الشاعر كائن مقيم في السكرة المفرداتية/ محمد العباس
يُنسب إلى أفلاطون فكرة إقامة ذلك الجدار السميك ما بين الشعر والعقل الفلسفي، والسبب كما شدّد عليه في «محاورة الجمهورية» يعود إلى التعارض المنطقي ما بين الشعر والأخلاق، حيث كان الوجود يخضع لتأويلات أخلاقية كالخير والعدل والمساواة، والحقيقة، وهي مفاهيم إلهية يحتكم إليها إفلاطون في وعي الوجود، إذ لم يكن يقر بالفردانية التي تؤسس لخطاب الشاعر، حيث أخضع حتى الأساطير لإمرة العقل ليلغي الحساسية الشعرية باعتبارها فورانات وكلمات لاعقلانية، بمعنى أن الشعر، برأيه، يبدأ وينتهي في مدار النشوة، كما ربط ذلك بمفهوم الأمل المتحقق في حيز العقل والمنتفي في هذيانات الشعر، وهذا هو المفصل الذي جادلت فيه ماريا ثامبرانو تصوراته حول «الفلسفة والشعر» في كتاب حمل العنوان نفسه.
الشعر – في تصوره – هو صوت الأنا الكئيبة المثقلة بالتشاؤم الغارقة في الحب المستحيل، بينما الفلسفة هي صوت العقل، بمعنى أن الفلسفة عقل والشعر مجرد هوى، حيث يتكئ الشاعر على الشهوانية ويغترف منها، بينما يشكل التفكير مرجعية الفيلسوف، وهنا يكمن التضاد ما بين ذات فلسفية جادة معنية باكتشاف الوجود، وذات لهوية متنازلة عن أي جهد في هذا الصدد، وهذا يعني أن الفيلسوف هو سيد الكلمة التي يمتلكها ويصوغ بها أفكاره، كما يتخفف بها من دهشته ليتعرف على نفسه، أما الشاعر فهو عبد الكلمة، وهو لا يعي ما يقوله، حسب التصور الأفلاطوني.
إن إدانة أفلاطون للشاعر تكمن في تهويماته وعدم وضوحه، فالصراحة أو الحقيقة ليست قيمة لدى الشاعر، وعلى هذا الأساس تولّد حالة التخاصم الأخلاقي ما بين الشاعر والفيلسوف، أي على تبئير فكرة وجود الإنسان في سعيه لاكتشاف نفسه، بما هي فضيلة فلسفية، لدرجة أنه سجل ملاحظاته على هوميروس لأنه لم يمتلك من العلوم ما يوازي تغنيه الشعري بالآخرين، ولذلك رأى أن الشاعر يمجد التشتت واللاتماسك والتطواف خارج اشتراطات العقل ومستوجبات القوانين، فالكلمة الهاذية لا تجد مكانها داخل العقل بل خارجه، خارج اليقظة، خارج الزمان، في السكرة المفرداتية اللامتناهية، وبعيدة جدا عن حسابات الفيلسوف الدقيقة.
أفلاطون إذن ضد الانحراف بالمعنى، باللغة، بالمجاز لأن ذلك كله يقع خارج العقل، لأن ذلك الانزياح المضلل – برأيه كفيلسوف – لا يؤدي إلى اكتشاف الحقيقة، بل إلى إيجاد حقيقة مصطنعة داخل الكلمات، على اعتبار أن الحقيقة قرينة الروح، وهي قريبة من الطبيعي والأبدي والإلهي، أما الشعر فهو أداة لتخليد الكذب والتردي، لأن الروح لا تتطهر إلا بالبعد عن الأهواء، وعن الجسد تحديدا، الذي يشكل موئل الخطاب الشعري، بمعنى أن الفلسفة تلتقي مع الروح، بفعل المعرفة المنزهة، مقارنة بالشعر الملتصق بكل ما هو حسّي، وهذا هو بالتحديد ما يشكل الخطر الكبير على الزهد الفلسفي، أي الانطلاق من الجسد والافتتان به.
بهذه النظرة التزهيدية يذهب أفلاطون إلى أن الشعر يحيي الجسد، مقابل إحياء الروح الذي تؤدي وظيفته الفلسفة، وبالتالي فإن الزهد الذي ينادي به هو الطريق إلى استرداد الطبيعة الإنسانية، وليس الأهواء المختزنة في الشعر، وكأن كل تصوره عن الشعر له تلك المنطلقات الدينية، وإن جاءت مغلفة برداء الحكمة والفلسفة، فنبرة التصوف التي يتكلم بها لها ذلك القاع القدسي، ولها أصولها المنذورة للنظام العقلي، وهو أمر يتناقض مع الشعر الذي يزعزع أركان الانتظام، بالنظر إلى أن العقل لا يمكنه النزول إلى مهابط الجسد، على عكس الشعر الذي يمجد الحب، وبالتالي فهو قرين الشهوات والسكرات والاستيهامات، ومهما حاول الشاعر روحنة الجسد يظل هائما في مدارات لاعقلانية،
لهذا السبب يرفض أفلاطون الإقرار بعقلانية الشاعر، أو بقدرته على البحث في المعاني، فهو في أحسن الأحوال كائن يعيش في جمالية المتناقضات، خطاء يتوسل الرحمة، أو مشرد في الجمال، أو أعمى في النور، وكأن سُلمه الجمالي لن يوصله إلى أي شيء، على اعتبار أنه يتحرك من وراء حجاب يمنع عنه التماس مع الوجود الحقيقي وما يضج به من الحقائق والخير والعدل الإلهي، فهو يلهث خلف لمعان الأشياء وصور الماهيات ولا يجس الوجود الحقيقي، حيث يبقى مطروبا، مذهولا، تائها في دوخة الحب، على عكس الفيلسوف الذي يسيطر على قواه ويحتكم إلى المعرفة.
كل ذلك قال به أفلاطون قبل نهاية عصر الآلهات، ومن منطلق ترذيل الشاعر الخطاء، إلى أن ظهر في ما بعد عصر وعي الإنسان بخطيئته، عصر اليومي والوضعي، العصر الذي كف فيه الشعراء عن الذهاب إلى وادي عبقر، عصر الفردانية وموت الإلهام، عصر الشك، عصر القلق بمعناه الإنساني، عصر انقلاب مفاهيم وأخلاقيات الخير والشر، حيث ابتكر كل شاعر فرد فلسفته الخاصة، وطبع بصمته الشخصية على الوجود، من خلال حسم موقفه البشري وارتضائه لنفسه أن يكون إنسانا، لا نصف إله، إذ تتأتى كآبته من الوعي والمعرفة، ومن توقه للحرية ومواجهة العنف، وليس من التفكير التجريدي في الوجود.
وإذا كانت الفلسفة تسعى وتحقق التقاء الإنسان بذاته، فإن الشعر هو انفتاح الذات على نفسها والخروج منها في الآن نفسه، الذات المتعلقة بالوجود من طرف مغاير للطرف الذي يتدلى منه الفيلسوف، وهو الأمر الذي يمكّن الشاعر من إلقاء الكلمة في طريق العقل وصهرهما معا، على عكس ما يقول به أفلاطون من واقع تأملاته لشعر لحظته، حيث يمكن للشاعر استدعاء الأشياء من خلال تغييبها، وهذه هي الماهية الشعرية المتمثلة في قدرة الشاعر على دمج إحساسه بالزمن مع أحلامه وحميمياته إلى جانب خزينه من التجارب والمعرفة الحسّية، أي الحضور من خلال الكلمة المروحنة الممتلئة بالمتناقضات، لا تلك الفلسفية التي تزعم ازدحامها بالحقيقة، وهي حتمية تأكدت بارتباك خط الفلسفة الذي كان يُنظر إليه باعتباره الدرب الأكثر أمنا وصلابة ومنهجية وأخلاقية، مقارنة بالشعر الذي يشكل قفزة غير محسوبة في الهواء.
٭ كاتب سعودي
القدس العربي