الشخصية ومحلها في الرواية/ محمد العباس
تحتل الشخصية مكانة مهمة في بنية الشكل الروائي، فهي من الجانب الموضوعي أداة ووسيلة الروائي للتعبير عن رؤيته، وهي من الوجهة الفنية بمثابة الطاقة الدافعة التي تتحلق حولها كل عناصر السرد، على اعتبار أنها تشكل المختبر للقيم الإنسانية التي يتم نقلها من الحياة، ومجادلتها أدبياً داخل النص، لدرجة أن بعض المهتمين بالشأن الروائي يميلون إلى القول بأن الرواية شخصية، بمعنى اعتبارها القيمة المهيمنة في الرواية، التي تتكفل بتدبير الأحداث، وتنظيم الأفعال، وإعطاء القصة بعدها الحكائي، بل هي المسؤولة عن نمو الخطاب داخل الراوية باختزاناته وتقاطعاته الزمانية والمكانية.ا تختلف عن الشخص، إذ لا وجود لها خارج كلمات وأفكار ودلالات الرواية، وهي تنتمي إلى الحكاية وليس إلى الخطاب الذي تمثل أثراً من آثاره، ومنذ الجُملة الأولى في الرواية يُفترض أن تلوح ملامح الشخصية ويتضح وجود الصراع ومساراته، والرواية الناجحة هي التي تعتمد في بعدها البطولي على شخصية تختزن في عقلها ووجدانها بذور الصراع، وتتحرك داخل السرد بموجبه، أي أن تتميز بوجودها وعواطفها وأفكارها، ويكون حضورها معادلاً لبؤرة التوتر الدرامي للنص الروائي.
أما الشخصية الروائية بوجه عام فهي ذات طابع وظيفي وتخضع لاعتبارات مفهومية حتى تكتسب هذه السمة، فهي في المقام الأول دور، والأدوار بطبيعتها متنوعة ومتعدّدة، وتشمل كل مشارك في العمل الروائي، سواء اضطلع بدور سلبي أو إيجابي، بشرط أن يشارك في الحدث، ومن لا دور له، ولم يشارك في الحدث فيمكن اعتباره جزءاً من الوصف، فهي على درجة من الارتباط حد الالتصاق بالحدث، ولأنها متعدّدة الوظائف والتصنيفات التي لا حصر لها، يمكن أن تكون صوت الكاتب نفسه، وليس شخصيته، فهو خالق الشخصية الأدبية لا الشخصية ذاتها،
مقابل هذه الاعتبارات المفهومية هنالك منظومة من الاعتبارات التقنية التي ينبغي الالتفات لها عند كتابة الرواية أو استقبالها، إذ لا حبكة بدون شخصية، فهي مفتاح العمل الروائي وتؤثر بقوة ليس في سير الأحداث وحسب، بل حتى في أسلوب الروائي، ولذلك ينبغي على الكاتب حين يقرر تخليق شخصية مؤثرة وفاعلة أن يتنقل في ثلاثة حقول توليدية واستقبالية، أي أن يكون الكاتب والقارئ والشخصية، لتتعدّد عنده زوايا النظر إلى الوجود والنص في آن، ويمنع بروز أي رؤية أحادية مهيمنة، فيما يسمح للبؤرة العاطفية بالموران تحت سطح النص الخارجي والالتحام العضوي بالحبكة التي تعمل كأرضية تشكيلية وتوجيهية للشخصية.
ولأن الشخصيات تتشكل بالضرورة عبر قوس عاطفي يخترق سياق الرواية ويؤطرها منذ بدايتها إلى آخر عبارة فيها، لا بد من طرح تفاصيل جسمانية ترسم الانطباع العام حول الشخصية المراد توطينها في النص، ومخاطبة عاطفة ووعي القارئ بها، وتصدير كمٍ منطقي من المعلومات التي تلمّح إلى سماتها وهواجسها وخلفيتها المعرفية والوجدانية والتاريخية والثقافية والعرقية، مع رسم صورة مظهرية تشي بسياقها الاجتماعي، سواء كان ذلك التأطير المظهري اختيارياً أو مفروضاً، لأن دقة الوصف تعطي صورة بصرية تجسيمية قوية ومؤثرة، مع ملاحظة أن الشخصية في الرواية كما في الحياة، هي قيمة متغيرة وليست ثابتة، وأن دوافعها تتعدّد وتتصاعد بموجب قوانين موضوعية.
وبما أن الرواية تهدف إلى تجسيد المعاني الإنسانية فمن الطبيعي أن تكون الشخصية هي محورها، فالرواية ليست حياة حقيقة بل حياة نصّية توازيها وتمثّلها، وبالتالي فإن الواقع يشكل المصدر الأكبر لالتقاط الشخصيات الروائية بعد عمليات التنكير والإزاحة لملامحها المتعارف عليها بحرفية وأصلانية مكافئة لمتطلبات القصة من الوجهة الأدبية، أي لأسباب فنية وموضوعية كفيلة بتقوية الرواية ومضاعفة تأثيرها وإبعادها قدر الإمكان عن آلية النسخ التسطيحي، بمعنى تمديد الشخصيات تحت لمسات الروائي المضيئة لإعادة إنتاجها وفق مقتضيات الرواية، حيث يمكن مزج شخصيتين من الواقع أو تركيب أكثر من نموذج داخل بوتقة فنية صاهرة.
على هذا الأساس يمكن أن يلتقط الروائي شخصياته، إما من أشخاص حقيقيين من محيطه الذي يعيش فيه وعلى صلة به، أو من أشخاص حقيقيين مبعثرين في الأخبار المرئية والمقروءة والمتداولة على ألسن الناس، وتحويل تلك النماذج الحياتية الحية إلى شخوص ذات طابع خيالي، ومقابل هذا القالب الواقعي هناك مرجع آخر مصدره ذات الكاتب نفسه، أي مما يختزنه هو من أفكار ورؤى وهواجس، ولكن ليس بمعنى أن تكون المعادل الفني والمعرفي للذات المبدعة، وهو مكمن له صلة أيضاً بالواقع كمرجعية، ليبقى الخيال الخالص كمصدر رابع لتخليق الشخصية الروائية، وكل مصدر من هذه المصادر له دواعيه المضمونية والجمالية التي تحدّد طبيعة الرواية المراد كتابتها.
أما بناء الشخصية فيعتمد بالدرجة الأولى على خاصية الثبات والتغيُّر، فهناك شخصيات سكونية لا تتبدل أحوالها إلا بشكل جزئي، مقابل شخصيات محورية دينامية تتغير بشكل مفاجئ من خلال امتزاجها ومحايثتها لبنية السرد، وهذا البعد هو الذي يحدث الفارق بين الشخصيات الرئيسية والشخصيات الثانوية، فالشخصية النامية أو المكثّفة تنحى للتكامل ولا تتوقف عن النمو حتى آخر لقطة في الرواية، ولذلك تبدو هذه الشخصية محط اهتمام الروائي والقارئ، حيث يتم تقديمها من خلال ثلاثة مصادر هي بمثابة كُتل كلامية بالمفهوم النقدي، أولها: ما تطرحه هذه الشخصية عن نفسها، وثانيها: ما تقدمه الشخصيات الأخرى عنها في مفاصل الرواية، وثالثها: المعلومات الضمنية التي لا يُصرح بها، ويمكن استخلاصها أو استشفافها من خلال أفعال الشخصية وسلوكها.
إن المعلومات المقدمة عن الشخصية بكل أشكالها ومن مختلف المصادر يجب أن تنطلق من أبعاد مدروسة، وتُصاغ لتلبي حاجة الشخصية، أي الكشف عن بنيتها ومستواها الفكري ونوازعها النفسية ومنطلقاتها العاطفية، والإفصاح عن طبيعة الانسجام ما بين جوانيتها وبرانيتها، وعليه، ينبغي على الروائي تقديم أبعاد الشخصية الروائية في قالب فني وبالتدريج، أي على شكل دفعات تتناسب مع المنطق وأحداث الرواية وما يمليه جوها العام، وهي الأبعاد التي يمكن اختصارها في أربعة مناحي مادية واجتماعية ونفسية وأيديولوجية.
كاتب سعودي
القدس العربي