التوازن الكارثي التهجيري السوري بوصفه نموذجا/ وسام سعادة
تهجير أكثر من ثلث الشعب السوري إلى أصقاع الأرض يختلف عن أي محنة تهجيرية أو ترحيلية عرفها الكوكب في التاريخ الحديث. فهو يحدث على خلفية «توازن كارثي» بين ثورة فشلت في الإطاحة بالنظام الاستبدادي الفئوي، وبين النظام الذي فشل في إخماد بؤر المنتفضين والخارجين عليه، التي ما فتئت تتوسع، ولم يلجمها إلا التدخل الجوي الروسي، من بعد التدخل الإيراني والعميل لإيران. لكنها «لجمة» لا تلبث أن تتهافت ما أن يوقف الطيران الروسي طلعاته وغاراته.
تحوّل هذا النظام من استبدادي يخفي سمته «الاحترابية الأهلية من جانب واحد» بصبغة «سلم أهلي» ونغمة «بناء سوريا الحديثة» إلى نظام احتضار دموي، يحاكي من جهة، الآليات الكولونيالية لمواجهة «السكان الأصليين»، ويتمثل من جهة ثانية، بأحطّ التلبّسات الاستشراقية، بجنوحه لاعتبار أبناء الأقليات هم «السكان الأصليون» لسوريا منذ القدم، في حين يتعامل مع هذه «الأكثرية العربية السنية» وافدة مع الغزوات العربية والتركية، كيف لا، و«السكان الأصليون» المتخيّلون بهذا المعنى، ضنينون على الأركيولوجيا التي تصل حاضرنا بالحضارات السورية الغابرة، في حين تعكف شرائح من «الأكثرية» على تحطيم هذه الشواهد؟
هنا المفارقة المفترض أن تكون الأكثر استفزازاً للوعي الكوني. فالنظام، هو المسؤول رقم واحد عن هذا الكم من السوريين الذين يهجرّون داخل وخارج بلدهم، والذي لم يعد مهتماً بنفي القصدية الاثنية الصرف للمعارك التي يخوضها بقصد تأمين «مجال حيوي» متصالح مع تركيبته، ويصل العاصمة بمجرى العاصي بمنطقة الساحل، ويجهد لاستعادة المعادلة في حلب. لكن النظام، الذي استخدم الكيماوي في الغوطتين، و»عوقب» بتسليم ترسانته الكيماوية في مقابل التخفيف من حدة اللهجة الأمريكية ازاءه، والذي لم تنبر أي حكومة جدية في العالم لاعتراض قصفه الجوي، بالبراميل الحارقة، للمدن السورية الثائرة، هو نظام لا يكتفي فقط بمحاولة تعديل نسب الجماعات الاهلية وانتشارها في سوريا. هو نظام يتعامل مع هذا العدد من اللاجئين السوريين في البلدان المحيطة وعبر العالم، على انهم «لا يستحقون سوريا»، لأنهم «وافدون عليها» بين مئة وألف وخمسمئة سنة، وليس أبناء الحضارات القديمة، كما أبناء الأقليات. لن يعود هذا النظام بعد ذلك «حساساً» بازاء العنصرية الفظة لحلفائه في لبنان مثلاً تجاه اللاجئين السوريين. أبداً، ما دام هؤلاء «اللاجئون» في عرفه «وافدين» ظهر مع الوقت أنهم لا يستحقون سوريا.
في نفس الوقت الذي يتعامل فيه النظام مع البيئات المناصرة له على أنهم أبناء سوريا «منذ القدم»، فانه يستعيد على طريقته ثنائية «المستوطنين» في مواجهة «السكان الأصليين». فكما ان لسان حال المستوطنين الاوروبيين في المستعمرات هو ان السكان الاصليين لا يعرفون ماذا يريدون، كذلك هو النظام، في منطوقه حول أكثرية الشعب السوري. هو أدرى منها بمصلحتها، ان ارادت، واذا ارادت غير ذلك، تكون مغررا بها. ليس قليلا ان يسميها بشار الأسد مؤخراً بـ»الثورة المأجورة». اعترف بأنها «ثورة» ثم اعتبرها «مأجورة». لأن سكان المستعمرات لا يملكون المفاتيح التنويرية الضرورية للحؤول دون ان تخطف ثورتهم منهم.
بيد ان كل اجرام النظام لا يكفي لوحده لتفسير هذا العدد من النازحين واللاجئين السوريين. انه انفجار كبير لمجتمع. في سوريا، انهارت «الدولة» ولم ينهر النظام، لكن ايضاً انهار المجتمع. السرديات التي طبعت خطاب الثورة السورية لم تستطع ان توجد دينامية مضادة لانهيار المجتمع، لا حين كابرت على الواقع الطائفي والاثني السوري، ولا حين حاولت التماهي مع هذا الواقع بشكل زائد عن حده، بحيث تحول المنطلق التجميعي التوحيدي لأكثرية السوريين في مواجهة نظام دموي فئوي إلى آلة انشطارية لهذه الأكثرية نفسها. مقاربات كثيرة جنحت إلى ان هذا بسبب اللجوء إلى العنف في مواجهة بطش النظام ومجازره.
هذه المقاربات في أقل تقدير غير واقعية. كان يستحيل ان تبقى الأمور عسكرية دموية من جانب، وسلمية لاعنفية من جانب آخر. لا يوجد علم اجتماع سياسي يمكنه ان يتصور مجتمعا تكون فيه المواجهة هكذا. وبالطبع، الاحالة غير الواعية إلى غاندي وحركته اللاعنفية تشكل خلفية كل من يأخذ على الثورة اللجوء للعنف عندما صار عنف النظام لا يطاق. هذا في اقل تقدير سوء معرفة وسوء فهم لتاريخ انتزاع الهند استقلالها وتاريخ المواجهة بين جماعاتها في الفترة الاستعمارية، وفي مرحلة غاندي. لم تكن لاعنفية غاندي سوى بعد في صراع اعتمد العنف في وقته إلى حد كبير. ما كان يمكن للغاندية ان تكون شاملة وكلية لا في الهند، ولا في سوريا.
لكن المشكلة كانت في الايديولوجيا القتالية التي اعتمدت. ايديولوجيا آثرت عدم التعلم من ذاكرة حروب العصابات، والحروب بعامة، العائدة للقرن الماضي. فضلت «تحصين الذات» في الأحياء والمناطق المحاصرة، والتعويل اما على انهيار العدو بارهاقه وانفجار تناقضاته، واما على التناقضات بين اقوياء العالم، فكانت النتيجة انفجار التناقضات بين القوى والمشاريع المختلفة المناهضة للنظام. كانت النتيجة ايضاً انه وبدل قطع شبكات امداد النظام، بمحاصرة المدن، ووصل المناطق الريفية بعضها ببعض، وتحويل التموين في المدن إلى ازمة مستمرة بين الأهالي وبين النظام، ان حصل العكس. لم يبق من النظام إلا شبكة امداداته ومواصلاته، وزجت القوى المسلحة المواجهة له نفسها في مغامرات غير موفقة لتسيير شؤون الناس بالاعتماد على خلفيتها الايديولوجية الجهادية.
عدم الرغبة في التعلم من القرن الماضي تتطبع انتفاضات 2011 كلها بشكل عام، باهت، هذه الانتفاضات بأنها في غنى عن الحزب الثوري، والقائد الكاريزمي، والأيديولوجيا التي تبحث عن تسويغ علمي الطابع لها، وأن التعويل على حيوية المخاض، وثورة الاتصالات، والأدلجة الاخلاقوية البحت، هو بديل كاف. ظهر ان القرن العشرين كان لديه ما يمكننا التعلم منه اكثر، وفي سوريا ساهم عدم فهم ذلك، والتعامل مع النظام كما لو انه حشرجة القرن الماضي المنتهية اساسا بانقضاء «قرن التوتاليتاريات» لم ينفع كثيراً. كل هذا زاد من حجم الكارثة الكبرى: تهجير أكثر من ثلث السوريين، ان لم يكن نصفهم. تهجير يتعامل معه العالم بشكل في غاية السذاجة: كما لو كان مصاب السوريين هذا لا ينبئ بمصائب شعوب أخرى في مجرى القرن. التوازن الكارثي التهجيري السوري هو قبل كل شيء نموذج.. ونموذج رؤيوي.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي