السلفية الجهادية والماركسية اللينينية وعالم اليوم/ ياسين الحاج صالح
في مواجهة صعود السلفية الجهادية، وبخاصة «داعش» في سوريا والعراق، يميل أكثرنا إلى اعتبارها ظاهرة نسيج وحدها، لا شبيه لها في عالم اليوم. ويكمل هذا الميل إلى نفي الشبه الحديث للظاهرة ميل إلى نسبتها إلى عالم قديم، ميت، أو كان يجب أن يموت لكنه بسبب عاهة أو روح خبيثة ما لم يفعل.
والحال أن «داعش» والسلفية الجهادية ظواهر حية (وإن تكن مميتة)، مرتبطة بحياتنا اليوم، وهي تشبه زمنها، زمننا، أكثر بكثير من أي شيء سبق، وإن ظنت هي ذاتها بقدر ما يظن خصوم لها أنها ابنة السلف الوفية، المعجبة بأبيها، السلف ذاته. في جوانب مختلفة من سلوكها، تشبه «داعش» والسلفية الجهادية حركات وأحزابا ودولا من هذا الزمان، لكنها على شبه كبير بحركة إيديولوجية سياسية كبيرة عرفها القرن العشرين، الماركسية اللينينية. قد يبدو هذا صادما، وربما مهينا، بخاصة لبعض من هم من جيلي (وأكبر) ممن كانوا ماركسيين لينينيين (وقد كنت منهم بصورة ما) ولديهم حنين إلى حماسات شبابهم، أو هم لا يزالون يشغلون مواقع في تنظيمات ماركسية لينينة. كيف تشبه حركة عالمية تطلعت إلى تحرر الطبقة العاملة والكادحين بحركة طائفية تسعى إلى سيادة جماعة وعقيدة على غيرها؟ وهو صادم بالقدر نفسه، ومهين أيضا، لسلفيين جهاديين. بالمقابل، كيف يقارن دين الله بترهات الكفرة؟ أي وجه شبه بين حركة مباركة تحتكم إلى شرع الله الثابت بعقائد بشرية ضالة ومتغيرة؟
لكن هذه أسئلة يطرحها من ينطق من موقع هذه أو تلك من الحركات، من يضع نفسه خارجهما معا ربما يرى أشياء أخرى. وليس الغرض على كل حال التشبيه بين الحركتين بحد ذاته، والنيل من واحدتهما استنادا إلى ما تنال الأخرى من ازدراء؛ الغرض بالأحرى محاولة استخلاص معنى ما من الشبه، يتصل بالعالم المعاصر، بالسياسة والفكر فيه وفي مجتمعاتنا.
تخطر بالبال أولا أوجه تماثل بنيوية. الماركسية اللينينية تدعو إلى دكتاتورية البروليتاريا بوصف هذه، أي البروليتاريا، هي ذات التاريخ الفاعلة. السلفية الجهادية تدعو إلى الحاكمية الألهية، والله هو الفاعل الوحيد حقيقة. وفي الحالين تثور مشكلة يكشفها التطبيق: هل تحكم البروليتاريا مباشرة؟ أم ربما يحكم باسمها ولمصلحتها الثوريون المحترفون من العارفين بالنظرية الثورية، أي الحزب، الذي ربما تحكم باسمه اللجنة المركزية، بل المكتب السياسي، بل أمينها العام، وهو ستالين من نوع ما وإن لم يكن بوحشية الجيورجي الفظ حتما. وبما أن الله لا يحكم مباشرة، فإن من يحكمون باسمه هم بشر مثلنا، يحبون مثل كل البشر السلطة والمال والمجد، وقد يشكلون المعتقد الديني في صورة تسوغ سلطانهم المطلق وسلطان أقلية حولهم، تستعبد من لن يتأخروا هم بالذات في تسميتهم الرعاع والدهماء والعوام.
وتقوم الحركتان بتطبيق معرفة صحيحة، تسمى «العلم»، تسبق تطبيقها أو تنزيلها على أرض الواقع. وامتلاك العلم يؤسس لتمايز طليعة قائدة عن العموم، وفي المحصلة لحكم نخبوي معاد للحكم الشعبي (الديمقراطية).
وتركز كل من الحركتين على ما تسميه «المنهج»، بوجهيه النظري والعملي.
المنهج العملي عند الماركسية اللينينية هو الثورة يقودها الحزب الشيوعي لمصلحة البروليتاريا ومن أجل الاشتراكية فالشيوعية، وعند السلفيين الجهاديين هو الجهاد تقوم به طلائع المجاهدين باسم «الأمة»، قبل أن يصير جهاد الأمة، والهدف هو الخلافة وتحقيق «أستاذية» المسلمين على البشرية، حسب تعبير عبدالله بن محمد. والجهاد عنيف تعريفا، بل هو «شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان»، على ما يقول أبو بكر ناجي في «إدارة التوحش»، والثورة عنيفة تعريفا عند الماركسيين اللينينيين، وحمراء تعريفا، ليست سلمية ولا برلمانية.
وهناك في الحالين نزعة بطولية، متأصلة في يقين الواحد منا بأنه على حق وأن تضحياته مهما بلغت ستكافأ إما بنيل الجنة في السماء أو ببناء الجنة على الأرض. هناك استعداد كبير، استثنائي فعلا للبطولة، بما في ذلك للاستشهاد، عند منسوبي الحركتين، عند الإسلاميين أكثر بكثير، ربما لكون حركتهم أصلا حركة حربية، ولأن الدين الأخروي، يروض الموت، يضفي عليه النسبية، فيما هو حد مطلق عند كل تفكير غير مَعادٍ أو أخروي. يستعاض عن المَعاد هنا بمعادل أرضي له، الانعتاق النهائي في مجتمع شيوعي بلا تناقضات.
وتشترك الحركتان التاريخيتان في رفع شأن المنتسبين إليهما في عيون أنفسهم وإنقاذهم من شعور بهوان الشأن مما هو ملازم لكل فتى، وبخاصة فتيان الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى التي ينحدر منها معظم كادر الحركتين. ما إن يصير الواحد منا ماركسيا لينينا أو سلفيا جهاديا حتى يبدأ بالنظر باحتقار إلى من كان يشعر بالنقص حيالهم قبل حين. التعالي واليقين وغرور العقيدة خاصية مشتركة تجمع الحركتين.
وضمن كل من الحركتين مجموعات وتيارات تخوض صراعات حادة، وقد تكون عنيفة، حول فوارق تبدو للملاحظ الخارجي صغيرة ولا معنى لها، فيما تبدو للداخليين كبيرة جدا وتسوغ عداوات أكبر حتى من العداوة المفترضة مع الأعداء المشتركين.
وتعرض كلّ من الحركتين مناعة بالغة القوة حيال الحجج الخارجية، المنطقية منها والسياسية والأخلاقية. تحوز المجموعات المنسوبة إلى كل من الحركتين على جهاز مناعي قوي، يحمي تماسك العقيدة والتنظيم، ويتكون أساسا من آليات إقصاء تصف الحجج المضاة بأنها برجوازية أو تحريفية أو تروتسكية أو برجوازية صغيرة… أو من جهة أخرى كافرة أو علمانية أو ملحدة… وهي في كل حال افتراءات اعتاد على مثلها المناضلون والمجاهدون.
وتشترك الحركتان أيضا في موقف متناقض من الثقافة، فهما من جهة حركتان مهمينتان، تعممان ثقافة على المنسوبين إليهما وما حولهم، ثقافتهما الخاصة بدقائقها الوفيرة، ومن ناحية ثانية تقصران الثقافة على ما تعممان، وتعاديان بحدة أفكارا وقيما وتيارات تعتبر كافرة أو منحرفة أو برجوازية أو تحريفية. وعبر «الثقافة» تغير كل من الحركتين المنسوبين إليها، تعطيهم ما يقارب «ولادة جديدة». وفيما وراء تعارض العقيدتين، فإن علاقة معتقديهما بهما متماثلة بقدر كبير.
وكلتا الحركتين «تفاصلية»، تصنع مجتمعها الخاص، وله مسامراته ورموزه وفنونه الخاصة (أغان جهادية، أغان ثورية)، ولديهما معا تعريف واضح جدا للعدو: الرأسمالية في أشكالها المركزية والتابعة في حالة، و»الطواغيت» ومن وراءهم من «الصليبيين واليهود» في حالة. وبينما لم يكن لدى الماركسيين اللينينيين عقيدة ولاء وبراء، خاصة بهم، فقد كان ولاء الماركسي اللينيني محصورا بجماعته وبراءه موجها لما عداها، بقدر يتناسب مع تشدد الجماعة العقدي. والسلفيون الجهاديون هم الذين بين المسلمين يمنحون عقيدة الولاء والبراء وزنا كبيرا في سلوكهم إلى درجة إيجاب الكراهية وإلحاق الضرر بمن ليس منهم، وبالطبع حصر فعل الخير بجماعتهم. الإنسان في الحالين غير موجود.
أوجه التقارب هذه مهمة قليلا أو كثيرا. لكنها تقول شيئا مهما عن بناء ذاتية تاريخية كان لها تأثير مهم على مسار العالم فيما يخص الشيوعية، ونقدر أن تأثيرها مهم وقد يصير أكثر أهمية بخصوص السلفية الجهادية. الحركتان تحتجان على عالم معاصر، تريانه بحق غير عادل، وهما أنتجتا حماسات كبيرة وشجاعات نادرة، وهما معا حركتان عالميتان، وإن تكن الماركسية اللينينية تطلعت إلى عالم مستقبلي تعمه المساواة والرخاء، فيما السلفية الجهادية تتطلع إلى عالم يسوده المسلمون على حساب غيرهم وفقا لما يفترض أنه نموذج سابق، نموذج السلف.
انتهت الماركسية اللينينية إلى الانحدار وتدهورت قدرتها على إلهام مقاومات تحررية، وليس هناك ما هو تحرري ومتحرر في السلفية الجهادية التي تعبر عن أزمة العالم، وعن تكثفها في المجـــــال الإسلامي (ربما بفعل التقاء الوطأة الأشد لسيطرة متنفذي العالم الحديث بفعل وجود البترول وإسرائيل، مع مشكلات الإسلام المعاصر عبر المعالجة وغير المحلولة)، وليست بحال مما يساعد على معالجتها.
لكن العالم في أزمة فعلا، والحاجة إلى التغير ملحة وتزداد إلحاحا. ولا بد للتغير من عاملِين من أجل التغيير، يستوعبون إخفاقات حركات احتجاج سابقة من أجل تفادي أسوأ الأخطاء. إخفاق الماركسية اللينينية وعدم صلاحية السلفية الجهادية هي أخبار مؤسفة عن عالم اليوم وليست بحال بشارات بصلاح حاله.
القدس العربي