الحركة المرشدية في الساحل السوري (1946-1923): إصلاحية دينية واجتماعية… أم قبلية متمردة؟/ محمد الربيعو
■ ليس من السهولة اليوم الحديث عن تاريخ جبل الساحل في سوريا، أو تاريخ بعض الحركات الدينية/الاجتماعية التي نشأت في تلك المنطقة مع بدايات القرن العشرين. إذ ما يزال المؤرخون يعانون ولأسباب عديدة من عدم القدرة على الوصول إلى وثائق كافية في تاريخ هذه المنطقة، بالإضافة إلى أن أسبابا سياسية وأمنية واجتماعية ـ خاصة في العقود الأخيرة- حالت في مرات عديدة دون جمع تراث المنطقة الشفوي، وهو ما أزال أي إمكانية للاستفادة من هذا التراث الذي يبقى (برأينا) المصدر الأكثر أهمية لكتابة تاريخ هذه المنطقة والكثير من المناطق الأخرى الريفية في سوريا.
وربما في ظل الحرب التي تشهدها البلاد بات مشروع جمع هذا التراث أكثر صعوبة إن لم يكن مستحيلا، وهذا ما يعني فقداننا لواحد من أهم المصادر عن التاريخ الاجتماعي واليومي للمنطقة والتحولات التي شهدتها في المنتصف الأول من القرن العشرين.
في هذا السياق، يعد كتاب المؤرخ السوري عبد الله حنا «المرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية 1923-1946» من الكتب الجديدة والمهمة في هذا الموضوع. ورغم أن حنا بقي في هذه الدراسة متحيزا كحال باقي كتبه السابقة «حركات العامة الدمشقية»، «الفلاحون وملاك الأرض في سوريا القرن العشرين»، «الحركة الشيوعية السورية» وغيرها، لرؤية ماركسية تنظر إلى الديناميات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها سوريا في القرنين التاسع عشر والعشرين، بوصفها تعكس صراعا بين الإقطاعيات والبورجوازيات من ناحية، والحركات الفلاحية والعمالية من ناحية أخرى، إلا أنه وكحال باقي كتبه استطاع أن يقدم مدخلا مهما وضروريا للغاية (خاصة على مستوى الجمع بين الوثائق المتوفرة، من كتب ومذكرات وتقارير الدرك المحفوظة في مركز الوثائق التاريخية في دمشق) لإعادة قراءة تاريخ حركة دينية/اجتماعية في فترة مهمة من تاريخ الساحل السوري، وهي فترة مسكوت عنها في الدراسات السورية، وما تزال المقاربة تجاهها أقرب ما تكون إلى الحكايا والصور النمطية والسرديات المتضاربة أحيانا، التي باتت تتعزز خاصة بعد مرحلة الثمانينيات في سوريا، في ظل الحساسيات الطائفية التي شهدتها سوريا في تلك الفترة، ما أدى في مرات عديدة إلى اختزال وتجيير كل تاريخ الساحل لصالح صراعات سياسية وحزبية في الأساس، كما في حالة التكرار الدائم للوثيقة التي أرسلها عدد من رجال الدين العلويين إلى فرنسا، مطالبين إياهم بإبقاء خيار الانفصال عن سوريا، متناسين في الوقت ذاته ـ كما يشير عبد الله حنا ـ عقد مؤتمر في طرطوس بتاريخ 1939 تقرّر فيه رفع مذكرة إلى السلطات الفرنسية تضمنت البنود التالية: إن محافظة اللاذقية جزء لا يتجزأ من سوريا، وتأييد المعاهدة المعقودة بين الكتلة الوطنية وفرنسا بشأن استقلال سورية، وتأييد مقررات المجلس النيابي السوري في جلسة 31 تشرين الثاني/نوفمبر 1938 بشأن انضمام محافظة اللاذقية إلى الجمهورية السورية.
وبالعودة إلى تاريخ الحركة المرشدية التي تعد الموضوع الأساسي لكتاب حنا، فإن المؤلف يقدر اليوم عدد المرشديين بحدود الـ300– 500 ألف مرشدي. ينتشرون في بعض مناطق العلويين في الحفة والغاب وجبال الحلو (ومنها شين وعوج ومرعين) وبعض قرى حمص وفي منطقة القنيطرة (عين منين وزعورة والغجر). ووفقا لصاحب كتاب «تاريخ الفلاحين» فإنه يمكن تقسيم تاريخ الحركة المرشدية إلى ثلاث مراحل أساسية:
المرحلة الأولى (1923- 1946)، وهي مرحلة التأسيس والسير خلف سلمان المرشد الأب الروحي للحركة.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد المرشد الممتدة بين عامي 1946 و1951، إذ عاشت الحركة ظروفا صعبة بعد إعدام مؤسسها سنة (1946) ونفي أولاد المرشد.
المرحلة الثالثة: بدأت مع إعلان مجيب بن سلمان الدعوة في 25 آب/أغسطس 1951 فبعد أن أمضى مجيب سنوات نفيه الثلاث التي حكم عليه بها المجلس العدلي الاستثنائي في عام 1946 التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، ثم قطع دراسته وعاد إلى منطقة الغاب ليطلق سرا ما يسمى وفقا للمعتقد المرشدي الدعوة إلى «المعرفة الجديدة» لله. وهو اليوم الذي لا يزالون يحتفلون به دينيا في كل عام، ويسمونه «عيد الفرح» بالله. ويعد عيدهم الديني الوحيد. وبعد أن اغتال قائد الشرطة العسكرية عبد الحق شحادة مجيب المرشد في 27 نوفمبر 1952، قام على تولي أمور المرشدية – بناء على وصية مجيب- شقيقه الأكبر ساجي بوصفه «المعلم والإمام» من بعده، وقد استفاد ساجي من فترة الحرية التي عاشتها الحركة بعد اعتلاء حافظ الأسد الحكم عام 1970 وتمكن من رفع المحنة عن الجماعة ورحل في عام 1998 من دون أن يوصي بالإمامة لأحد من بعده.
المرحلة الأولى: نشأة الحركة:
أما عن النشأة ـ التي شكّلت المحور الأساسي للكتاب ـ فإن حنا فضّل قبل الحديث عن تاريخ الحركة، أن يعود بالقارئ إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي عاشها العلويون في جبل الساحل (أو جبال النصيرية كما كانت تذكر في عدد من المصادر) مع بدايات القرن العشرين. ففي فترة العثمانيين كانت هذه الجبال تابعة إداريا لثلاث ولايات عثمانية: لواء اللاذقية التابع لولاية بيروت، وقضاء مصياف التابع للواء حماه التابع بدوره لولاية دمشق، وقضاء جسر الشغور التابع لولاية حلب. أما بعد مرحلة الانتداب الفرنسي، فقد ضُمّت هذه المناطق وسميت بلاد العلويين ومركزها اللاذقية.
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد عُرفت هذه المناطق بسيطرة وجهاء من السنة على الأراضي، كما في حالة الدنادشة والزعبية، في المقابل عمل العلويون لدى الدنادشة وغيرهم من العائلات المالكة، ولم يكن يسمح لهم في تلك الفترة بالعيش في المدن الأساسية مثل، اللاذقية وجبلة وطرطوس إلا بصفة خدم، بالإضافة لذلك كانت قرى المرشدية (لاحقا) قرى فقيرة ومنعزلة وحالتها سيئة يعتمد أهلها في حياتهم على الزراعة، وبالتالي لم يكن باستطاعتها أن تؤسس لأي حركة أو نشاط تجاري. وفي ظل هذا الواقع نشأ سلمان المرشد في قرية جوبة برغال، التي كان عدد سكانها يقدر عام 1907 بحدود الـ500 نسمة. وقد نشأ سلمان المرشد في عائلة متواضعة لا تنحدر في أصولها إلى عائلات الوجاهة داخل العشيرة، مع ذلك استطاع خلال سنوات أن يفوق في نفوذه مكانة أقوى رؤساء العشائر العلوية. وفقا للروايات التي ينقلها حنا فإنه في عام 1920 أصيب سلمان المرشد بمرض عصابي، فعالجه حينها شيخا القرية الشقيقان إبراهيم وأحمد محلي علي بالقراءة والمداواة الروحية. وفي أثناء مرضه كان ينادي: «يا خضر» فشاع أمره بأنه يواجه الخضر أبا العباس. في تلك الأثناء تحمس للمرشد شخص يدعى محمد خرطبيل بيطار الجوبة الذي كان يجوب عددا من القرى المجاورة، وبحكم هذا التنقل أخذ ينشر أخبار المرشد ورؤيته الخضر، وحينها أخذ الناس يتقاطرون من القرى لمشاهدة من يرى الخضر للتبرك به. في حين يذكر نور المضيء مرشد في كتابه «لمحات عن المرشدية» رواية مختلفة بعض الشيء عن النشوء، إذ يذكر أن «سلمان بدأ وهو ابن ستة عشر عاما يتكلم بحقائق لا يعملها على هذه الصور البديعة حتى مشايخ القوم أنفسهم… وقد تسامع الناس بأخبار هذا الصبي وأنسوا لوداعته… وكان يسير من قرية إلى قرية في هذه المسالك الوعرة يتكلم بهذا الكلام، فأنست له قلوب بني غسان ذلك الشعب الساكن في أعالي الجبال. رجال مستوحشون من الناس طاردتهم فئات ذات عصبية عمياء، وما هي إلا ثلاثة أشهر حتى جاءت إليه جماعات من قرى اللاذقية وحمص ومن قرى الحدود الجنوبية مع فلسطين، ليعلنوا عن حب وولاء وقد سمي هذا التوافد (يوم الدخول). وأحيا سلمان مناسبة لاحتفال بني غسان باتحادهم في 12 تموز/يوليو من كل سنة. وكانت العشائر الغسانية قبل سلمان بحكم توزعها في سوريا لا يعرفون بعضهم بعضا. فوحد سلمان هذه العشائر في عشيرة واحدة». وبالتالي نعثر هنا على وجهة نظر مغايرة بعض الشيء لرؤية حنا، لكن بكل الأحوال شكّل هذا الاهتمام والنفوذ الديني المتصاعد للمرشد حالة من القلق لدى معظم زعماء العشائر الأخرى المحيطة بمنطقته. وبرأي حنا كان لهذا القلق دلالاته وتأثيراته اللاحقة بين الوجاهات الخائفة على تقلص نفوذها والحركة المرشدية الصاعدة والمستندة إلى حماسة الفلاحين المنتمين إلى العشائر الغسانية (العمامرة والمهالبة والدراوسة) التي اعترفت بالمرشد «رئيسا للشعب الحيدري الغساني». ومع تصاعد نفوذ الحركة اعتُقل سلمان المرشد في عام 1923 من قبل الفرنسيين لأسباب عديدة، وحُكم لمدة شهرين، ومن ثم نفته سلطات الانتداب الفرنسي إلى الرقة لمدة عامين بين 1923-1925. وبعد عودته بمدة استأنف نشاطه في عام 1928، فأخذ يوطّد حركته عبر التحالف مع عدد من العشائر والوجاهات الاجتماعية العلوية من خلال عامل القرابة والزواج بعدد من النساء اللواتي ينتمين لهذه العشائر، وبعد أن وطّدت الحركة أقدامها في منطقة الحفة، انتقل إلى منطقة الغاب القريبة وفي مقدمتها قرية شطحا التي تحول قسم من أراضيها إلى ملكية للمرشد، وبعد الحفة والغاب انتشرت الدعوة في بعض قرى جبل الحلو (تلكلخ حاليا)، مبتدئة من مريمين على يد سليمان العيدي، الذي دعا المشايخ والوجوه لاجتماع في منزله، حاثا إياهم على قبول الدعوة المرشدية وزيارة مؤسسها في جوبة برغال. ووفقا لحنا، فإنه في هذه الأثناء كان الاهتمام والتفاعل الأكبر مع الحركة يأتي من خلال الفلاحين، الذين رأوا في الحركة المرشدية سلاحا يجمعهم للوقوف في وجه ملّاك الأراضي الحمويين المهيمنين على المنطقة. ولعل ما يؤكد هذا التحليل برأيه هو أنه بعد ضعف المرشدية على إثر إعدام المرشد (1946) وبداية ظهور حركة أكرم الحوراني في حماه المناهضة للإقطاعيين، بدأت تتكون معالم حلف بين أبناء هذه الحركة (الحوراني) وفلاحي جبل الحلو مثلا، وهو الأمر الذي لمسه عبد الله حنا في قرى جبل الحلو عام 1984، على مستوى تعاطف أبنائها (كبار السن من المرشديين) مع الحزب العربي الاشتراكي.
ومع بداية 1939 بدأت تظهر تشكيلات مسلحة تابعة للحركة، وقد قامت هذه التشكيلات باحتلال بعض المخافر في الفاخورة وصلنفة ومزيرعة وعين البيضة، وأمست لها السيادة لردح من الزمن على تلك المناطق، إضافة إلى عدد من قرى الغاب الغربية. كما فرضت الحركة نوعا من الخوة أو الضريبة على العديد من القرى والمناطق داخل الساحل. ورغم هذه السيطرة وإدارة المنطقة، إلا أن عبد الله حنا يرى أن الحديث عن أن سلمان المرشد قد راودته فكرة تأسيس دولة تبقى رؤية وسردية غير دقيقة ومبالغا بها كثيرا، خاصة أن مشايخ العلويين –في رأيه – لم ينظروا بعين الرضا إلى حركة تأخذ قسما من أفراد الطائفة وتنفصل عنها، بالإضافة لذلك فإن موقف رؤساء العشائر وحتى المثقفين كان متشككا من الحركة، خاصة أن حركة المرشد شكّلت منافسا لنفوذهم وتهديدا لوجاهتهم، وبالتالي مع هذا الاستنتاج لا يمكن النظر إلى هذه الحركة بوصفها حركة انفصالية، بمقدار ما هي، إما حركة دينية كانت تسعى إلى إصلاح الوضع الاجتماعي الذي عاشته مناطق الساحل في فترات معينة؟ أو أنها كانت عبارة عن حركة قبلية/متمردة تسعى إلى توحيد دور العشائر الغسانية؟ ولذلك تبقى الإجابة عن هذا السؤال محيرة وتحتاج منا، كما يشير حنا إلى بحث أوسع، وربما إلى مصادر جديدة. وهو ما نأمل أن نجده في المستقبل من خلال دراسات أكثر تفصيلية لباحثين اجتماعيين ومؤرخين سوريين، وربما من خلال اهتمام أوسع بتاريخ الحركات الاجتماعية والدينية في سوريا بشكل عام، رغم أن هذا الاهتمام ما زال غائبا عن الأجندات البحثية لغالبية الباحثين ومراكز البحث والنشر السورية.
٭ كاتب سوري
القدس العربي