الانتفاضـة الشعبية مدخل إلى الديموقراطيـة وليست كل الطريق إليها
احمد بعلبكي
كثيراً ما بررت مراكز الدراسات والقرار في الولايات المتحدة دعم أنظمة الإستبداد وتجددها في بلدان الجنوب كخيار لا بد منه في مواجهة الأنظمة الشيوعية والأصولية، باعتبار أنها أنظمة حليفة وقابلة للإصلاح. ولم تهتم هذه المراكز بالآثار المدمرة لهذه الأنظمة التي يقوم حكمها على آليات لتوزيع الناتج الوطني التي تعزز الفساد من فوق، في قمة حكمها، عبر آليات مشرعنة للاستئثار بموارد الدولة وخفض حصة مداخيل القواعد الشعبية لحكمها من إجمالي الناتج الوطني. وأدى نهج هذه الأنظمة الى تشجيع المقربين من الحكم والمتمولين الوافدين من الخارج على الإستثمار في قطاعات السياحة والبناء والخدمات والصناعة والزراعة، مستفيدين من إقبال أصحاب القرار في الحكم على مشاركتهم، مقابل تمكينهم من تجاوز القوانين والالتزامات المالية. فكانت عاقبة هذا النهج تبرير الفساد من تحت، وترسيخ سلوكيات التواكل والزبائنية لدى مقاولي العصبيات الصغيرة والكبيرة، ممن يتقاسمون المقاولات، او يستفيدون منها مقابل دعم الحكومات وموالاتها.
هذه الحكومات التي تقبلت توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الداعية إلى انسحابها من مسؤوليات بناء الاقتصاد الوطني المتكامل قطاعياً ومناطقياً ومن مسؤوليات رعاية الأمن الاجتماعي وحماية التعددية، اللتين، كانتا في ظل دولة الرعاية، تفوّتان على مقاولي استثمار الفقر والتهميش فرص تأليب الجماعات الطائفية والإتنية المتآلفة تاريخياً على بعضها البعض وتحويلها الى عصبيات متلاغية وحرف وعيها عن نهب ثرواتها وأسواقها.
لقد تفاقمت التفاوتات الطبقية داخل أنظمة الاستبداد ووصلت إلى زمن جديد، لم يعد إعلام التمويه والتعمية الإيديولوجية الموالي للسلطة، قادراً على مواجهة تكنولوجيا الشفافية للإعلام الرقمي. إنها التكنولوجيا التي تولاها رواد الإنترنت على مواقع التواصل الاجتماعي المحركة لأكثر الفئات الشبابية تضرراً نفسياً واجتماعياً في أسواق الرأسمالية الريعية المتفلتة من مسؤوليات الحماية الاجتماعية. ولذلك كان هذا الإعلام هو الأقرب إلى معاناة العوز في العائلات الشعبية أياً كان إيمانها وانتماؤها من إعلام الصحف الموالية. هذه الصحف التي تمول من الحكومات فتسمى صحفاً قومية في مصر أو الممولة من احتكارات الإعلان وأمراء المال الجدد في الطوائف فتسمى تجاوزاً صحفاً ليبرالية في لبـنان.
أجل إنه زمن الإعلام الرقمي الذي يخرق رقابة الأجهزة ويأس القانطين من الصابرين ممن آمنوا بأن رزقهم في السماء وما يوعدون. ويبرز الوقائع المصورة لمتخرجي الجامعات والمعاهد المهنية التوانسة المحبطين الذين لم يروا في تجرؤ محمد بوعزيزي على إلهاب جسده عملاً بطولياً قومياً في الجهاد ضد أعداء الأمة الخارجيين، بل رأوا في تجرؤه هذا حرق نفسه فدية تهز وجدان كل إنسان مُهان يومياً في تحصيل كفافه في مدن وأرياف تونس وليس في منطقة سيدي بوزيد والقصرين الريفية المهمشة وحسب. هذه المنطقة التي ترتفع نسبة الأمية فيها إلى 50%، علماً بأن نسبة بطالة الشباب بين 15 و29 سنة تصل في تونس إلى 31,2 %(1). اجل هكذا كان دور الإعلام الرقمي الذي بث على الشاشات في مصر أم الدنيا ما أقدمت عليه شرطة الفساد من قتل للشاب خالد سعيد جهاراً في أحد الشوارع، لأنه تجرأ على تصوير وبث مشهد محدود من مشاهد رشوة الشرطة، جعل القادة الكبار فيها يخافون من بث مشاهد عن أشكال فسادهم الأكبــر. الا ان ما يجدر الانتباه اليه هو ان دور الاعلام يقتصر على اشهار ظلم حاصل لا دور له في حصوله.
مما لا شك فيه أن تطور تكنولوجيا الإعلام الرقمي الذي مكّن الشباب في مصر على امتداد سنوات، وخاصة منذ أضراب أكتوبر عام 2008 لعمال الغزل والنسيج من التدوين والاتصال بالجماهير ومن التجرؤ النفسي والثقافي على كشف هزال النظام المصري، وكسر مهابة أجهزته، الأمر الذي استدرج المجتمع إلى كسر الخوف والاندفاع في انتفاضات عفوية خلاقة في الأيام الأولى. هذه الانتفاضات التي كانت تنتظرها القوى الليبرالية والديموقراطية وتستعد لاستثمار إيجابياتها في استنهاض صفوفها وفي الحد من سلبيات انهيار الاجهزة الأمنية على الناس فعملت على حماية الأمن في أحياء المدن وحماية المرافق العمومية التي ترمز إلى الثراء في تاريخ الشعب، ومنها خاصة المتحف المصري.
وتمثلت نجاحات القيادات الشبابية الليبرالية والديموقراطية في توحيد الضغوط الشعبية والعمالية في ميادين التحرير والمصانع والإدارات العامة حيث جهدت لإبراز الشعارات الموحدة بالرغم من التعدد والتنافر بين الميول السياسية والثقافية للمجموعات القيادية، وبالرغم من غياب البرنامج السياسي الذي يميز تبلوره حركة الثورة عن الإنتفاضة الشعبية. وفي تقديرنا أن افتقاد البرنامج الثوري المتبلور شكل في الواقع مزيّة للانتفاضة الشعبية لأن وجود مثل هذا البرنامج الذي ينص مسبقاً على الأهداف والأساليب الإجرائية يأتي عادة نتيجة هيمنة حزب أو فريق بين الأفرقاء المحضرين للثورات أو للإنقلابات، ويسوِّغ للفريق المهيمن في بلورة البرنامج المسبق تصفية تعددية الأطراف المشاركة في إدارة إسقاط النظام، وهذا ما حدث في الثورات الجماهيرية الفرنسية والبلشفية والإيرانية.
وفي تقديرنا أن افتقاد البرنامج المهيمن في الانتفاضات الشعبية التونسية والمصرية واليمنية واحترام مبدأ التعددية، وان لحقت به في ظل العفوية الخلاقة بعض من سلبياتها يشكل، في نظرنا، ميزة في النموذج الذي تقدمه هذه الانتفاضات العربية لشعوب بلدان الجنوب في عملياتها الديموقراطية التحررية: وهو نموذج يترك المجال فسيحاً للتعددية واستمرار الاختلاف في المساءلة والاجتهاد. ويصبح تقبل الاختلاف والتعددية داخل قيادات الانتفاضات، ولأول مرة في تاريخ حركات مواجهة الاستبداد، هو معيار ديموقراطية أطرافها في مواجهة التطرف على أنواعه الديني وغير الديني. وهو معيار استمرار العملية الثورية (Process) على مدى الزمن ومعيار ديموقراطية الحكم الذي تفضي إليه الانتفاضات. إنه الحكم الذي لا مكان فيه لتقديس الحاكم الذي تشرعن الانتخابات المفبركة تعاقب ولاياته (حصل بن علي في 5 انتخابات شعبية متعاقبة منذ عام 1989 على النسب التالية من الأصوات: 99,27 % عام 1989 و99,91 % عام 1994 و99,45 % عام 1999 و94,49 % عام 2004 و89,62 % عام 2009 (2). هذا التقديس للحاكم في الدولة كما التقديس لحكم أمراء الطوائف اللبنانية الذي يستحيل أن لا يودي بجماهيرهم إلى التهلكة وإلى تبرير دعوة الأمراء المنافسين لهم في طوائفهم القوى الخارجية لمناصرتهم على حساب سيادة الدولة والأمن الاجتماعي والاقتصادي لسكانها.
وفي المجتمعات الشمولية الأكثر تعددية ثقافية من المجتمعات المصرية والتونسية واليمنية كالمجتمع السوري مثلاً قد تتيح هذه التعددية لقيادة النظام تبرير استمرارها في الحكم بحجة قطع الطريق على وصول الأصولية الإسلامية إلى السلطة والى مخاطر التقاتل الأهلي بين المكونات الطائفية للمجتمع الواحد. إن إعلام التخويف قد ينجح في تعويق فعالية المعارضات الداخلية والدولية للنظام. غير أن أزمات الفساد والبطالة وكبت الحريات تبقي المنافذ مفتوحة دائماً أمام معارضاته الداخلية والخارجية العاملة لتحريك المتضررين من الشباب خاصة لضرب أسسه وشرعية قيادته المتجددة بالمبايعات والبرلمانات المعلبة. لا يمكن أن تعالج مثل هذه الازمات عن طريق إجراءات رمزية تتمثل بإزاحة مسؤولين فاسدين أو بإصدار تشريعات ليبرالية تواصل الأجهزة المخابراتية التحكم بتطبيقها. إن مثل هذه المعالجات المجتزأة المخففة من شمولية النظام تبقى عاجزة عن حل أزمة المصالحة المستعصية لهذا النظام المتردد، بين اضطرار لتوسيع الليبرالية الاقتصادية والأسواق من جهة وبين اضطراره لمحاصرة حرية القول والاجتماع بحجة التخوف من نفاذ أعدائه من جهة اخرى.
يبقى أن نخلص في الختام إلى القول بأن إسقاط جهاز الحكم الشمولي غير التعددي لا يعني بالضرورة تمكين القوى الليبرالية والديموقراطية من إقامة نظام قادر على مواجهة آليات العولمة النيوليبرالية المحاصرة لتطلعات هذه القوى في السيادة والتنمية المستقلة. ونحن نعلم أن فئات عديدة من المتضررين مباشرة أو من غير المستفيدين كما يريدون من الأنظمة المستبدة، تميل عندما تصل إلى السلطة إلى استهوان التفرد في إدارة السلطة والثروة، وتميل إلى اعتماد سياسات اقتصادية ومالية وتعليمية تلائم مصالحها على حساب مصالح الفئات الأخرى. وأن إمكانيات حصول انتفاضات مضادة متسلحة بتكنولوجيا أكثر تطوراً، ستظل تجد دعماً خارجياً لها في زمن انفتاح حدود أسواق المال والإعلام والتجارة والسياسة. ولا يحمي عملية الدمقرطة إلاّ تحصين التعددية عبر تنمية الموارد البشرية والاقتصادية وتمكينها من القوة على المنافسة والمفاوضة المتكافئة في أسواق المنطقة والعالم.
(1) مقالة في «ملف مواجهة الصدمة في العالم العربي ـ من الاستنكار إلى الثورة» لأوليفيه بيو ـ لوموند ديبولماتيك، عدد شباط 2011.
(2) مقالة هشام بن عبد الله العلوي بعنوان: «موجة الصدقة في العالم العربي ـ تونس فاتحة الطريق» لوموند ديبلوماتيك، نفس العدد.