العقل والثورة: المعادلة الصعبة
سعيد ناشيد
كثير من الثوريين ليسوا عقلانيين تماماً، وكثير من العقلانيين ليسوا ثوريين كما ينبغي. فهل بوسعنا أن نعيد بناء معادلة جديدة بحيث نكون ثوريين وعقلانيين في الآن نفسه؟ هل نستطيع أن نؤلف بين الحماسة والحكمة، وبذلك نحمي العاطفة من التهور والعقل من التحجر؟
للسؤال مبرران، أولهما نظري صرف، والثاني عملي إجرائي.
يكمن المبرر الأول في أن معظم العقلانيين البارزين عبر التاريخ، منذ أفلاطون والفارابي مرورا بكانط وهيغل، لم يكونوا من أنصار الثورات الشعبية، وهذا بصرف النظر عن حماسة هذين الأخيرين للقيم النظرية للثورة الفرنسية. وفي المقابل فإن الكثير من الثوريين البارزين عبر التاريخ، من سبارتاكوس والخوارج إلى الألوية الحمراء، لم يكونوا عقلانيين بالضرورة، بل كان أكثرهم من المعادين للعقلانية.
ويكمن المبرر الثاني للسؤال، في أن الحالة العربية اليوم تتميز بالانقطاع الحاصل بين أغلب المفكرين العقلانيين، والذين هم عقل الأمة أو ما تبقى من عقلها، وبين الكثير من شباب الثورات العربية، والذين هم الطاقة الحيوية للأمة، أو ما انبثق من حيويتها. لعله انقطاع يتحمل مسؤوليته الطرفان معاً ويلقي بثقله على مستقبل العلاقة بينهما وقد يؤثر على مصير الثورات العربية نفسها.
وبكل وضوح وجلاء، فإن من شأن هذا الانقطاع أن يؤثر على مستقبل العلاقة بين المشروع العقلاني من جهة ومسارات الممارسة الثورية من جهة ثانية.
والسؤال الآن: هل بوسعنا أن نتوسم في ثورات الشارع العربي اليوم أن تنجز مهمة المصالحة الصعبة بين منطق العقل وروح الثورة؟
أمامنا معادلة معقدة؛ ذلك لأن العقل يميل بطبعه إلى منطق النظام والقانون والدولة. في الوقت الذي تقوض فيه الثورة منطق النظام بدعوى التغيير، وتواجه منطق القانون بمطلب الحق، وتجابه منطق الأمن بمطلب الحرية.
ومع ذلك لا يمكننا أن نتجاهل بأن تدمير النظام قد يوصلنا، في بعض الأحيان، إلى الفوضى بدل التغيير. وقد ينتهي الخروج عن القانون إلى تدمير الحق بدل إقراره. وقد ينتهي اختفاء الأمن إلى زوال مظاهر الحرية أيضاً.
إلا أن تحجر النظام أمام الحاجة إلى التغيير، وهي حاجة ترقى إلى مستوى الحق، قد ينتهي إلى انهيار النظام. وحين يتصلب القانون وينغلق أمام رياح التغيير فقد يخسر مشروعيته. وقد ينتهي الإفراط في الأمن إلى التفريط الكامل في الحرية.
نحتاج إلى مجهود إضافي يهدف إلى عقلنة الثورة من دون وصاية قد تحرمها من شرط الحماسة، ونحتاج في المقابل إلى تثوير العقل من دون تهور قد يحرمه من شرط الحكمة، أملا في بلوغ أنظمة سياسية ومعرفية وإدارية وحقوقية تتميز بالمرونة والانفتاح، وبنحو يجعلها تلائم مطلب التغيير السلمي والدائم، من غير إخلال بالنظام العام. ذلك لأن مطلب التغيير السلمي والدائم سيظل منذ الآن مطلباً ملازماً للحالة العربية وعلى امتداد السنوات المقبلة.
هذا القلق الكبير الذي نشعر به، وهذا التوتر الذي يقضّ مضجع شعوبنا بعد طول جمود وسبات عميق، إنما يدل على شيء واحد: لقد دخلنا فجأة إلى التاريخ، بكل مآثره وتوتراته.
ربما كانت عملية الدخول إلى التاريخ تقتضي منا الكثير من الحماسة وروح المغامرة والاندفاع، وهو ما كان ينقص أجيال النكسة والهزيمة. أما وقد أوجدنا لنا موقعا في التاريخ، فسنحتاج إلى صوت العقل أيضاً.
([) كاتب من المغرب
السفير