العقدة المي زيادية/ محمد العباس
تقول كتب التاريخ العربي أن سكينة بنت الحسين هي صاحبة أول صالون ثقافي تشرف عليه امرأة بالمفهوم الثقافي المعاصر للصالون، إلا أنه لا يشكل مرجعية جاذبة للمرأة العربية في العصر الحديث مقارنة بالصالون الذي أسسته اللبنانية ماري بنت إلياس في مصر، وعُرفت باسم مي زيادة ( 1886-1941)، لا لأن الحديث عن صالون سكينة يفتقد إلى الدقة البحثية والمرجعيات الموّثقة، ولا لحساسية الاقتراب من تاريخ سيدة من آل بيت النبوة، ولكن لأنها كانت تديره عبر حاجز ديني اجتماعي ما بينها وبين الرجال، حيث كانت تخاطبهم وتستمع إلى شعرهم وآرائهم من وراء حجاب. أما مي زيادة فقد كانت تجالسهم وتتحدث إليهم وجها لوجه، فهي بمنظور هدى شعراوي (المثل الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة الراقية) بما يختزنه هذا التوصيف من دلالات الخروج على العُرف الشرقي، على الرغم من نهايتها المأساوية، حيث انتهت باضطراب عقلي أودى بها إلى المستشفى ثم الموت.
بعد إعلان موتها كتب أمين الريحاني (انطفأت مي)، وهو تعبير تراجيدي يحمل في طياته تمثيلا لها بالشمعة التنويرية، وبموجب ذلك التصعيد الذكوري صارت في ما بعد ملهمة للنساء العربيات، من خلال ملتقاها الثلاثائي، الذي كان يحضره مثقفو تلك اللحظة، إلا أن أثرها لم يضمحل إلى اليوم، ففي الوقت الذي تستعاد فيه قصة الحُبّ الشفهي الذي جمعها بجبران خليل جبران، تتردد إشارات عن عدد من الرجال الذين أحبوها بصمت وحياد وتردّد وخجل، كعباس محمود العقاد، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والشاعر ولي الدين يكن، والشاعر إسماعيل صبري وغيرهم، وهذا هو أحد أسرار الإعجاب النسائي بها، فكل امرأة تحلم بأن يكون في تاريخها طابور من الرجال ذوي المكانة والشهرة، حتى إن كان الثمن حياة العزوبية بمعناها القاتل، حيث الوحدة والعزلة والاغتراب.
يقول التاريخ أيضا إن المرأة التي تتصدى لإدارة صالون ثقافي يحتشد فيه الرجال، يشترط أن تكون جميلة إلى جانب درايتها بالثقافة، وهذا هو واقع ومواصفات سكينة بنت الحسين، صاحبة أجمل تسريحة شعر في زمانها، حيث عُرفت بـ (الجمة السكينية) وكانت تقليدا جماليا يقتدي به النساء والرجال على حد سواء، وكذلك ولادة بنت المستكفي في قرطبة، صاحبة القُبلة المشتهاة على صحن الخد، وقصة الانغرام المتبادل مع الوزير الشاعر ابن زيدون، وهذا هو مال مي زيادة الشاعرة الكاتبة، التي تحدث الرجال عن عقلها في رحلتهم الملتوية نحو جمالها، ولذلك عندما كبرت وتردّت صحتها النفسية لم تجد حولها إلا القليل من أولئك اليعاسيب، الذين طالما حاموا حولها، حيث انفضوا عنها وعن صالونها، إلى أن تهاوت التجربة وأصبحت مي خاوية بلا معجبين ولا مثقفين.
يقول شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق، إن صالون مي زيادة الذي استمر لثلاثين عاما (لا لغو فيه ولا تأثيم). وهو بهذا الوصف التبريئي إنما يصد – بوعيه ولاوعيه – أي التباسات لاثقافية في ذلك الاحتشاد عند (أديبة الجيل) حسب تعبيره. في الوقت الذي نلتقط فيه غيرة (عقّادية) من جبران خليل جبران، الذي كان يُلهب عواطفها برسائله المجردة من وراء البحار، وانزلاقات شعرية، غزلية في المقام الأول، من ولي الدين يكن، هذا بالإضافة إلى رسائل عبدالرازق نفسه التي أفصح فيها عن هواه عندما كان في باريس مستعجلا العودة إلى القاهرة (وإني أحب باريس، إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن في القاهرة ما هو أحب إليَّ من الشباب والأمل) الأمر الذي يعني أن في ذلك الصالون وخارجه ما يتجاوز الإعجاب بعقل مي إلى الافتتان بها كامرأة وأنثى.
منذ تلك الواقعة لم تتوقف المحاولات لتكرار تجربة تجميع أكبر قدر من الشعراء والفنانين والمثقفين في حضرة امرأة جميلة ومثقفة ومتحررة، لأن انتفاء وجود الجمال ينسف الفكرة من أساسها، في الوقت الذي لا تبدو فكرة الحماس لعقل المثقفة على تلك الدرجة من الأهمية، حيث يمكن تأمل مجموعة من المراودات الماثلة اليوم في المشهد بصيغ مختلفة، من خلال فصيل من النساء المصابات بما يمكن أن نسميه متلازمة مي زيادة، نساء لا ينظرن إلا إلى الجانب السحري في تجربة مي، إذ لم يحتف التاريخ العربي من تلك الحكاية إلا بجانبها المشرق، الذي يدفع أي امرأة لتمثُّل دور مي زيادة أو تمثيله، أي كامرأة أنيقة مثقــفة راقية متحررة، ينظر الرجال إليها باعجاب ويلهثون وراءها من أجل تسجيل أسمائهم في سجل صالونها.
الظرف الموضوعي لهذه الصالونات يشي برغبة النساء المؤديات لفروض الثقافة، في الإسهام بدور فعال ضد الظلامية، والتعبير عن الانعتاق في رحابة علاقة التساوي مع الرجل، ولكن الواقع لا يؤكد هذا المنحى، حيث تبدو معظم الصالونات كمجالس من أجل المسامرات واستعراض الخفة الشعورية بين الجنسين، ومرد ذلك هو وجود امرأة مصابة بالعقدة المي زيادية، فما نطالعه من أخبار وأشرطة مصوّرة لا يشير إلى وجود منهج لتلك الصالونات، ولا أي برنامج عمل ثقافي، إنما مجرد احتشاد لعدد من الرجال والنساء يؤدون دور الإسناد الوجاهي لسيدة الصالون، كما تراهن السيدة ذاتها على استجلاب أكبر قدر ممكن من مثقفي اللحظة إلى صالونها، واستثمار ذلك الحضور لتلميع صورتها كمثقفة تنويرية، أو على الأقل كصديقة للمثقفين.
الصالونات الكبيرة تأخذ مواقعها في بيروت والقاهرة لأسباب موضوعية، حيث الانفتاح الاجتماعي ووجود عدد كبير من المثقفين، وإن كانت صاحبة الصالون لا تنتمي إلى المكان الذي استولدت فيه صالونها، وهو ما يعني أنها تريد أن تمارس التنوير في فضاء طافح بالمتنورين والمتنورات، وفي المقابل توجد منظومة طويلة جدا من الصالونات الصغيرة المبعثرة في كل مكان، وتتصدى لإدارتها والإشراف عليها سيدات أقل مكانة وإمكانيات مالية، حيث يكون الرهان على تحريك الساكن بوجود مزيج بشري من النساء والرجال الذين لا يمتلكون أي حضور يذكر حتى في نطاقهم الضيق، ولذلك ينحصر إسهامهم في تكريس العقدة المي زيادية عند سيدة، تتوهم أن مجرد قدرتها على اقناع مثقفي محيطها بالدخول إلى بيتها والحديث عن الثقافة، يجعلها بشكل آلي تكتسب صفة المرأة المثقفة الراقية المتنورة.
يمكن للمرأة أن تكون ملهمة وفاعلة من دون أن تؤسس أو تحضر أي صالون ثقافي، إنما من خلال منجزها الإبداعي، وعبر كفاءتها كذات مبدعة، والتاريخ الثقافي يشهد على إبداعات نسائية فردية لافتة، بمعزل عن همهمة الصالونات، كما يشهد أيضا على أن سيدة الصالون لن تخرج من كل ذلك الجهد المالي والعصبي والعاطفي والذهني إلا بصفة صديقة المثقفين، أو محبوبة المثقف الفلاني، وكذلك يشهد على وجود نساء أسهمن بقوة في دعم المبدعين الشباب ماديا ومعنويا، وأداء دور الأم الثقافية بامتياز، ولم تراودهن في يوم من الأيام أن يتلبّسن دور مي زيادة، بمعنى أن هذه العقدة لا تتمكن إلا من المرأة التي ما زالت تراقب صورتها في مرآة مي زيادة، لأنها لا تصاحب إلا ذلك الصنف من البشر المنذور لتعميق عزلتها في مدار حشد مؤقت، ينتهي حضوره بانتهاء المصلحة والمنفعة وانتفاء الحاجة.
كاتب سعودي
القدس العربي