الفرعونة والأباطرة/ صبحي حديدي
الشهرية البريطانية History Revealed، المتخصصة في التاريخ، ولكن بأسلوب المواضيع المصوّرة التي تستهدف تقديم معرفة تاريخية ميسرة وغير أكاديمية؛ افتتحت العام 2016 بملفّ غنيّ عن فراعنة مصر، وفقاً لتصانيف تراعي وظائفهم النمطية التي تبدّوا فيها، وتميزوا بسببها، وليس سِيَرهم الشخصية فقط. ثمة الفرعون/ الشخصية العامة، الذي اقترن حضوره بشؤون الحياة اليومية؛ والفرعون/ السياسي، الذي لعب أدواراً حيوية في صناعة تاريخ مصر القديمة؛ والفرعون نصف الآدمي/ نصف الإله، الذي غلبت مكانته الدينية على مقامه الحاكمي؛ والفرعون/ المعماري، الذي اختار تشييد صروح كبرى خلّدت ذكر الفراعنة إلى الأبد…
وقد ختمت الشهرية بـ«الفرعونة الأخيرة»: تلك «الملكة الأفريقية، الذكية، والداهية، والفاتنة، كليوباترا السابعة. امرأة الفتنة القصوى التي لا تُقاوَم، والتي انطوى سعيها اليائس إلى السلطة على الغراميات، وجرائم القتل، والحرب…»؛ كما شاء التحرير وصفها على غلاف القسم الخاصّ بها. حكايتها تُروى، كما اتفقت المصادر الغربية على خطوطها الرئيسية، فيستعرض الملفّ دورها في حكم مصر، ثمّ صراعها مع أباطرة روما وجنرالاتها، من يوليوس قيصر إلى مارك أنتوني، ومن بطليموس الثالث عشر إلى أرسينوي الرابع. وثمة عشرات الصور التي تغني المادّة، بعضها أركيولوجي، وبعضها رسومات متخيلة، وثالثها من الأفلام السينمائية العديدة التي أُنتجت حول الموضوع الكليوباتري.
وكما في كلّ مرّة، مع استثناءات قليلة ونادرة، لا تغادر تغطيات كليوباترا تلك النطاقات الاستشراقية التي حُبست فيها ابتداءّ، ثمّ مرّة وإلى الأبد: على الغلاف تظهر الملكة المصرية أقرب، فعلاً، إلى امرأة من الصعيد، نوبية، أو حبشية؛ ولكن القارىء يراها، في اللوحات والرسوم والصور التي ترافق الموادّ التالية، مرّة تشبه نساء أوروبا الغربية (في لوحة الهولندي ـ البريطاني لورنس ألما ـ تاديما)؛ ومرّة على شاكلة مريم المجدلية (في أعمال غيدو ريني، الذي شاء التقاطها وهي تبدي الندم والتوبة)؛ ومراراً في وجوه ممثلات العصر، وهذه حكاية نسيج وحدها من حيث رداءة التمثيل الثقافي للآخر، وللتاريخ أيضاً وقبلئذ.
الأشهر، ربما، شريط هوليود الذي أخرجه جوزيف مانكفيتش، وبطولة إليزابيث تايلور. قبله، سنة 1945، ذهب غبرييل باسكال إلى نصّ جورج برنارد شو، وليس وليم شكسبير، وأسند دور كليوباترا إلى فيفيان لي. قبلهما، ظهرت ملكة مصر في دور فاسقة قاتلة (تمثيل كلارا باو)، وماجنة شريرة انتهازية (كلوديت كولبرغ)، وبغيّ في إهاب ملكة (روندا فلمنغ)؛ فضلاً عن صوفيا لورين في بدء صعودها، وليلي لانغتري، وسارة برنار، ثمّ ليونورا غاريلا ومونيكا بيلوشي أخيراً، وليس آخراً. قبل الجميع، كان لا بدّ من تمثيل كليوباترا في صورة مصاصة دماء الرجال، الفيلم الصامت الذي أنتجته شركة فوكس سنة 1917 ولعبت فيه دور البطولة ثيوديشيا غودمان، التي اتخذت لنفسها اسم Theda Bara، الجناس الذي إذا قُلبت حروفه فإنه سيشكل بالإنكليزية عبارة «الموت العربي»، مع تصرّف طفيف في تبديل موقع حرف واحد. والتأويل هذا ليس من عندنا، لمن يهمّه الأمر، بل هو راسخ في المعاجم والموسوعات الغربية.
وهكذا فإنّ ملف الشهرية البريطانية لم يفلح في الخروج عن التنميط الشائع، ليس لعجز في قدرات التحرير، أو لأنّ المادّة المنصفة غير متوفرة (هنا أشير، خصوصاً، إلى عمل ماريا وايك «عشيقة الرومان: تمثيلات عتيقة وحديثة»)؛ ولكنّ، ببساطة، لأنّ المخيال الغربي لا يحبّ إخراج كليوباترا من سلسلة الصور التي أدمن على حبسها فيها. يتوجب أن تبقى أقرب ما يكون إلى ذلك الوصف الذي أطلقه الشاعر الفرنسي الرومانتيكي تيوفيل غوتييه سنة 1845: «لم تنجب الأرحام امرأة أكثر كمالاً… إنها أكثر النساء امتلاكاً للمعنى النسوي، وأكثر الملكات تجسيداً لمعنى أن تكون المرأة ملكة. إنها جديرة بتمعّن عميق، فهي المرأة التي عجز الشعراء عن إضافة جديد على ماهيتها، وهي التي يلاقيها الحالمون في النقطة القصوى من أحلامهم». يتوجب، أيضاً، أن تظلّ لصيقة وصف الكاتب والشاعر الإيطالي جيوفاني بوكاشيو؛ الذي قال، في أواسط القرن الرابع عشر، إنّ جسد كليوباترا «اكتسب نعومته من لذائذ كبرى، واعتاد على أرقّ الاحتضان، فكان طبيعياً أن يعانقها في النهاية ثعبان قاتل»!
«بين جميع شخصيات التاريخ، المخادعة والجذابة والخالدة، لعل كليوباترا هي الأشدّ فتنة. جمالها أسطوري، مثل مكرها وسلطتها، ولكن ما الذي نعرفه عنها فعلياً؟»؛ يتساءل بول ماكغنيس، رئيس تحرير History Revealed، بحقّ. لكنه، مع ذلك، لا يقترح معرفة تنجو من عقدة الملكة المصرية الساحرة؛ فيختم الملفّ بالكوبرا التي تُنهي حياة «حسناء الزمان»، حسب تعبير الشاعر المصري علي محمود طه، ثمّ تختم أمجاد الفراعنة، لكي… تدشّن سموّ روما الإمبراطورية!
القدس العربي