الخروج من المأزق التراجيدي السوري/ أحمد الجربا
هل نقفز على الألم بتساؤلنا المفرط في التطلب؟ أليس في الأمر من معضلة لا يمكن معها تحديد الاتجاهات وخرائط الطريق، كما يلح الكثيرون على القول؟ أليس في الأمر من الوضوح والقسوة والعنجهية ما يخرج الإنسان عن طوره؟ هل بلغ التوحش، في بقعة ما وبحق شعب ما، هذه الدرجة من الوحشية؟ حلب تتحول إلى مدينة أشباح، أرياف دمشق يتم تفريغها من سكانها، دير الزور، لا أحد يريد سماع ما يجري فيها من استباحة، الرقة عاصمة الرشيد، تحولت إلى مستنقعات عقاب داعشية، إدلب الخضراء، سجينة شذاذ الآفاق من أصقاع الكون، وحصار النظام وتهيئة دمها لتوزيعه على العالم، المشهد يغطيه سواد ممتد من الجولان المستباح منذ أمد بعيد، وصولا إلى جرابلس، حيث تستحضر شطر الشاعر العربي، أبي الطيب المتنبي: «وسوى الروم خلف ظهرك روم».
المشهد مريع، لكن التساؤلات التي تشهر برأسها ويرميها بعض الأعزاء كصاعقة تجر التشاؤم من قرونه: هل ما زال بإمكان السوري فعل شيء ما في مواجهة هذا النزيف؟ أي ممكن هذا؟ أي مقاومة والأرض تحولت إلى خراب؟ أين السوري حتى نطرح عليه ما يمكن فعله؟ ألم يتأخر الوقت لطرح هذا التساؤل؟ لماذا الآن وبعد أن مات من مات وخرب ما خرب وأزهقت الأرواح وهُجرت الناس وبتنا في عداد الشعوب والبلدان المنكوبة؟ تساؤلات على مد النظر، منها ما يطرحها الألم والمتألم السوري والمتضامن معه، ومنها التساؤلات المغرضة التي تأتي من نوافذ لسنا بصدد فتحها أو التوقف عندها، فالكراهية لا تعنينا أبدا، لأن ما نسعى إليه نقيض ذلك، لا نبحث عما يؤجج العداوة، وإنما نبحث عما يحولها إلى وئام ومصالحة تنهي مأساة الملايين من السوريين وتفتح نافذة أمل للأقربين إلينا، بأن ما فعله ويفعله الطغاة والحروب ومموليهم والمستفيدين منهم، يمكن أن تحلها الحكمة والعقل.
نعلم جميعا أن ما يحصل الآن ومنذ سنوات في سوريا، هو نتاج أكثر من خمسة عقود من الغياب والتغييب والتهميش، «ملّت الجموع من تكرار هذه العبارة»، وما يقرب من ست سنوات على انتفاضة شعبية لم تتوفر لها الظروف الذاتية والخارجية لاستكمال المسيرة التي أراد لها جموع المنتفضين في المدن والقرى السورية، الوقت ليس متأخرا لطرح السؤال علينا جميعا، ماذا يمكن أن نفعل كسوريين معنيين بشأن الوطن ومستقبله وأجياله القادمة؟ أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا، هذا ما يقوله المنطق الإنساني على مر التاريخ، الكثير من تجارب الشعوب تقول عن انتكاسات في الطريق نحو أهدافها، انتكاسات انتبهت لها فقررت بشجاعة ناسها فتح نوافذ جديدة للحياة، هذا ما تقوله التجربة اليابانية، بعد إحدى أكبر الكوارث في تاريخ البشرية، الاستخدام الأول للقنبلة الذرية، وهذا ما تقوله لنا التجربة الألمانية أيضا، بعد هزيمة جيشها الجرار، بقيادة هتلرها وسقوط برلين وبناء جدار يفصل شرقها عن غربها لتكون حدودا فاصلة بين قطبين انتصرا في الحرب العالمية الثانية، وهذا ما تقوله لنا تجارب شعوب كثيرة على هذه الأرض، لنتذكرها عساها تحمل لنا بعض الأمل، ونعيدها بأعلى صوت: أن نصل متأخرين خير بملايين المرات من ألا نصل أبدا.
هل نقيم المآدب على انكسار الروح السورية؟ لا أبدا، لسنا جديرون بسوريتنا إن توقفنا في هذه اللحظات على تلال الدمار وأشلاء أكبادنا لنروي حكاية يأسنا ونحصي ضرائب خيبتنا، الإحباط أيضا شعور إنساني ولكنه يؤدي إلى العدم، إلى الإحباط وهوة اليأس، نعم لنا جميعا أخطاؤنا وعثراتنا ولكن وبعيدا عن التبرير، نعلم إن الخطأ هو ميزة الفعل البشري، جلّ من لا يخطئ، الكمال لله وحده ولا كمال لسواه، الآن تماما ومثل كل لحظة مضت عبر السنوات التي تقترب من الست من عمر انتفاضة الحرية والكرامة، الآن تماما وكما كل لحظة، هو وقت بذل كل الجهود من أجل الخروج من المأزق التراجيدي الذي تعيشه البلاد والعباد، نعم لا حلول فردية ولا يمكن أن يكون هناك متسع لحل فردي، أو لحل يطال مجموعة دون أخرى، فئة أو طائفة أو قومية أو حزب أو تيار، يتساوى في ذلك الرئيس والمرؤوس، القوي والضعيف، الفقير والغني، المقاتل والمدني، العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي والعلوي والدرزي، كلنا في الحال سواء، وما يحصل لفئة بالضرورة لا بد أن تطال نتائجه الفئات الأخرى، لا توجد فئة واحدة متضررة من الكارثة، ما يحصل في سوريا أكبر من زلزال وأقرب لمأساة، هذا ما تقوله تجارب الدول التي خاضت أوحال الحرب وهذا ما تقوله التجربة السورية، أجدادنا عاشوا معا، وبنوا هذه البلاد بالصيغة التي أشرقت فيها سوريا على العالم، ولا صيغة غيرها للعودة إلى حيث الحياة ممكنة والارتقاء بالبلاد ممكنٌ أكيد، هذه أول الدروس التي علمتنا إياه الإيام، بعد أن كدنا نفرط بها في لحظة أخذتنا فيه العزة بالإثم كملل ونحل أصغر من هوية وطنية تجمعنا.
من عثراتنا التي وقعنا ونقع فيها كسياسيين وأصحاب رأي ومتصدرين لمهام قيادة دفة المواجهة مع نظام موغل في الدموية والإجرام، أننا قسمنا زاوية النظر إلى الوطن وناسه حسب رغبات ومصالح لا تمت لبلادنا وناسنا بصلة، بتصانيف لا خصوصية سورية فيها. سنة وشيعة وعلويون ودروز وإسماعيليون وأكراد وعرب وسريان وآشوريون وأرمن وإلى ما هنالك من هويات، تصغّر من شساعة الهوية السورية، لتختصرها بهويات لا يمكن السير معها إلى أبعد من حرب أهلية تقضي على ما تبقى من آمال في التغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية اللتين كانتا ديدن انتفاضة أهلنا، نعم لقد أخطأ الكثير منا، ليست المشكلة في الانتماء، ليس الغلط في انتماءاتنا الفردية، فهي بداهة، لكل منا انتماؤه الديني والطائفي والعرقي، وهذه سنة الكون، وأما المشكلة هو أن نتخذ المواقف بناء على الهوية الصغيرة التي هي أضيق وأقل حرية من الهوية الوطنية، تتناقض معها في الكثير من المحطات، حيث الحياة كقطار متحرك، لا يمكن شرب ماء النهر نفسه في المكان نفسه مرتين، كما قال حكيم صيني، نستطيع القول إنه لم يسلم الكثير من هذه الأخطاء القاتلة، وما زال الكثير يصر عليها، إنه الخطأ القاتل وكلما سمحنا باستمراره ابتعد الحلم الذي راود السوري في ربيع عام 2011 سنوات وسنوات، وأخشى أن أقول قرونا، فقد تحول الحلم إلى كابوس قضّ مضاجع الملايين من الأهل بين شهداء وعوائلهم ومهجرين في مخيمات النزوح المنتشرة في كل زاوية على هذا الكوكب، وضحايا مأساة يتفرج عليه العالم كأنه فيلم من نسج خيال المخرجين الكبار.
يتوقف البعض لرمي العصي في العجلة وتحميل الآخر «الغربي، الأمريكي والأوروبي» كل أسباب وتبعات المأساة السورية فيما يذهب فريق من السوريين لتحميل الأشقاء العرب، خاصة دول الخليج العربي، وزر مصابهم الجلل، ويذهب البعض الآخر صوب دول الإقليم، غير العربية، فيما ننظر نحن كفريق من السوريين للمسألة على إنها مسألة سورية بامتياز، بدأت على خلفية استئثار عائلة الأسد بالحكم في سوريا على طريقة عصابات المافيا وحين طالبت الجموع السورية بإخراج البلاد من حالة الاستعصاء بسبب حكم العائلة، شن النظام حربا على السوريين بمؤازرة من إيران وميليشياتها المنتشرة بين ظهرانينا، ما فتح المجال لكل القوى والمصالح الدولية والإقليمية للالتقاء في سوريا وتصفية حساباتها العابرة للحدود وتصدير أزماتها إلى أرضنا، تم اختطاف الحراك السوري من قبل ميليشيات شيعية وسنية لتكون راية الحرب الدينية الطائفية هي الأكثر ظهورا وانطلاقا، من هذه الرؤية نجد أن الحل يبدأ بجلوس ممثلي الشعب السوري ونخبهم، بغض النظر عن اصطفافاتهم وانتماءاتهم وولاءاتهم، أولا إلى طاولات الحوار الوطني السوري، لتهيئة الأجواء للوصول إلى توافق سوري للخروج من حالة الاستعصاء، هذا لا يمنع إشرافا عربيا أولا وأمميا ثانيا على هذه المفاوضات ووجود ضمانات عربية وأممية لما ينبثق من الحوار السوري من توافقات تنهي الأزمة وتضع حدا للمأساة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاعتراف بالحق في الاختلاف يشكل القاعدة الأساسية للانطلاق نحو مثل هذا الحوار، فالاختلاف في الرأي والانتماء والشكل من السمات الطبيعية في الكون، ولا بد منا جميعا، السعي لجعل الاعتراف بهذا الاختلاف بداهةً فرضتها علينا الطبيعة الإنسانية.
إن لقاء السوريين وحصرهم للنقاط المشتركة التي تجمع معظم الأطراف السياسية، يمكن أن يكون مدخلا للبناء عليها، ولعل المتتبع للخطاب السياسي لمختلف القوى والفعاليات السياسية والمجتمعية، يجد أن المشتركات بين مختلف هذه الفعاليات، بدءا من أشد الموالين لمعسكر النظام إلى أشد الموالين للتنظيمات الراديكالية الإسلامية أو القومية العربية والكردية والتركمانية، تتفق على وحدة الجغرافية السورية، وإن كان هناك اختلاف في تفاصيل هذه الوحدة فهي اختلافات طبيعية بحكم اختلاف وجهات النظر، ويمكن الحوار حولها والوصول إلى الصيغة التي يتفق عليها الجميع، حسب مصالح السوريين والواقع الذي صنعته سنوات المقتلة السورية، سواء أكانت هذه الصيغة فيدرالية أم لامركزية إدارية أم دولة مركزية، دونما إخضاع أو سيطرة طرف على طرف آخر، سواء أكانت هذه القوة عسكرية عددية أم إقليمية وأممية تلوح بها بعض الأطراف على الأطراف الأخرى، فمشكلة الحدود السورية وصياغة النموذج الأصلح لهذه الوحدة شأن سوري بحت ولا يمكن الاستعانة بأي قوى غير سورية للاتفاق حول هذه النقطة.
إن مسألة الحريات الفكرية والاقتصادية من المسلمات التي يتفق عليه جل السوريين وإن كانت هناك اختلافات حول تفاصيل إجرائية في مسائل الحريات الدينية والسياسية والإثنية، فهي فرعيات لا يمكن حلها إلا عبر حوار داخلي تتوضح فيه تماما مسائل الحريات والمسؤوليات والحقوق والواجبات والمصالح وتشابكاتها، وهي مسائل طويلة الأمد ويمكن التوصل إلى ابتكار صياغات سورية قابلة للحياة وجاذبة لأن تكون نموذجا لحالات الاستعصاء القريبة من النموذج السوري.
إن مسألة تداول السلطة، التي كانت ديدن الحراك السوري والعربي عموما في دول الربيع، أثبتت وبلا جدال، إن الديكتاتورية والاستئثار بالسلطة وبمقدرات المكان وخيارات ناسها، هي الابنة الشرعية للقتل والتعذيب والتهميش والمآسي والعكس صحيح، ولعل جدلية الارتباط بين القتل والطغيان، يوصلنا إلى ضرورة اللجوء إلى الحوار السلمي البعيد عن مسائل الاحتكار والاستئثار بالرأي ومحاولات فرضه أيا كانت قناعتنا بصوابية قراراتنا وآرائنا، وأيا كانت شهادتنا بالأطراف الأخرى، فمن يقبل بالحوار السلمي والجلوس إلى طاولات المفاوضات مع الأطراف السورية المختلفة معه في الرأي والرؤيا، بالتأكيد وصل إلى قناعة من خلال معايشته لمكابدات المأساة السورية إلى إن التشبث بالرأي وبالسلطة لا يمكن أن يحمل الخير لأحد، لا للحاكم ولا للمحكوم، تجارب السلطة سواء سلطة الأسد أم سلطات الميليشيات الحاكمة في أكثر من بقعة في وطننا العزيز، شاهدة على مكارثية هذه المسألة، وبالتالي سيكون أمر تداول السلطة من البديهيات التي سيتفق عليها السوريون في جلسات الحوار التي نراهن عليها وندعو لها.
مسألة الجيش الوطني السوري هي الأخرى من المسائل التي لا بد من الحوار حولها والتوصل إلى صيغة ترضي جميع الأطراف السورية، فقد تحول الجيش خلال سنوات حكم عائلة الأسد إلى جيش بعقيدة أسدية، ولم تكن الشعارات من قبيل «جنود الأسد» تُكتَب جزافا على جدران وواجهات مراكز الجيش السوري، بل كانت عقيدة يتبعها الجيش في تشكيلاته وتعييناته ومراكز القوى فيه، حيث ضابط الأمن في كل القطع العسكرية هو الآمر الناهي، لذلك وجد الجيش نفسه على حين غرة من مهامه الوطنية، التي من المفترض عليه حمايتها، في مواجهة مباشرة مع المواطن المكلف بحمايته، انتقل الجيش من مهام حماية الوطن والمواطن إلى كارثة ترك الوطن للميليشيات والمشاركة في قتل المواطن جنبا إلى جنب مع ميليشيات دينية في المقلبين، مقلب جيش النظام ومقلب الجيش الحر الذي تأسس كبديل مفترض لانهيار قيمي وأخلاقي في جبهة النظام، لذا ستأتي خطوة إنقاذ الجيش السوري من مستنقع القتل وإعادة تأسيسه على أساس وطني، أحد أهم مفاصل الحوار الوطني السوري ويمكن الاستعانة في ذلك بتجارب دول استطاعت تجاوز محنة الحرب الأهلية والانتقال إلى المؤسسات الدستورية كجنوب أفريقيا مثلا.
في مسـألة العلاقة مع العالم ودول الجوار، لا يمكن بين لحظة وضحاها قطع شرايين التواصل وشبكات العلاقات بين الأطراف السورية المختلفة، والدول الداعمة والتي تقاطعت مصالحها مع هذا الطرف أو ذاك في الحرب السورية، فالمسألة أعقد من أن نُفرَض بقرار لحظي، لكن الحوار والاتفاق حول المسائل الرئيسية، وحدة البلاد والحريات السياسية والاقتصادية وتداول السلطة والمشاركة فيها وبناء جيش وطني، كلها مقدمات لفك ارتباط النظام وميليشياته بالطرف الإيراني الذي يستخدمهم كإحدى الأوراق في لعبة المصالح وفك ارتباط الأطراف الأخرى من أحزاب وميليشيات وجبهات بدول إقليمية وقوى عالمية تبحث عن مصالحها عبر تسجيل النقاط على حساب الدم السوري.
رئيس الإئتلاف الوطني السوري السابق
القدس العربي