضي في تركيا حول حزمة تعديلات دستورية تتضمن تحويل نظام الحكم في البلاد إلى رئاسي ليفجر مزيدا من الخلافات وليتحول ربما إلى القشة التي يمكن أن تقسم ظهر البعير وتعلن وفاة المحاولات وطي الصفحة الأخيرة في ملف انضمام أنقرة إلى الاتحاد.
30 عاماً على ملف العضوية
في الرابع عشر من أبريل/نيسان من عام 1987 تقدمت تركيا بأول طلب رسمي لعضوية الاتحاد الأوروبي، وسبق ذلك أن طلبت في عام 1959 الحصول على عضوية الجمعية الأوروبية التي انقبلت فيها عام 1963، ولاحقاً وقعت أنقرة في عام 1995 اتفاقية اتحاد جمركي مع الاتحاد في أهم تقدم حصل بين الجانبين آنذاك.
لكن التقدم الأبرز كان في 1999 عندما تم الاعتراف بتركيا رسمياً بصفتها دولة مرشحة للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، ومن أجل بدء المفاوضات وضعت الدول الأوروبية سلسلة طويلة من الشروط تتعلق باحترام الأقليات وحقوق الإنسان والحريات وإلغاء عقوبة الإعدام وتحسين العلاقات مع اليونان، بالإضافة إلى كف يد الجيش التركي عن التدخل في الحياة السياسية في البلاد.
وعلى الرغم من تنفيذ أنقرة لعدد كبير من الإصلاحات المتعلقة بهذه المطالب وإلغائها بالفعل لعقوبة الإعدام وسن قوانين تتعلق بتوسيع الحريات العامة واحترام المعتقدات والأقليات بجانب الإصلاحات القضائية وتعزيز الحياة الديمقراطية في البلاد إلا أن مفاوضات العضوية الكاملة لم تبدأ رسمياً إلا في عام 2005 ورأت تركيا أن الاتحاد ماطل وتعمد العمل ببطء جديد في فتح ملفات الانضمام من أجل كسب الوقت وفي إطار خطة محكمة تهدف في أساسها لإعاقة إتمام ملفات العضوية، حسب تعبيرها.
وطوال السنوات الماضية شهدت مفاوضات الانضمام انتكاسات متتالية بمبررات أوروبية تتعلق بعدم التقدم بالإصلاحات والأزمة مع قبرص والحرب على المتمردين الأكراد وقضية الأرمن، لكن زعماء جهات أوروبية كانت أكثر وضوحاً وعبرت علناً عن رفضها المطلق لانضمام تركيا إلى الاتحاد وقالت إنها تعمل من أجل إفشال انضمامها وسط دعوات للبحث عن اتفاقيات شراكة دون أي حديث عن ضم تركيا للاتحاد.
اتفاقية اللاجئين
كان للأزمة المتصاعدة في سوريا منذ قرابة 7 سنوات أثر كبير جداً على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وبرز ذلك بشكل جلي في موضوع اللاجئين الذين بدأوا يتدفقون بأعداد كبيرة جداً إلى اليونان ومنها إلى أوروبا انطلاقاً من الأراضي التركية ما شكل أزمة كبيرة للدول الأوروبية ودفعها للتفاوض مع أردوغان حول المشكلة التي اتخذ منها الرئيس التركي ورقة ضغط ضد الاتحاد.
ومع ذروة موجات الهجرة وصل من تركيا إلى أوروبا عام 2015 قرابة مليون لاجئ معظمهم سوريين قبل أن يوقع الجانبان ما عرف بـ«اتفاقية إعادة قبول اللاجئين» والتي بموجبها تعمل أنقرة على منع موجات الهجرة وقبول إعادة من ينجح بالوصول إلى اليونان، مقابل تقديم مساعدات بقيمة 6 مليار يورو لأنقرة لإنفاقها على اللاجئين على أراضيها ورفع تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك الراغبين في الوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي. لكن الأمور لم تسر كما كان مخططا لها لا سيما عقب إقالة أردوغان غير المباشرة لرئيس الوزراء ومهندس الاتفاق أحمد داود أوغلو لأسباب منها ما يتعلق بما يعتبره أردوغان ـ تنازلات قدمها داود أوغلو لأوروبا، وبينما رفضت أنقرة شروط تعديل قانون مكافحة الإرهاب في البلاد لم ينفذ الاتحاد حتى اليوم بند رفع التأشيرة عن المواطنين الأتراك وهو ما دفع كبار المسؤولين الأتراك لإطلاق سلسلة طويلة من التهديدات بنسف اتفاق الهجرة وفتح الباب واسعاً أمام تدفق مئات آلاف اللاجئين الجدد.
وبينما أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن بلاده ستقدم «عرضها الأخير» للاتحاد عقب الاستفتاء، هدد أردوغان بشكل أوضح بنسف الاتفاق وإجراء مراجعة شاملة للعلاقات مع أوروبا، فيما هدد نائب رئيس الوزراء التركي بفتح طريق جديد للهجرة من إيران إلى تركيا وصولاً إلى أوروبا قد يتدفق منه 3 مليون لاجئ، وهو ما يثير مخاوف بروكسل ويدفعها لمحاولة الإبقاء على «شعرة معاوية» مع تركيا.
محاولة الانقلاب وإعادة عقوبة الإعدام
وفي الوقت الذي كانت تتصاعد فيه الأزمة بين الجانبين حول اتفاق اللاجئين، هزت تركيا محاولة انقلاب فاشلة في الخامس عشر من تموز/يوليو الماضي وحملت معها المزيد من التصعيد مع الاتحاد الأوروبي الذي اتهم بالتعاطف مع «الانقلابيين» وتقديم الدعم لهم، حسب حملات إعلامية ضخمة قادتها وسائل الإعلام الموالية للحكومة وأردوغان ضد دول الاتحاد الأوروبي.
وعقب حملة التطهير التي قام بها أردوغان ضد المتهمين بدعم المحاولة، صوت البرلمان الأوروبي نهاية العام الماضي على قرار غير ملزم بتعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد، وسط دعوات غير مسبوقة بإغلاق الملف بشكل نهائي.
هذه الدعوات تصاعدت بشكل أكبر وأخذت منحاً جديداً مع الدعوات المتصاعدة لإعادة العمل بعقوبة الإعدام في تركيا والتي ألغيت في إطار تلبية شروط الانضمام إلى الاتحاد، حيث دعم أردوغان حملات شعبية للمطالبة بإعادة العقوبة ووعد أنصاره بأن الحزب الحركة والحركة القومية سيعملان على تمرير القانون في البرلمان وأنه سيوقع على القانون «دون تردد» وفي اليوم نفسه الذي يصله فيه القانون من البرلمان، وشدد على أنه لن يكترث لما تقوله أوروبا حول هذا الأمر.
ومع تصاعد الأزمة التي ترافقت مع الاستفتاء، لوح أردوغان بإجراء استفتاء شعبي آخر حول إعادة العمل بعقوبة الإعدام، والخميس، نبه الأمين العام لمجلس أوروبا إلى أن عقوبة الإعدام لا تنسجم مع عضوية هذه المؤسسة، وأن المجلس يلجأ بالطبع إلى طرد أي دولة تعيد العمل بعقوبة الإعدام.
ورداً على التهديدات الأوروبية في حال إعادة عقوبة الإعدام، قال أردوغان: «لا أهتم بما يقوله.. اهتم بما يقوله الشعب.. شعبي يطلب مني الاقتصاص للشهداء، هذا الشعب سقط له 249 شهيدا.. الإعدام موقوف الآن ويجب علينا تغيير الدستور، وإذا وافق البرلمان على عودة الإعدام سأصادق على ذلك، لأنه طلب شعبي».
وعلى الرغم من ارتفاع مستوى الحس القومي في تركيا ومشاعر العداء لأوروبا التي عززها أردوغان، إلا أن استفتاء حول إعادة الإعدام سيعني الاستفتاء على إغلاق ملف العضوية لأوروبا ولذلك لن يكون مضمون النتائج لأردوغان حسب مراقبين يرون أن الشعب التركي لن يتخلى عن حلم الانضمام إلى أوروبا بهذه السهولة.
ما بعد الاستفتاء؟
قبل نحو شهر، ومع انطلاق الحملة الانتخابية للاستفتاء حول توسيع صلاحيات أردوغان للجاليات التركية في أوروبا اشتعلت شرارة الصدام من ألمانيا التي منعت تجمعات سياسية ومؤتمرات لوزراء من الحكومة، وحذت حذوها كلاً من هولندا التي منعت دخول الوزراء الأتراك والعديد من الدول الأوروبية الأخرى في خطوة اعتبرها أردوغان والمسؤولون الأتراك حملة منظمة من قبل أوروبا للتأثير على نتائج الاستفتاء.
أردوغان الذي تسلح بالمشاعر القومية للمواطنين الأتراك شن حرباً إعلامية غير مسبوقة ضد الدول الأوروبية ووصفها بـ«العنصرية والنازية والفاشية» وبدعم المنظمات الإرهابية، وطالب قرابة 5 مليون تركي يعيشون في الخارج وخاصة في أوروبا بالتصويت بنعم «من أجل توجيه صفعة قوية لأوروبا»، وهو ما حصل بالفعل حيث صوت الأتراك بقوة لخيار «نعم» في الدول الأوروبية الرئيسية.
وعلى الرغم من أن التوقعات كانت أن تهدأ الأزمة عقب الاستفتاء، صبت النتيجة المتقاربة الزيت على نار الخلافات، لا سيما مع تشكيك المراقبين الأوروبيين بنزاهة الاستفتاء والحديث عن «فرص غير متكافئة» وهو ما أثار غضب أردوغان الذي عاد لإطلاق تصريحاته الحادة وتهديداته القديمة مطالباً أوروبا بـ«التزام حدودها مع تركيا».
ومع رفض المعارضة لنتيجة الاستفتاء ورفض طلبها لإلغاء النتائج من قبل لجنة الانتخابات المركزية، يتوقع أن يلجأ حزب الشعب الجمهوري المعارض لتقديم طلب إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وهو ما استبقه أردوغان بالتأكيد على أن المحكمة الأوروبية ليس لديها أي سلطة قانونية أو فعلية للنظر في هذه الأمور.
وفي لقاء تلفزيوني له الخميس، قال أردوغان: «الأوروبيون كانوا يتوقعون ان لا تمر التعديلات الدستورية لذلك جن جنونهم وتضايقوا كثيرا والنواب الأوروبيون كانوا يذهبون لكل مكان ليقولوا لا للتعديلات الدستورية في تركيا، ما فعلوه هو ضغط فاشي، كنت أظن أن النازية في أوروبا انتهت ولكنهم ما زالوا يمارسونها».
وأضاف: «54 عاما تجعلون تركيا تنتظر على أبواب الاتحاد الأوروبي، أنتم لستم ديمقراطيون أنتم كذابون». وتابع: «أوروبا وعدت تركيا بتقديم 3 مليارات يورو للاجئين وكانوا يتحدثون عن 3 مليارات أخرى، ووصلنا فقط 750 مليون يورو. أيضا لدينا مشكلة التأشيرات مع الاتحاد الأوروبي وهم لا يريدون حلها».
وتابع: «54 عاما، فهل ننتظر 50 سنة أخرى سنبحث عن طرق أخرى، نحن في الناتو لماذا لا نكون ضمن الاتحاد الأوروبي؟». وأكد على أنه «لا مشكلة لدينا حتى إن لم ننضم للاتحاد الأوروبي، لم تأخذوننا إلى الاتحاد الأوروبي منذ 54 عاما، ماذا حدث لنا؟ هل غرقنا؟ هل متنا؟ لا».
القدس العربي
أقوى «لا» بوجه نظام أردوغان الرئاسي جاءت من محافظة للأكراد العلويين/ وائل عصام
في كل استحقاق شعبي بتركيا يظهر جليا انعكاس الفسيفساء العرقية والمذهبية على خريطة النتائج للقوى الحزبية المتنافسة. فحزبا الشعوب الكردي والجمهوري الأتاتوركي المعارضان للنظام الرئاسي، تمكنا من حشد مؤيديهما بالتصويت بـ «لا» في المحافظات والبلديات ذات الأغلبية الكردية والعلوية ومحافظات الساحل المختلطة عرقيا، بينما منحت «نعم» قوية من معظم ولايات وسط الأناضول المحافظة ذات الأغلبية من الترك السنة، وهم جمهور حزبي العدالة ذو الميول الإسلامية والحزب القومي، ولولا تحالف الحزبين لما أمكن لأردوغان الفوز بالاستفتاء الأخير، إذ ان القاعدة الانتخابية الأصيلة لحزبه تتراوح قرب الاربعين في المئة، بينما يملك الحزب القومي ما يقرب من 16٪ من الأصوات. وسبق لحزب العدالة ان استفاد من تعاطف جمهور الحزب القومي في الانتخابات الأخيرة عندما منحه هذا الحزب نصف أصواته في استجابة لحالة الاحتقان القومي اثر تصاعد قوة حزب الشعوب الكردي حينها، مما منح حزب العدالة يومها فوزا تاريخيا بنحو نصف الأصوات في البرلمان.
وبين تحالف الـ»نعم» بقيادة حزبي العدالة والقومي، وتحالف «لا» بقيادة حزبي الجمهوري الأتاتوركي والشعوب الكردي، جاءت النتيجة لصالح النظام الرئاسي لكن بفارق ضئيل، يظهر بشكل واضح ان هناك نسبة من جمهور حزبي العدالة والحزب القومي والأحزاب الصغيرة المتحالفة المعهم كحزب السعادة الإسلامي، لم تصوت بـ «نعم»، لان القاعدة الانتخابية لهذه الأحزاب المتحالفة مجتمعة من المفترض ان لا تقل عن 55٪ ومع ذلك حصلوا على 51٪ فقط!
ولكن اذا ما نظرنا للكتل السكانية الرئيسية في البلاد التي دعمت كلا الطرفين، سنجد انها حافظت على مواقفها التقليدية نفسها، ويظهر بوضوح ان المناطق الكردية والعلوية دعمت معسكر الرافضين بقوة، وإضافة إلى تجمعاتهم في أحياء اسطنبول وأنقرة المعارضة، تظهر المحافظات الكردية في جنوب شرق البلاد متشحة باللون المعارض لحكومة أردوغان وتوجهاتها في كل مرة، رغم وجود نسبة ليست بالقليلة من الأكراد المحافظين السنة تمنح أصواتها لحزب العدالة، سواء كانوا في بعض تجمعاتهم باسطنبول أو في المحافظات الكردية نفسها. وهكذا فعلت هذه المرة بمنح نسبة من أصوات الأكراد لخيار نعم، دون ان تتمكن كما في كل مرة من ترجيح الكفة لصالحها مقابل غلبة القوميين واليساريين الأكراد الممثلين حزب الشعوب وبقية القوى المتحالفة معه، الذين رجحوا كفة خيار التصويت بالرفض للنظام الرئاسي في معظم المحافظات الكردية. فبينما تتراوح نسبة التصويت بـ«لا» في معظم المحافظات الكردية بمعدل 60٪ وتصل إلى نحو 70٪ في محافظتي شرناق وديار بكر، فالملفت ان هناك محافظة كردية واحدة تنخفض فيها نسبة التأييد للنظام الرئاسي بشكل استثنائي، ويرتفع فيها صوت «لا» بشكل كبير، بل انها المحافظة التي صوتت بأعلى نسبة رفض على الاطلاق في تركيا، وهي 80٪ انها محافظة تونجلي، ويعود السبب إلى ان الأغلبية الساحقة من سكانها هم من الأكراد العلويين، فلا وجود للمكون الكردي السني المحافظ الذي قد تذهب أصواته في كثير من الأحيان لحزب العدالة وبرامجه، كما في باقي المحافظات الكردية السنية الأخرى كديار بكر مثلا. وهكذا تصدرت تونجلي أصوات المعارضين للنظام الرئاسي الذي يريده أردوغان، لغلبة هذه التركيبة السكانية التي تضافر فيها اثنان من الانتماءات العرقية المذهبية الكردية العلوية وهما متعارضان مع برامج حزب العدالة بمرجعيته التركية السنية.
وعندما نبحث أكثر في تاريخ هذه المحافظة، نجد انها معقل لتمرد دائم عرف باسم «تمرد درسيم»، فمنها انطلقت ثورة ضد قانون التتريك القاضي باعادة توطين وتوزيع السكن لبعض الجماعات والعرقيات عام 1934 وبسبب رفض الأكراد العلويين الذي ينتمي جزء منهم لقبائل «ظاظا» الكردية اندلعت مواجهات دموية قمعتها السلطة بعنف وقتل حينها آلاف المدنيين منهم زعيم التمرد سيد رضا، وتعرضت البلدة للقصف بالطائرات والتهجير، فيما اعتبرته بعض الأطراف العلوية مجزرة إبادة جماعية، وظلت هذه الواقعة ماثلة في أذهان سكان درسيم التي تحول اسمها لاحقا، حتى حصلوا على اعتذار من أردوغان عام 2011 وصف بالاعتذار التاريخي، أقر فيه الرئيس التركي مقتل 14 ألف كردي علوي، لكنه حمل حزب الجمهوري المسؤولية باعتباره كان يحكم البلاد في تلك الحقبة الأتاتوركية، وهكذا اصطدم سكان تونجلي كأكراد مع سلطة أتاتورك القومية علمانية الميول، وعادوا كعلويين أكراد لمعارضة برامج حزب أردوغان إسلامي الميول المتحالف مع القوميين الأتراك، لتكون النتيجة من هذه المحافظة التي تشكل حجرا مركبا فريدا في الفسيفساء التركية، هي أقوى «لا» في تركيا.
القدس العربي
التعديلات الدستورية التركية: بين «أتاتورك القديم» و «أتاتورك الجديد» هاجس الدولة القوية/ إبراهيم درويش
تعلم نتائج الاستفتاء الذي نظمته تركيا يوم 16 نيسان(إبريل) وصوت فيه الناخبون الأتراك بنعم على 18 تعديلا دستوريا تغير النظام الرئاسي، مرحلة جديدة في تاريخها. وتمثل ثورة في نظام الحكم يؤشر لقيام الجمهورية الثانية بعد مئة عام تقريبا من ولادة تركيا الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية. وكشفت النتائج عن بلد منقسم بين النخبة التي تريد المضي في النظام الحالي رغم مظاهر قصوره وفشله في التصدي للتحديات الضخمة التي تواجه البلد وبين داعمي الاستفتاء وهم قاعدة حزب العدالة والتنمية الحاكم والمعسكر القومي الذين يرون في النظام الرئاسي ورئيسا قويا مفتاحا لحل مشاكل تركيا المتراكمة وطريقا لتعافي الاقتصاد الذي تأثر خلال السنوات الماضية بتزايد أعداد اللاجئين والحرب الأهلية السورية واندلاع المواجهات مع الانفصاليين الأكراد في جنوب-شرق تركيا وانقلاب تموز (يوليو) 2016 ولا ننسى خطر تنظيم الدولة. وتعرض قرار اللجنة العليا للانتخابات المصادقة على نتيجة 51.4٪ لمعسكر «نعم» مقابل 48.5٪ لمعسكر «لا» لاعتراضات من المعارضة التي قالت إن هناك تجاوزات حدثت في التصويت حيث تم إدخال أوراق التصويت قبل ختمها من المراقبين الانتخابيين. وجاءت بعد ذلك انتقادات المراقبين من الاتحاد الأوروبي الذين قالوا إن الانتخابات شابتها مظاهر قصور ولم تكن متوازنة من ناحية منح معسكر نعم ولا الفرص للتعبير عن حملاتهم ومواقفهم في الإعلام واتهموا الدولة بتنظيم انتخابات في ظل قوانين الطوارئ التي فرضت بعد الانقلاب الفاشل وعمليات التطهير والسجن والعزل للمشبته بعلاقتهم بالمحاولة الانقلابية أو جماعة غولن.
ورد الرئيس التركي أردوغان بمطالبة المراقبين من منظمة الأمن الأوروبي التزام حدودهم. وفي مقابلة مع قناة «الجزيرة» 19/4/2017 اتهم المنظمة بالتحيز وقال إن أحد أفرادها شارك في تظاهرات لدعم حزب العمال الكردستاني (بي بي كي) ورفع علم الجماعة التي تعتبرها تركيا والولايات المتحدة إرهابية فيما شارك آخر بحملات «لا» للتعديلات الدستورية. وانتقد التضليل الإعلامي والحملات المسيئة التي تصف ما حدث بأنه طريق للديكتاتورية وتغيير للنظام. وقال إن «تركيا حددت نظامها عام 1923، بعد الآن لن يتغير أي شيء، ومنذ عام 1923 لم يتغير شيء في نظام الحكم، فقد كانت هناك عقبات داخل النظام، وعلينا التغلب على هذه العقبات لكي تكبر تركيا بسرعة». وجدد أردوغان هجومه على الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بأنه يمارس النازية والفاشية ضد بلاده.
وشارك الإعلام الأوروبي في التحشيد مع «لا» وكتبت صحيفة ألمانية على صفحتها الأولى «لو كان اتاتورك حيا، لصوت بلا». وتعبر التصريحات التي أطلقها أردوغان ضد أوروبا قبل وبعد التصويت عن أزمة حقيقية ولها امتدادات على طلب العضوية الذي تقدمت به تركيا منذ عقد أو يزيد وظلت بروكسل تماطل به وتضع العراقيل أمامه. وتتهم تركيا الاتحاد الأوروبي بالتراجع عن الوفاء بشروط الاتفاق حول اللاجئين. ذلك أن تركيا ترغب بدخول مواطنيها أوروبا بدون تأشيرات. ورغم التزام أنقرة بما اتفق عليه من ناحية وقف تدفق اللاجئين إلا ان الاتحاد الأوروبي واصل نقده لقوانين الطوارئ وملاحقة الحكومة لأتباع غولن.
واتسمت لهجة أردوغان في تصريحاته ومقابلاته بالمرارة، ففي مقابلة مع شبكة «سي أن أن (19/4/2017) « قال إن بلاده تركت تتنظر على أبواب الاتحاد الأوروبي 54 عاما. وسخر من كل من قال إن نتائج الاستفتاء جعلته ديكتاتورا قائلا «في حال وجود الديكتاتورية فأنت لست بحاجة لاستفتاء». وبالنسبة لأردوغان فالاستفتاء خطوة عظيمة في تاريخ البلاد تجعلها قوية ولكنه يعترف أن الحرب على بلاده واسعة وستزيد شراسة ليس على الأقل من المعارضة.
معجب وكاره
ويظهر كل هذا أن أعداء أردوغان كثر من العلمانيين واليساريين والأكراد الذين صوتوا كلهم بلا. ويرى سونير جاغباتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى بمقال نشره موقع المعهد (18/4/2017) أن أزمة تركيا بعد الاستفتاء نابعة من انقسام الشعب بين معجب وكاره لأردوغان. ويحمل الكاتب الرئيس مسؤولية هذا الاستقطاب لتبنيه سياسة شعبوية منذ صعوده إلى سدة الحكم في البلاد. ويقول جاغباتاي إن الرئيس شوه سمعة شريحة من الناخبين تضم القوى التي ذكرناها أعلاه على حساب تقوية قاعدته الإسلامية اليمينية القومية. ولا يرى الكاتب تصالحا قريبا بين المعسكرين بسبب الإستراتيجية الانتخابية التي تبناها أردوغان. ولا رجعة على ما يبدو عن نتائج الاستفتاء وستمضي تركيا في طريقها نحو التغيير وتشكيل البلاد على صورة الرجل القوي تماما كما فعل أتاتورك العلماني من قبل. وعلى خلاف رؤية مؤسس تركيا الحديثة التي حاول تخليصها من إرثها العثماني والإسلامي والتحالف مع المفاهيم القيمية الغربية يريد أردوغان حسب تحليل جاغباتاي العودة بتركيا إلى سياقها الشرق أوسطي، محافظة وإسلامية. إلا أن الرئيس أردوغان يواجه مشكلة لأن تركيا لم يعد يحكمها جنرال عسكري كأتاتورك فهي بلد ديمقراطي منقسم بين مؤيد ومعارض. ولأن تركيا تغيرت وأصبحت أكثر تنوعا من الناحية الإثنية والدينية والثقافية فلن يتمكن أردوغان من فرض رؤية الإسلام السياسي على المجتمع. وبدا الإنقسام واضحا بين الطبقة المتوسطة التي منحها أردوغان صوتا، ذلك أنه لم ينس جذوره في الأحياء الفقيرة التي نشأ فيها، وبين النخب المدينية التي صوتت بلا مثل مدينته اسطنبول والعاصمة أنقرة وأزمير. وتظل هذه المدن والتجمعات الصناعية قريبة من المبادئ العلمانية والديمقراطية الموالية للغرب، وسيواجه أردوغان مشكلة إلا إذا حاول تطويعها بالقوة مما يعني تحوله لديكتاتور ومستبد أو «سلطان جديد» كما وصفته الكثير من التعليقات الإعلامية. واللافت أن القوى العلمانية تدافع عن إرث اتاتوركي مات إلا أن الاستفتاء حسب جاغباتاي يعبد الطريق أمام «أتاتورك جديد» راغب بفرض الصورة الإسلامية المحافظة على تركيا. ولأن القاعدة التي يستند عليها أردوغان موالية له ومعجبة لحد العبادة فمن الصعب على المعارضة اليوم مواجهة أردوغان الذي يواجه امتحانا صعبا في عام 2019 كي يفوز ويطبق تعديلاته الدستورية التي قسمت بلاده. ويعتقد الكثيرون أن أمامه فرصة لحكم تركا حتى عام 2029 أي بعد سنوات من المئوية الأولى على ولادة تركيا الحديثة.
مشاكل الخارج
وإذا تركنا المشاكل الداخلية فأثر الاستفتاء سيكون واضحا على دورها الإقليمي والخارجي، خاصة فيما يتعلق بملف مكافحة تنظيم الدولة. ولهذا يرى محللون أن قرار الرئيس الأمريكي ترامب الإتصال مهنئا للرئيس التركي هي تعبير عن حاجته لمساعدة تركيا في الحرب على الجهاديين. وجاءت المكالمة رغم التصريحات الناقدة من وزارة الخارجية للاستفتاء. ونقلت نيكول غاوتي المراسلة في شؤون الأمن القومي في «سي أن أن» (19/4/2017) عن مسؤول قوله إن «الرئيس واع» بالميول الديكتاتورية لأردوغان «ومن جانب آخر فتركيا تعتبر حليفا مهما للناتو في مجال مكافحة الإرهاب. ويعتقد أنه في ظل الدوائر المنتافسة يريد تركيا أن تكون معنا في هذه المعركة وترك العناصر الأخرى في إدارته التعليق على الاستفتاء». ومع ذلك فتهنئة الرئيس ودعوته لزيارة واشنطن تعبر عن تقارب يعكس الإنقسام الأمريكي- الأوروبي بشأن التعامل مع تركيا التي تعتبر حليفا مهما في محاولته التصدي لتنظيم «الدولة».
نهاية التكيف
وهناك بعد مهم في نتائج يوم الأحد الماضي وهي ابتعاد تركيا عن الغرب. وكما كتب وزير الخارجية البريطاني السابق ويليام هيغ في ديلي تلغراف (17/4/2017) تتحمل أوروبا جزءا من مسؤولية خسارة الجزء الشرقي الأقرب إليها وبوابتها على الشرق وآسيا بعدما خسرت بوابتها على أمريكا العام الماضي، في إشارة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إلا أن فوز أردوغان «المر» حسب صحيفة «فايننشال تايمز»(17/4/2017) «يجعله سلطانا جديدا يحمل كل معالم السلطة المطلقة. ولأنه يحتاج لتحقيق فوز حاسم في عام 2019 كي يحصل على السلطات الجديدة فسيظل في مزاج المواجهة لا المصالحة ولن يتبنى مدخلا براغماتيا وينهي حملات التطهير ويستأنف المفاوضات مع الأكراد ويركز انتباهه على الإصلاحات الاقتصادية التي طال انتظارها». وهذا سيزيد من حجم المعضلة التي تواجه شركاء أوروبا الأوروبيين على ما تقول الصحيفة. ويجب عليهم اتخاذ المبادرات وإعادة تأطير التعاملات المهمة مع أنقرة خاصة المتعلقة بالتجارة والأمن والهجرة. كما يجب على القادة الأوروبيين أن لا يتخلو عمن تقول إنهم نسبة النصف تقريبا الذين صوتوا بلا ويتطلعون إلى أوروبا لحماية المبادئ الديمقراطية التركية. ووصفت صحيفة «الغارديان» (17/4/2017) النتائج بقولها إن تركيا «دخلت فصلا مثيرا للخوف ولا يمكن التكهن بمداه» كما أن تطبيق التعديلات الدستورية يعني إعادة تشكيل تركيا كـ «سلطنة» بعد قرن تقريبا من ولادتها. وسيترك التحول في النظام السياسي آثاره العميقة على علاقة تركيا مع أوروبا وحلف الناتو في وقت يعتبر التعاون في قضايا الأمن والهجرة حيويا. وترى أن التحول نحو الاستبداد قد اكتمل وتذكر بما قاله أردوغان مرة «المساجد هي ثكناتنا، والقباب خوذنا والمنابر رماحنا والمؤمنون هم جنودنا» رغم تبنيه سياسة مؤيدة للغرب. وفي بحثها عن التحولات الجديدة في تركيا ترى أن التعطش للسلطة مضافا إليه الخوف والرهاب وتراجع دائرة المستشارين لعبت دورا. فيما أسهمت الاضطرابات في الشرق الأوسط في تفكك النظام، ذلك أن تركيا اعتقدت أن بإمكانها التحول إلى نموذج للمنطقة خاصة بعد ثورات الربيع العربي عام 2011. واعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» (17/4/2017) أن الديمقراطية خسرت في تركيا وكتبت تقول إن العالم سيتساءل «إن كان بإمكان أمة خدمت ولعقود كجسر حيوي بين أوروبا والعالم الإسلامي العيش مستقرة وبمستقبل مزدهر في ظل رجل لا يحترم البنية الديمقراطية والقيم؟».
القدس العربي