الرواية سيرة الحياة من الجهة الأخرى/ خليل النعيمي
الرواية، كما أتصوّرها، سيرة الحياة من الجهة الأخرى، و»الجهة الأخرى» مجهولة، وإن كانت معلومة. إنها «مخزن الوجود السري» الذي يمكن أن يُعْثَر فيه على ما نتمنّاه ونعرفه، وعلى ما لا نتمَنّاه، ولا نعرفه. ومسألة العُثور وسيرته، هي التي ستشكِّل أساس النص الروائي الفريد، وهو ما يدفعنا إلى القول: «ليس للنوع حدود»، عندما يتعلّق الأمر بـ»الرواية وحدود النوع».
ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أننا عندما نكتب نصّاً روائيّاً، نتَخَفَّف من كل شيء، من كل ما يمكن له أن يعيق حركتنا الداخلية، ونحن ننبش لمامة الحياة. ففي تلك اللُمامة التي هي حصيلتنا الوحيدة، قد نعثر على جوهر الوجود، وقد لا نجد فيها سوى الخواء. لكن النص الروائي الطافح بالرغبة، والمنبثق من العدم، أو مِمّا يشبهه، قادر في الحالتين، على الوصول إلى نقطة لم نكن، غالباً، نَنْوي الوصول إليها، أو حتى لم نكن نتصوّرها. فالكتابة الروائية فرصة للتحرر المطلق، التحرر من الخوف والحياء والمجاملة، من حسن المعاملة والتزلّف والكذب والانصياع، وبالخصوص من الاستيعاب والانتهاز والسَّلْبَطة، ومقصده النقد والإبداع.
النقد والإبداع لا يفترقان في النص الروائي أيّاً كان شكله وحدوده، فليس ثمة إبداع من دون نقد هَدّام، وإن أحببتم: هَدّام- بَنّاء. الروائي الأصيل لا ينسى ذلك ويمارسه إلى أقصى الحدود اللاممكنة، فالحدود الممكنة مشتركة مع الجميع. النوع الروائي، إذن، هو كل شيء، أو لا شيء، واستِخْلاق حدود وهمية له مهما كانت مبرراتها، والمبرِّرات دائماً، كثيرة، ستؤدّي إلى اضطراب حيويّة السرد وتَشْويش البصيرة وستَلْجُم طاقة المبدع، الذي يغدو في هذه الحال، «مُكَتَّفاً»، ويصير ما يكتبه مجرد توارد خواطر ميّتة. لا بد من الاختلاف في الإبداع، ومن الاختلاق، وابتكار مسالِكَ جديدة كل مرة نكتب فيها، لكن ابتكار نوع روائي جديد ليس وليد الصدفة والمغامرة والجرأة، فحسب، وإنما هو نتيجة عوامل كثيرة أخرى، مبنية على قاعدة متماسكة لُغَويّاً ومعرفيّاً وسلوكياً. فغِنى الحياة لا غنى عنه عندما نريد أن نَسْتَدِرّ مخيّلتنا، وهو ما يجعل «الوضع الروائي» مناقضاً، أحياناً، لوضع العالَم الذي يَغْرفُ منه.
لـ»الوضع الروائيّ» خصوصيّة متفرِّدة، فهو مهما بدا مُبيناً، فإنه يقوم على الإبهام، هو لا يقول الحقيقة، أبداً، وإنما ينْزَع نحوها، من دون أن يبلغها، لأنه إنْ بَلَغَها مات. إنه يركض وراءها باستمرار، أو هو يوهِمنا بذلك، ولأنه لا وجود لها، فهو يختلَق ما لا يحصى من الاحتمالات المبْدَعَة، لكي يقاربها. يُقارب بما هو موجود ما لا يوجَد. وفي هذا الجهد الذي قد يبدو عبثياً، وغير مبرر، تكمن شَساعَة النوع الروائي ولا محدوديته. وإبداع نوع روائي جديد، أيّاً كان شأنه، يحمل في ثناياه تصوّر المبدع الشخصيّ لعالم يعرفه، أو يخلقه من عدم، أو ينقده، أو حتى يكرهه، وينفر منه ولا يريده، لكنه، يا للمفارقة، يريد أن يرويه. ومهما غَلَّف الروائي تصوُّره بحِيَل وإيهامات شتى، وبدا هذا التصوّر لا مألوفاً، أو رمزياً، أو خيالياً، فإنه، هو، جوهره بالذات. فالإبداع ذاتيّ، مهما بدا موضوعيّاً. إنه الكائن وقد تحوَّل إلى لُغَة. والمبدع الخلاّق هو الذي يحب أن يروي ما لا يحب، فــ»الحقل الروائي» هو تربية الإنسانية لذاتها وتدريب نفسها على قراءة ما يحيط بها وسَرد ما قرأته، وهو ما يشرح قدرتها على ابتكار الحكايات، فلا وجود للتاريخ بدون حكاية.
ليس على الفضاء الروائي إذن أن يخضع لحدود وهميّة، أو مفترضة، أيّاً كانت مسوِّغاتها، وبالخصوص تلك التي تزعم أنها تحمي القارئ من تجاوز المبدع للحدود. وهي، في الحقيقة، تريد أن تغمر القارئ (الذي استباحَتْ مساحته النفسية، واحتلَّتْ عقْلَه)، وتَبْشُمه، بما يألفه ويعرفه، لكي تقيه شَرّ ما لا يعرفه، وهي بذلك تقتل مخيّلته الإنسانية وتُبَلِّد أحاسيسه. نحن نعتقد أن كل الاعتبارات الاجتماعية العميقة، كالطمأنينة والأخلاق والأعراف والإخلاص والحس السليم، وكل ما يمكن لنا أن نتصوّره، بما ذلك التحرّر نفسه، لا يُبَرِّر تكريس حدود قاسية للنوع الروائيّ، إنْ لَمْ يكن العكس هو الصحيح.
وفي النهاية، إذا لم يكن للنوع الروائي حدود، ألَهُ شُروط؟ بلى! شرطه الوحيد: لغته. لا معناها، فحسب، وأنما مَبْناها قبل كل شيء، فاللغة لُغات وعددها بعدد الكائنات التي تستعملها، أو تمارسها. ولا نقصد، بالطبع، المفهوم المعروف: «الكاتب هو أسلوبه»، وإنما نقصد امراً آخر مختلفاً تماماً: «الكاتب هو تصوُّره الشخصيّ للعالَم». وتصوُّر الكائن للعالَم ليس «إنشاء»، إنه موقف وسلوك معَبَّر عنه لغوياً، والآن، أيمكننا أن نتساءل، من جديد: «هل ثمَّة نوع خاص بالرويّ»؟ بلى! يمكن أن… لكن الجواب ليس سهلاً. فالاختلافات المتعددة البُنى والوجوه بين الكاتب والقارئ، بين الوضع وتصوّره، بين اللغة والكلام، بين ما يُكْتَب وما يُفْهَم من المكتوب، وبين اللامكتوب وكيفية التعبير عنه، يمكن لها، لهذه الاختلافات العظمى غير القابلة للمَحْو، أن تجعل السرْد ينفتح على ما لا يحْصى من الأنواع، والعتبات والأساليب.
واليوم، رغم المظاهر الشكلانية المطمئنة ظاهرياً، يبدو الطريق مسدوداً. أما النوع الروائي في العالم العربي، فهو لا يبدو قادراً على الذهاب إلى عتبات أبعد وأعمق، ممّا وصل إليها. وكما أن «فصل الدين عن الدولة» في السياسة، مسألة أساسية لتحرير الفعل السياسي من القيود المثبِّطة، فإن «فصل الثقافة عن السلطة»، هو الآخر، إنجاز أساسيّ ومنتَظَر لتحرير الفعل الثقافي من مُعَوِّقاته، وبالخصوص في مجال الرواية، تحريره من الإحباط والتمتمة والتقليد والابتذال. فصل الإبداع عن السلطة بشتى أشكالها، من السلطة السياسية إلى سلطة الجوائز والمكافآت، هو الخطوة الأساسية المقبلة التي ننتظرها بشغف.
٭ روائي سوري
القدس العربي