صفحات العالم

الحياد والانحياز… عدوا العقل في الثورة/ نزار السهلي

 

 

على قدر من الغباء استخدم مصطلح «الحياد والنأي بالنفس» في الثورة السورية، من قبل طبقة سياسية أو ثقافية، حزبية أو إعلامية، وعلى ذات القدر من النفي المتجول للحياد الأخلاقي كانت تلك الطبقة تلعب دورا اساسيا باقترابها الشديد من الاستبداد، وتحيد بشراسة وحساسية ساخرة ولاذعة عن آلام البشر.

في كثير من الأحيان بقيت تلك الطبقة ملتصقة بخشونتها الهائلة فوق أيدي الجلاد، حتى لم تعد تمتلك أي قيمة إنسانية، وهي شمائل لم تفارق هذا «الحيـــاد والنأي» ودعواته، ولم يسبق لهذا المصطلح المنكشف على سلبية قاتلة وحجة معادية بوضوح للفكر والحرية، فكان لكثير من المواقف النائية والمحايدة دور مبطن وعلني للتغطية على الجرائم المؤيدة ببراهين لا يمكن حصرها، روايات وأفلام وشهادات وصور لجثث عذبت بطريقة وحشية وأخرى غُيبت وجوعت حتى الموت، «الحياد» فيها سقوط مريع لمعنى الادعاء الأخلاقي والإنساني. فكيف يمكــــن لهذا الحياد المثقل بلوائح الموت البشري جوعا أو تعذيبا أو قصفا أن يستمر؟

بالطبع استمراره يعني انحيازا خاسرا للا شيء، في تنقله بانهزامية امام الضحية إلى انتهازية تغطي عجز الأخلاق والضمير والسياسة، بسخط مخزٍ من حكايات البشر المعذبين والمقتولين بكل الوسائل بما فيها الجوع، إلى الاعجاب ببطولة الديكتاتور ومن يعاونه، نائيا بتخطى الحدود، ومتقوقعاً على بوصلة صهرتها قذائف الموت.

تواتر وتكرار الحياد، بالمرور على حائط الضحايا، منح تلك الطبقات أو الأحزاب صفة غير منتم لأي مفاهيم أو قضايا رُبطت تاريخيا في أدبيات كانت تنادي بتحرر الإنسان، وظهرت في حقبة الثورة السورية استعمالاتها السلبية، استبدلت في « الحياد والسلامة « لبعض حوانيت ومنتديات الفكر والسياسة والثقافة والاعلام التي تعتاش على تهميش وتهشيم الواقع بقولبة الشعارات و»خوزقة» الانسان العربي الذي يعيش تحديا مصيريا، ففضلا عن مقاومته لكل أشكال الفاشية والفناء، يجد نفسه أمام تجـــــريد خيالي للأكاذيب المنطوية على رسائل الإسناد للقاتل بعد الانتقال من الحياد الى الانخراط الفعلي في صناعة بؤس البشر ويأسهم، عبر تبني «قيم وشعارات» الاستبداد ومزجها مع حياد يفضي الى مقتله. التسويق الرث الذي أدارته الماكينة الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية في كل ما يجري على مدار خمسة أعوام، فتح الباب واسعاً لموجات من الهمجية المرعبة وأرخى كآبة ويأسا من كل الايديولوجيا والسياسة، التي وجدت في المجتمعات الثائرة فجائع مقيتة عليها زعزعت تلك الأبراج المتشعبة المسالك والحركة التي لا توصل الى مكان سوى القبر أو السجن.

البيانات «النائية» عن الثورات في طبعتها السورية مدعاة للكآبة، ومليئة بالألم والقلق الهاملتي، من دون شجاعة الإشارة الى نيرونها حارق أجساد ضحاياه.

ديباجة بعض الأحزاب والنخب على مختلف انتماءاتها الشبيهة بالمنظومة الحاكمة في دمشق والمتملقة لصعود عسكر مصر، قامت عند بدايات الثورة بتفصيل تفسيراتها «المحايدة» وإطلاق خرافة البدائل المستحـــيلة، التي تحولت إلى سخرية تُعمق سخف التاريــــخ الذي يسجل حقبة زمنية لا تقل عاراً عن فعل الإجرام والحصار والتدمير والتهجير للعام الخامـــس على التوالي، وهي تحاول أن تنتج ثقافة ما هي إلا زبد آخر من انهيارات شاملة تسهم بها عقــــلية الانحطاط الكامل والانهيار الشامت نحو نهايات محتومة، حددت مصيرها إرادة الانسان، مثــــلما لم يظن مثقفو زمن الحياد المتحولين في عهد الاستبداد الى ادوات جاوزت حيادهم و«بوصلتهم» المزعومة، بأنهم سيكسبون في النأي ظاهراً، لكنهم يخسرون برفع صور قاتل شعبهم وهم يحتفون بانطــــلاقة «حركة تحرر وطني»، وآخر يهتف «أنه تطوع فدائيا كرمى لحذاء الاسد»، وآخر ينتقل فوق الجثث باحثا عن طريق فلسطين ليستريح على وسادة قاتل شعبه، وآخر مبررا مشاركة «مقاومته» بقتل السوريين كرمى لشعارات فلسطين والقدس، وآخرون يرون في الديكتاتورية والطغيان ضرورة، وهم ذاتهم تشدقوا في بوصلة الحياد و»النأي بالنفس» لذات المكرمات الغاطسة بدم الشعب لسوري من موسكو الى طهران وصولاً لضاحية لبنان. مع ان كثرة المقابر والمجازر والمقاهر، لم تكن كافية لتزويدهم ببعض مزايا الإحساس الأخلاقي، إلا أنها كاشفة بعمق مؤلم تلك الادعاءات، لنتصور مثلا ان هناك مواقف عامة كالتي صدرت عن تلك النخب والادعاءات التي تصدر بين الحين والآخر، مضمونها شاهد زور على رعب يستفحل بالمجتمعات الى درجة مريعة، مع هجوم على الضحية متسم بالبذاءة والتهــــكم الشديد وإعجاب أعمق بالحذاء العسكري، وهنا تتبدى نقطتان مهمتان الأولى: تتمثل بقدرة «الحياد والنأي بالنفس» على جذب عناصر شعاراتية كرتوش تجميلية في البداية، ومن ثم اصبحت جزءا فعالا من عملية الثورة المضادة.

والنقطة الثانية: انه الى جانب المتغيرات التي تشهدها ساحة الثورة السورية، خصوصا والثورات العربية عموماً والتبعات المعقدة لتلك المتغيرات بات الحياد بصيغته «المتطورة» متكاملاً مع منهج الاستبداد، بما يتيح له كبح جماح المجتمع التواق للحرية والديمقراطية والخلاص من الاستبداد، وهي أسئلة ألــــح على طرحــــها «حياد» العديد من الحركات والاحــــزاب والقوى، سياسية أم ثقافية ونخبوية تشدقت فـــي بوصـــلة فلســـطين، وشعبها يُذبح في مخيمات لجوئه وفي المسالخ البشرية للممانعة المحمية بحيادها، ولا تتجرأ ان تنحاز اخلاقيا لضحاياها، وهو ما استدعى شـــحذ العقل بحرية كاملة للتخلص من تشوهات ونتوءات تلك الأسئلة عن البؤس الذي تخطى تلبس الصمت الى فجور المعايير «الاخلاقية» وضراوتها المولدة للاشتباك التاريخي والمذهبي والطائفي الذي يلعب فيه الاستبداد المحرك الأساس، وعليه تظهر اللامبالاة المزيفة في الحياد بعد خمسة أعوام عدم المساواة بين الضحية والجلاد، لكنها جلية اكثر في مناصرة الشذوذ الوحشي، بما يخدم سيكولوجيا القاتل عبر الزعق المثير لتزويد الضحايا بأسباب الموت وتوفــــير الثقة للمجرم على نحو موحش بأثقال الخيبة والإحبـــاط والخذلان، أشعل الابتذال الكارثي للحياد جدلاً حول دور الأحــــزاب والقـــوى والحركات والنخب التي كانت تتبنى مفاهيم تم الدوس عليها، ما يجعــــل فرص الديمقراطية والحرية عسيرة، وهذه حقائق نشأت على أرض الواقع بانقلاب دموي في مصر على ثورة 25 يناير، وبفاشــــية اكبر في التعاطي مع الثورة السورية من قبل النظام وروســـيا وايران والغرب. عناصر الحياد التي كانت تتابع مشهد الثورات في معظم ارجاء العالم العربي هي ذاتها لعبت دورا اساسيا في محو وتشويه صورة الثورتين في سورية ومصر، وانقلبت على باقي الثورات، فلم يختلف المشهد المصري كثيرا عن السوري لجهة أدعياء الحياد، حين كانت سلطات الانقلاب تمارس كل أنواع التنكيل والإذلال والقتل بحق ابناء شعبها، وتبتدع الطرق الأكثر فاشية في حصار ابناء شعبها كانت التبريرات تسقط بردا وسلاما على القاتل في دمشق والقاهرة من نخب اتكأت على عظام الضحايا.

يبقى القول إن كثيرين ظنوا أن حالة الفرجة على مقتل مئات الآلاف من البشر في سوريا وتهجير الملايين، ستقود إلى النجاة، إلا أن دموية الصورة لم يعد فيها من الأسرار شيء بما فيها حياد يمنح المزيد من الوقت للذبح وإنتاج بيئة تجعل من نمطية الصورة أبدية سرمدية لا نهاية لها، غير أن للشعوب ذاكرة وبوصلة غير تلك «المطعوجة» والمختطفة باسم الحياد والنأي بالنفس، حتى لو سميت بالكذب الرديء، القدس أو فلسطين أو أمن قومي وسيادة وطنية، وكلها مسميات مفضوحة قبل ان تزداد الصورة نفاقا وارتباكاً.

٭ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى