الرواية العربية نص مضاد لأدائيات الديني والسياسي/ محمد العباس
لا يمكن تصور مجتمع دون نصوص، سواء كانت شفهية أو مكتوبة، ولأنها منذورة للتبليغ الفكري أو الجمالي أو الوعظي يصعب أيضاً تخيل مجتمع خالٍ من النصوص الدينية أو الأدبية أو الفلسفية أو السياسية، فهي بمثابة الركائز التي يقوم عليها أي بناء مجتمعي، على اعتبار أن النص سلطة، أو بالمعنى الذي يقول به ميشيل فوكو بأن المعرفة في صميم السلطة.
ومن هذا المنطلق يمكن التعامل مع النصوص الروائية، التي يُفترض أن تكسر احتكار النصوص الدينية للحقيقة، وتخفف من نخبوية النصوص الفكرية، بالنظر إلى أنها تجمع ما بين عدد من التبليغات الجمالية والمعرفية والأخلاقية والوجدانية والتاريخية، أو هذا ما يُفترض أن تكون عليه الرواية العربية في مدّها الجارف.
ولأن الخطاب الروائي يشكل منحى من مناحي التوجه اللساني الحديث، يُفترض كذلك أن تمثل الرواية العربية مرحلة متقدمة من تاريخ المؤسسات الاجتماعية العربية، على اعتبار أنها مصب الحداثة المجتمعية، ولذلك تنتعش أو تتراجع بمقتضى تحضّر المجتمع وحداثته، وتكاد تختفي في المجتمعات الباردة، التي تعجز عن سرد نفسها من منظور كلود ليفي شتراوس، إذ بقدر ما يمكن أن يتشكل النص الروائي العربي كوثيقة تاريخية راسبة في الذاكرة، يمكن أن يكون التاريخ الوجداني للمجتمع العربي، بالنظر إلى ما يُفترض أن يختزنه من طاقة روحانية وذخيرة عاطفية وقومية.
وعند التعامل مع الرواية كظاهرة نصّية، تتأكد حاجة الإنسان العربي إليها، بحيث لا تبدو وكأنها مجرد امتداد عضوي للجامع، أو كمونولوجات وجدانية لذوات مأزومة، أو حتى كنظام لغوي قديم خارج فضاء الحركة الاجتماعية التاريخية أشبه ما يكون بالكلام التواصلي العادي، أو الوصف المباشر لحدث أو قضية، لأن النص خطاب ينغرس في الوعي الجمعي عبر الكتابة، ويتقوّم بالمنزع ذاته، بمعنى أن تحضر النصوص الروائية وتتشكل كحاجة اجتماعية، لا كحاجة لفئة محدودة، ولا لأسباب خارج مدار مفهوم النص، أي كموضوعات جدلية منسلخة من الأثر الجمالي.
الفضاء العمومي الذي تم احتلاله من خلال التحالف الديني السياسي تم تحديه بالنصوص الروائية، وبالفعل اخترقت الرواية العربية الحصار المفروض على وعي الإنسان العربي، وعليه، تحركت في كل المدارات، وصار لها رموزها ومفاعيلها، لدرجة أنها تحولت إلى سلطة ذوقية ومعرفية وأخلاقية، خصوصاً أنها اتكأت في منطلقاتها الكبرى على علمنة الحياة، التي واجهت تحديات صعبة على الصعيد الفكري والاجتماعي، منذ ما عُرف بعصر النهضة، كما اقتربت بشكل أكبر من الدنيوي، وهذا هو بعض ما يتبين من علامات قوتها عند الاحتكام إلى اللسانيات النصية المتكفّلة بدراسة النصوص الروائية وكيفية اشتغالها، فهي إنجازات لغوية تتجاوز مهمتها صف العبارات لتتمثل داخل خطاب، وبالتالي فهي بقدر ما تؤكد على التدوين تتحرر من سكونيتها لتتحول إلى سلطة توجيه وتشكيل.
الرواية العربية ظاهرة نصية حديثة تستدعي النظر إليها من جميع أبعادها الموضوعية والفنية، أي إخراجها من إطارها الشكلاني بحثاً عن مفاعيلها الفكروية مقابل النصوص المضادة، فهي لم تُستولد لتتشابه مع أدائيات النص الديني أو السياسي أو الاجتماعي، ولا لتُستلحق بأي نص من تلك النصوص، وهذا هو ما يستدعي تفعيل منطق اللسانيات النصية التي تقارب الرواية، بما هي نص، أي كبنية متماسكة، محكومة بنسق داخلي، يؤدي دور الربط بين العناصر، وتنظيم العلاقات النحوية والدلالية، وهذا هو بالتحديد ما يؤكد وجود بنية مغايرة للنصوص الأخرى جديرة بالدراسة.
النص هو المظهر الشكلي المجرد للخطاب، من منظور ميشيل فوكو، وهذا التصور ينطبق تمام الانطباق على الرواية العربية ضمن هذه الجدلية، فهي تختزن خطابها الخاص المنذور لمفارقة الخطابات الموازية أو المضادة، وتلك هي المعيارية التي يمكن الاحتكام إليها عند مقاربة أي رواية عربية، أي ما تؤديه من خلال بنيتها اللغوية، ووحداتها الدلالية، ومنظومة معانيها، لتأكيد مهمة تبليغها الجمالي الخاص، بما هي كيان عضوي وليس مجرد متوالية من الجُمل تُراعي الأنساق والترابط الشكلي، وهذا ما يقول به علم النص الذي يشترط القصدية إلى جانب الوحدة اللغوية والاتساق وغيرها من الاشتراطات اللازمة لبلورة فكرة النص.
الرواية تنتمي للنصوص ذات الطابع الوظيفي التأثيري، بمعنى أنها لا تندرج في خانة النصوص ذات المنزع الإنشائي الغارق في التبشير الديني أو الوعظ الاجتماعي، وهذا هو التحدي الذي يواجه الرواية العربية، فهي لا تجابه المرويات الدينية وحسب، بل المرويات الرسمية، التي تسرد التاريخ بنبرة مؤسساتية محكومة باستراتيجيات تخدم مفاعيل السلطة باختلاف أشكالها السياسية والدينية والاجتماعية، بما في ذلك الروايات المكتوبة بمنظور متوائم مع متطلبات الجوائز، على اعتبار أنها – أي الجوائز – مجرد امتداد ناعم ومراوغ للسلطة، ولذلك فهي لا تحتمل اللعب المعجمي أو الشاعري بالموضوعات الكبرى، التي تعطل لحظة الاستحقاق.
إذن، هي نص سردي حجاجي النبرة، ليس بالمعنى الفكروي السجالي، ولكن بالمعنى الفني الذي يقوّض الحسّ الإعلامي، حتى إن نهض على الفردانية، حيث يُفترض أن تحيل الرواية العربية إلى واقع وأحداث وتحولات وزمان ومكان، ضمن مدارج فنية مغايرة تماماً لسيناريوهات التصور الديني للواقع، ومعاندة لمرادات المكر السياسي، بحيث تتجوهر بشكل جلي وجاذب قوانين ومواصفات الرواية كنوع أدبي، بمعنى ألاّ تتشبه بانبساطية المقالة الصحافية، أو وعظية خطبة صلاة الجمعة، أو جفاف الدرس الأكاديمي.
لا يكفي أن تقتحم الرواية المدارات كل المدارات بهذه الكثافة، بل المهم هو إنتاج نصوص روائية متفاعلة مع سياقها الاجتماعي، بمعنى أن تكون الرواية جزءاً من حركة تاريخية اجتماعية، وهذا لا يعني أن تتحول الرواية العربية إلى خطاب محمول على غرغـــــرة خطابية نضالية، بل استيلاد نص يجد فيه الإنسان العربي ما لا يجده في خطابات الجامع ولا في دعاوى السياسي، فبقدر ما يحضر النص الروائي في المجتمع تتعدّد الرؤى وتتغاير المفاهيم، وهو حضور يعكس التنوع الأدائي للإنسان العربي، ويبشر بكسر أحادية النصوص الغارقة في الوعظية الاجتماعية.
٭ كاتب سعودي
القدس العربي